بجاش في حافة إسحاق
بجاش في حافة إسحاق
فيصل علي
كتاب حافة إسحاق للأستاذ عبدالرحمن بجاش
من بداية الدهشة إلى منتهى الطريق في الرحلة الأولى، من الكدرة إلى تعز، من القرية إلى المدينة، من الجبل إلى الحافة، من المعلامة إلى المدرسة، من الشواجب إلى السوق، إلى هناك حيث تختلف اللهجة والملبس ووسائل النقل، من مساءات القمر والنجوم وكتلي القهوة، إلى مساءات المقهى، والرشفة الأولى للقهوة بدون سكر والدواوين المكتظة بالمقيلين، يطوف بنا العم بجاش في “حافة إسحاق” الكتاب الذي وقع تحت يدي حين صدوره ولم أكتب عنه انتظاراً لساعة خالية لا تأتي إلا بشروط لا وقت ولا متسع لذكرها الآن.
كان لزاماً على حافة إسحاق في مدينة تعز أن تستبشر بمقدم العاشق الذي مازال يصورها حكاية ونبض قلب، وأغنية، وذكريات ينقلها لكل من يعرفه ويقرأ له، أما من يستمع له وجهاً لوجه يدرك للوهلة الأولى أن بجاش كتلة من الحب لو وُزعت على اليمن لوسعتها، لا أعني هنا باليمن التي تعرفون، بل اليمن التي في مخيلتي أنا، والتي شكلها التاريخ قديمه وحديثه ومستقبله بكل متناقضات أحداثه التي وقعت ومازالت، وتلك التي لم تقع بعد.
بجاش موسوعة اليمن الجمهوري، لا يتسع مقال ولا كتاب للتعريف به وبما يحمله من شوق للمكان، للقرى، للمدن، للسواحل، للإنسان، للزرع لأغاني الرعاة، لطابور الصباح لليمن الكبير. بجاش التعزي الجديد الذي يروى البدايات عن كل شيء رأه، ينقلنا إلى عوالم حافة إسحاق وتعز بداية العصر الجمهوري، هناك في تعز اعتلى كرسي الحلاق لأول مرة، ورأى بقايا الجدري على وجهه، وشعر بمقص أول حلاق يسرح ويجز شعره المجعد، وتخلص من قصات الشعر في القرية، حيث ترسم الخرائط على الرأس، إذا أن الحلاقة في القرية ليست سوى قص الشعر بدون مشط وبدون تسوية.
يصف الحارة بيت بيت زقاق زقاق؛ المحلات، السكان، المساجد، المقاهي، ومخازن الحبوب، وكل هذا طبيعي لو أنه كتب الكتاب في 1962، لكنه كتبه في 2019، ويحكي الآن حكايات الماضي بدهشة شاهِد رأي الإسفلت لأول مرة في حياته. ستون عاماً مرت وبجاش محتفظٌ بذكرياته لكم، للأجيال الحالية والقادمة، سطر البساطة والحب والتاريخ المعاصر بكل سلاسة وعمق الكاتب المحترف.
وعلى غرار صاحب البلاد الذي استفتح رسالته لوالده المغترب بـ “الأخ أباه” كتب بجاش رسالته الأولى إلى عمه في صنعاء مطلعها “الأخ عبد الحبيب” أيضاً على غرار رسائل والده لأخيه، وهنا يذكر تبكيت والده له “لا أحد يخاطب عمه بالأخ”، ولأنه لا يريد إكمال الحديث المزعج هنا يترك للقارئ تخيل بقية الحوار. ينتقل الكاتب إلى نقطة أخرى ليصف شارع 26 سبتمبر بكل تفاصيله، وفي غُب ذكرياته يروي ببساطة كيف تزوج والده زوجته الثانية، وعندما أخبروه أن والده فعلها، أجاب بكل عفوية “أحسن لأجل تنش معنا الجراد!” إجابة غير متوقعة، إنها برجماتية الفلاح الذي يحتاج إلى كثرة الأيدي العاملة في الأرض، وأحياناً لمناوشة الجراد في السماء.
