الطريق إلى النهضة العربية
جديرٌ بالمفكّرين والمثقّفين والإعلاميين العرب أن يعنوا الآن بالتفكير في كيفية وضع “مشروع نهضوي عربي مشترَك” لا بالتّحليل السياسي للواقع الراهن فقط .. فالملاحَظ هذه الأيام أنّه يكثر المحلّلون السياسيون لحاضر الأمَّة، ويكثر أيضًا “الحركيون” القابعون في ماضي هذه الأمّة، لكن عدد المُعدّين لمستقبلٍ أفضل لهذه الأمّة يكاد يتضاءل.. علماً بأنَّ الأمّة التي لا يفكّر أبناؤها لمستقبلها تنقاد لما يفكّره لها الغرباء.. وهاهم الآن في عقر دارنا!. إنَّ بعض العرب يؤرّخون لعصر الهزائم الذي تعيشه الأمّة العربية بالنظر حصرًا إلى النصف الأخير من القرن الماضي مع تاريخ هزيمة عام 1948 ونشوء “دولة إسرائيل”، وكأنّه عصر الانحطاط الذي استتبع العصر الذهبي للعرب!.. فهل هذا صحيحٌ تاريخيًّا؟ وماذا عن النصف الأول من القرن العشرين وما جرى فيه أيضًا من سلبياتٍ فرضت نفسها على الأمّة العربية كلّها: ضعف الدولة العثمانية الحاكمة وسوء سياساتها وإدارتها ونموّ التيّار التتريكي فيها – الاستعمار الأوروبي الذي ورث الهيمنة العثمانية على العرب باسم الانتداب – تجزئة المنطقة العربية إلى دولٍ متنازعة على الحدود، وإقامة أنظمة فئوية تابعة للغرب وتسهيل تنفيذ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.. ولا ننسى أيضًا أنّ الأوروبي “الديمقراطي” قد حكم معظم البلاد العربية في النصف الأول من القرن العشرين بأسلوب الحكم المباشر وبصلاحيات مطلقة وبتغطية دولية (باسم الانتداب)، فلِمَ لم يُقِم هذا “الديمقراطي” الأوروبي مؤسّسات سياسية ديمقراطية في البلاد التي حكمها، ولِمَ حافظ (بل وشجّع) على الصراعات الداخلية في كلّ بلد وأبقى اقتصاديات هذه البلاد في أقصى حالات التخلّف حتّى يسهل عليه سرقة ثرواتها؟! صحيحٌ أنّ الأوضاع السائدة في معظم البلدان النامية المعروفة باسم “دول العالم الثالث”، هي شبيهة بحال المنطقة العربية، كذلك بالنسبة إلى حجم التحدّيات فيها والأطماع الخارجية بها، إلّا أن المنطقة العربية تتميّز عن غيرها من تلك الدول في مسألتين اثنتين: الأولى – خصوصيات المنطقة العربية التي تشكّل جغرافيًّا أهمّ موقعٍ استراتيجي في العالم من حيث انتشارها على مداخل قارّتيْ آسيا وأفريقيا ومجاورتها لمعظم القارّة الأوروبية. والمنطقة العربية أيضًا هي أرض الثروات الطبيعية ومصادر الطاقة الدولية وأهمّها النفط الذي يعتمد عليه الاقتصاد العالمي منذ عقودٍ طويلة. كذلك، فإنَّ المنطقة العربية هي أرض الرسالات السماوية ومهبط الرسل وموقع الأماكن المقدّسة لكلّ الطوائف الدينية السماوية. إذن، فإنّ التحكّم والسيطرة على المنطقة العربية من قبل أيّة جهةٍ خارجية يعني تحكّمًا وسيطرةً على موقعٍ استراتيجي هام، وعلى أهمّ مصادر الثروات الطبيعية، وعلى مواقع ومراكز مرجعياتٍ دينية هامّة. أمّا المسألة الثانية التي تميّز المنطقة العربية عن باقي الدول النامية، فهي أنّ الخارج يتعامل مع هذه المنطقة كوحدةٍ متكاملة مستهدفة، وفي إطار خطّة استراتيجية واحدة لأجزاء المنطقة كلّها، بينما يتوزّع أبناء هذه المنطقة على أكثر من عشرين دولة وفق ترتيباتٍ دولية بين القوى الأوروبية الكبرى في مطلع القرن العشرين، بحيث غدت الدول العربية في هيأتها الحالية الآن أمرًا واقعًا يزداد بعضها تفكّكًا يومًا إثر يوم!. ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، وما زال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادية والبشرية) وإلى صعوبة تأمين قوّة عربية فاعلة لمواجهة التحدّيات الخارجية أو للقيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضًا لوجود عجزٍ أمني ذاتي لا يستطيع التعامل مع ما يطرأ من أزماتٍ وصراعات داخل المنطقة ممّا يبرّر بنظر البعض الاستعانة بقوًى أمنية خارجية قادرة على حلّ هذه الصراعات .. حصل هذا الأمر إلى حدٍّ ما في أوروبا الغربية، خلال حقبة التسعينات، التي اضطرّت دولها للاستعانة بالولايات المتّحدة الأميركية لمعالجة تداعيات الحرب اليوغسلافية بعد أن عجزت حكوماتها عن وقف هذه الحرب على أرضها، إذ رغم القوّة العسكرية الخاصّة لكلّ بلد في أوروبا الغربية، ورغم ما بينها من صيغ للتعاون الأوروبي، إلا أنّها افتقدت الأداة العسكرية المشتركة والإرادة السياسية الواحدة فاضطرّت إلى اللجوء لواشنطن لطلب المساعدة. لذلك نرى اليوم أنّ بعض دول الاتّحاد الأوروبي (فرنسا وألمانيا) تعمل على بناء قوّة عسكرية مشتركة كنواة لجيش أوروبي واحد، كما تعمل هذه الدول أيضًا على تطوير صيغة الاتّحاد الأوروبي لكي يكون له فعلًا سياسة خارجية واحدة. فلِمَ أدركت دول أوروبا الغربية ذلك، رغم ما هي عليه من تباين عرقي وثقافي واجتماعي ومن تاريخٍ مليء بالحروب والصراعات الدموية، ولم يدرك بعدُ العرب من جانبهم ذلك؟! لِمَ نجحت هذه الدول الأوروبية في تطوير صيغ التعاون فيما بينها على مدار العقود الماضية، بينما عجزت جامعة الدولة العربية عن فعل ذلك رغم العمر الزمني المشترك بين هاتين التجربتين؟! ألا يؤكّد هذا أنّ المشكلة هي في انعدام القرار السياسي أو في سوء استخدام هذا القرار، لا بتوفّر الظروف المناسبة أو الإمكانات المتاحة؟!. ولا أعلم لِمَ تراود ذهني صورةٌ أتخيّل فيها العرب كلّهم أشبه بمساجين في معتقل كبير، ومدراء السجن الأجانب ووكالاؤهم الضبّاط المحلّيون يتركون للسجّانين “حرّية الحركة” في التعامل مع المسجونين في زنزاناتٍ متفاوتة الدرجة والخدمات .. في هذا السجن الكبير، يتصارع بعض المعتقلين مع أنفسهم على مقدار المساحة المخصّصة لهم في كلّ زنزانة، ويشتبك آخرون مع بعضهم البعض فقط لأنّهم عاجزون عن صبّ غضبهم مباشرةً على ضابط السجن أو حتّى على السجّان الأجير نفسه! وكما في السجون العادية، كذلك في صورة هذا “السجن العربي” الكبير، يفرز المعتقلون أنفسهم إلى مجموعات يتزعّم كلٌّ منها الأشدّ عنفًا، وتكون معايير الفرز أحيانًا