حافلة تعمل بالدخان
حافلة تعمل بالدخان
يعد محيي الدين جرمة من أهم أصوات قصيدة النثر اليمنية من جيل التسعينيات، صدرت له حديثا طبعة ثانية من مجموعته الشعرية “حافلة تعمل بالدخان والأغاني الرديئة” على “كيندل أمازون” بغلاف من تصميم الفنان الليبي محمد بن منصور.
يمنح الشاعر كلماته بهجةً في لحظة خلق شعري اندلعت من الصفر، فهو وإن كان في ذروة انكساراته ونالت منه الهزائم وتعثرت به الدروب، وسخرت منه الأرصفة متشردا ومتأملا وناسكا في الصمت، يمنح كل ما حوله حركية ويدمغه بشاعرية في سياق استنطاقه لكل راكد وثابت: “أشتمّ صمتا في البياض/ فتشمس حواس الطريق/ وتزهر الكثافة/ كبهجة بلا عيد/ بالضرورة”.
وعلى من يقترب من عوالم الشاعر جرمة، أن يكون مزودا بطاقة استنطاق الأشياء، إذ يستحيل كل شيء إلى نغمة شعر، حتى لو كانت “حافلة مهترئة” نال منها العمل اليومي ويطلع الدخان من كل جنباتها وتصدح من نوافذها أغنيات صاخبة لا تناسب بالضرورة أي ذائقة، لكن الشاعر يبتكر عنوانا غاية في الشاعرية لمجموعته التي حملت العنوان: “حافلة تعمل بالدخان والأغاني الرديئة”، فثمة قدرة على تحويل الرداءة إلى معنى يفيض شاعريةً.
في المجمل، تتسم المجموعة بكتابة مجازية تلامس وجدان قارئها في حين تحيله على فضاءات لانهائية التوقع، إذ تأتي النصوص مليئة بالخفة والاقتصاد ومكتملة بالمعنى الذي لا يجيء في صيغة محتشدة مبعثرة.
وبينما تتداعى النصوص، يمسك الشاعر بطرف خيط تاركا لقارئه عدة أطراف لا مرئية من خيط ينز عشقا وشاعرية كتبته يد في لحظة اختراق لكل ما هو مألوف وعادي، حيث يتلاعب الشاعر بالكلمات مثل لاعب يخرج منتصرا في كل مباراة شطرنج يخوضها.
كتابة رشيقة ومباغتة
القدرة على قلب الأمور والعوالم لحساب كتابة مخاتلة لا يمكن لأحد -بمجرد أن يشرع بقراءة مقطع واحد من المقاطع التي تنبني في سياقها النصوص- أن ينجز توقعا ممكنا لما سيؤول إليه المنتهى الشعري في مقطع صغير قد يكون مؤلفًا من 8 كلمات فقط: (تتأملني نظرة العالم/ لينام الربيع/ بعد فائض صحو).
هنا يتحول الشاعر إلى عالم تخلق للتو، في موازاة عالم كنا نعيش بين جنباته وعلى جغرافيته الواسعة، لكنه صار صغيرا قزما يحاول استكشاف عوالم في أقصى عزلاته وفتوحاته الشعرية، عبر نظرات تأملية، من بعد فائض دهشة ونضارة وجمال.
على امتداد 100 صفحة من القطع الوسط، ينقل الشاعر قارئه من عالم الرتابة وحياة موبوءة بالتكرار الممل، إلى فضاء شعري خاطف ومباغت، برشاقة عصفور في فتوته يطير بين حدائق مشمش.
وبشكل لافت، تحضر لعبة المفارقات الشعرية المربكة والجميلة الناجمة عن ضربة شمس لم تكن ساخنة، وهنا الحيرة: “أنا طعنة شموس باردة/ في قلب حجر رهيف/ قطرة هواء/ تلامس طبيعة ورقتها/ في مكان خال من المكان”.
وفي نصوص جرمة كذلك، ثمة ما يمكن أن نقول عنه “شعرنة الأشياء” وطبعها بالخفة والجمال حتى ولو كانت صخرا، فالحجر المعروف بصلابته له قلب رهيف يحب ويعشق ويحزن ويفرح، طعنته “ضربة شمس” لكنها كانت “بردًا وسلامًا”، وثمة “قطرة هواء” نبتت من مخيلة الشاعر لتزرع في الطبيعة، بل ورقة ساقطة من شجرة في مكان لا نراه ليس إلا في الخيال البعيد.
أقرأ أيضا:رحلة الألف والمئة والستين عامًا..الإمام المرتضى (278- 310هجرية)
الجزيرة نت صدام أبو مازن