إثنية أو دينية أو ثقافية أو اجتماعية، أو ربّما مجرّد مصالح نفعية مشتركة!. لكن أخطر ما في صورة هذا “السجن العربي الكبير” هو دور مدير السجن في تشويه أجساد وقيم المعتقَلين. هكذا هو حال الأمّة العربية اليوم وما فيها من انشدادٍ كبير إلى صراعاتٍ داخلية قائمة، وإلى مشاريع حروب إقليمية قاتمة، في ظلّ هيمنةٍ أجنبية على مصائر البلاد العربية واستغلالٍ إسرائيلي كبير لهذه الصراعات والحروب. وضحايا هذه الصراعات العربية ليسوا فقط من البشر والحجر في الأوطان، بل الكثير أيضًا من القيم والمفاهيم والأفكار والشعارات. فالدين والطائفة والمذهب، كلّها تسمياتٌ أصبحت من الأسلحة الفتّاكة المستخدَمة في هذه الصراعات. كذلك العروبة والوطنية، فهما الآن أيضًا موضع تفكيكٍ وتفريغ من أيّ معنًى جامع أو توحيدي، في الوقت نفسه الذي يتمّ استخدامهما لصراعاتٍ مع جوار عربي أو إسلامي!. والحرّية والديمقراطية أصبحتا مطلبين يتناقضان الآن، فالنماذج الديمقراطية المعروضة، أو المفروضة، تقوم على قبولٍ بالاحتلال أو بالوصاية الأجنبية على الأوطان من أجل الحصول على آلياتٍ ديمقراطية في الحكم!. أمّا المقاومة ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، فقد أصبحت “مذهبًا” لدى الرافضين لها، فإذا كنت تتحدّث عن ضرورة مقاومة إسرائيل، فأنت “فارسي” أو “متشيّع” حتّى لو كنتَ من المسيحيين العرب أو من سكّان قطاع غزة!. التشويه يحصل أيضًا للصراعات الحقيقية في الماضي والحاضر، وللأهداف المرجوّة في المستقبل، ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يعد واضحًا من هو العدوّ ومن هو الصديق، وفي أيِّ قضيةٍ أو معركة، ولصالح من؟!. إنّ الخروج من هذا السجن العربي الكبير يتطلّب أولًا كسر القيود الدامية للشعوب، وفكّ أسر الإرادة العربية من الهيمنة الخارجية، الإقليمية والدولية، وتحرير العقول العربية من تسلّط الغرائز والموروثات الخاطئة. إنّ الطريق إلى النهضة العربية يتطلّب بداية ضرورة التشجيع على الحياة الديمقراطيّة السليمة في كلّ البلاد العربيّة، كما تتطلّب الديمقراطية المنشودة نفسها التمييز بين أهمّية دور الدين في المجتمع وفي الحياة العامّة، وبين عدم الزجّ به في اختيار الحكومات والحاكمين وأنظمة الحكم وأعمال الدولة ومؤسّساتها. أيضًا، النهضة العربيّة المرجوّة تعني القناعة بوجود هويّة عربيّة حضاريّة مشتركة بين البلاد العربيّة، وبأنّ تحقيق النهضة يستوجب الضغط على كل المستويات الرسميّة العربيّة من أجل تحقيق التكامل العربي والسير في خطوات الاتّحاد التدريجي بين الدول العربيّة. كذلك، فإنّ النهضة العربيّة تعني بالضرورة انتقالًا من حال التخلّف والفساد والفقر والأميّة إلى بناء مجتمع العدل وتكافؤ الفرص والتقدّم العلمي. مجتمع تشارك فيه المرأة العربيّة بشكلٍ فعّال في مختلف أوجه الحياة السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة. فالنهضة العربية للأمّة وللأوطان العربية لن تتحقّق بالتخلّي عن هدف التعاون والتكامل الاتحادي الذي يحافظ على الخصوصيات الوطنية لكلّ بلدٍ عربي (كما في التجربة الأوروبية)، بل الطريق للنهضة هو في إصلاح الإعطاب بالجسم السياسي العربي الحاكم والمعارض، وفي مؤسّسات الإدارة وفي هيئات التخطيط والتشريع والرقابة، وبضرورة الإصرار على الهدف مهما تنوّعت الأساليب وتعدّدت الأخطاء. ونجد في محطات القرن الماضي قيادات عربية شريفة كانت مخلصة لأوطانها ولأهدافها، لكن كانت مشكلتها في طبيعة المؤسّسات التي تقودها، أو نجد العكس أحيانًا حيث كان سوء القيادات، أو انحراف بعضٍ منها، قد أدّى إلى ضعف وانحراف سياسات الدول أو المؤسّسات التي كانت تقودها. فمصر عبد الناصر كانت مثالًا على النموذج الأول من القيادة الشريفة الساعية لأهداف نبيلة وعظيمة لكن مع تعثّر في بناء المؤسّسات السليمة، بينما مصر السادات وما بعده كانت مثالًا للنموذج الآخر عن سوء القيادة والهدف والأسلوب معًا. كذلك كانت هذه النماذج المتباينة في مسيرة “منظّمة التحرير الفلسطينية” والعديد من الحركات الوطنية العربية في مشرق الأمّة ومغربها!. اليوم، تعيش الأمّة العربية أوضاعًا مشابهة لما كانت عليه منذ مائة عام، وهي تدخل مرحلة شبيهة بما حصل عقب الحرب العالمية الأولى من دخول عدّة بلدان عربية في مرحلة “الانتداب” الدولي!. أيضًا، تتكرّر اليوم أخطاء مطلع القرن الماضي، من حيث التوافق العربي على وصف الحاضر لكن مع عدم الاتفاق على مشروعٍ عربيٍّ مشترَك للمستقبل. فجماعات الفكر والثقافة والدعوة التي عايشت تلك الفترة، راح بعضها يدافع عن “التحديث الأوروبي” القادم للمنطقة، بينما راح بعضها الآخر يبرّر سلبيات الحقبة العثمانية ويعيش حلم يقظة بالعودة إليها وإلى “الخلافة الإسلامية”!. قلّة قليلة فقط هي التي خرجت تواجه المأزقين: مأزق الماضي العثماني ومأزق الحاضر الاستعماري الأوروبي. قلّة طالبت بإصلاح الفكر والذات العربية والإسلامية كمدخل وحيد لبناء مستقبلٍ أفضل. وروّاد هذه القلة اشتركوا جميعًا في دعوتهم لمواجهة مشكلة الاستبداد المعشّشة في الأفراد والجماعات، وطالبوا بتحرير الفكر من القوالب الجامدة وباعتماد مرجعية العقل في فهم أمور الدنيا والفقه معًا. هؤلاء وغيرهم طالبوا أيضًا بالتخلّص من العادات والتقاليد الخاطئة التي حرمت المرأة من حقوقها المدنية والاجتماعية. لكن فكر هذه الثلّة من الإصلاحيين العرب والمسلمين بقي أسير الكتب ولم يتحوّل إلى حركة تغيير شعبية شاملة، فبقي المجتمع العربي أسير التطرّف نحو التحديث الغربي أو التطرّف في العودة إلى الماضي السلفي!. حال العرب اليوم شبيه بحالهم قبل قرنٍ من الزمن، مع غياب فكر إصلاحي شامل وحركة نهضوية فاعلة. ولعلّ أبرز السمات المطلوبة في أي “مشروع نهضوي عربي مشترك” ضرورة تبنّي الخلاصات التي أدركها الأوروبيون عقب الحرب العالمية الثانية وبدأوا معها ومن خلالها مسيرة الاتّحاد الديمقراطي الأوروبي.