قرأتُ لكُتاب يكتبون بحميمية في بعض المشاهد، لكن صاحبنا سرد الحافة كلها بحميمية، ربما كتبها بردة فعل الحنين إلى الماضي أو ما يسمى بـ “النوستالجيا”، ولديه كل الحق في استدعاء الماضي، فاليمن في 2019 ليس فيها ما يستحق الكتابة، في 1962 هناك تحققت المعجزة، كُسرت قيود السجان انتكس الكهنوت، رُفعت راية الجمهورية، وسمعت اليمن صوت جمال عبد الناصر، وعبر صوت أحمد سعيد الأثير ليصل إلى اليمن السعيد، تنفست اليمن الصعداء، وعرف الناس الموسيقى واتضح لهم معنى الوطن.
لا عليك يا أستاذ إذا غالبك الحنين لبدايات العصر الجمهوري، وأنت من غسلت الجمهورية بقلمك من خلال عملك الصحفي خلال رحلة حياتك المليئة بالتحديات، عديمو الخيال وحدهم من لا يحنون للجمهورية والثورة، ويرون أيامهم كلها سواء.
في بدايات عملي الصحفي لم أشعر بأحد يقدس الجمهورية والثورة كبجاش الأستاذ المدير والعم والمعلم الذي يُريك الطريق إلى حب الوطن والتفاني في العمل، الرجل يتذكر طلاب الأحمدية بالاسم، ويذكر أدوارهم في الثورة والجمهورية، لا يفرق بين حبه لشارع 26 سبتمبر في تعز، وشارع علي عبد المغني في صنعاء، يتذكر بالضبط كيف كافح اليمنيون الجهل والتخلف واتجهوا للتعليم، كيف قهروا الخرافة والتنجيم وتعلموا القراءة والرياضيات، كيف كان الناس يُجلون طلبة العلم الجدد، لا أحد يستطيع أن يروي تلك اللحظات اليمانية الفارقة مثل الأستاذ بجاش.
العيد الأول في تعز للقروي المغترب عن قريته، أو للتعزي الجديد سيكون بدون فتة وطماش وبرع وطاسة، هكذا يُصور لنا صاحب حافة إسحاق مخاوف القروي في عامه الأول بعيداً عن جدته وعمته وكرنفال العيد في القرية، وأنت تقرأ في هذه النقطة بالتحديد سترقص ثالث ثالثة في بيت الشيخ قاسم بجاش الجد وستلوي الدرج راقصاً صعوداً ونزولاً مع قروي أخذ حقه في البرعة قبل العيد بيوم، عندما أدرك أنه لن يقضي العيد بقرية الكدرة.
عن الشعبانية والليلة الأولى من رمضان، الإفطار والسحور، وليالي تعز البهية يصف صاحب الحافة المشهد بكل تفاني، ويسبقه بمشاهد رسوبه في الثالث الابتدائي، وبطاط المخلافية والبرادة، والعبادية، وعبده حبيبي صاحب السن الذهبية،عبدالله عبدان شيخ مشايخ الحجرية بالغصب وشيخ الجنس الأسود بالرضا، والمريسي صاحب الموتور، والجميلة حسونة مكتنزة الصدر، وحكايات مقهاية الإبي ومقهاية الشباب، وإخراج الطلبة لاستقبال السلال ..
هذه المشاهد الحقيقية هي ما تصلح لتدارك الدراما التعيسة التي تنشرها القنوات في الموسم الرمضاني الوحيد، حيث يأتي المتصنعون بنصوص تُكتب بعد المشهد لا قبلة، في تكلف تفضحه الكاميرا وتنقصه الأبعاد، والزوايا، ورحابة النص البديع والحكاية، يتعذرون بالسيناريوهات التي لا يجيدها الكُتاب في اليمن، فيقفزون لصناعة المشاهد بلا نصوص درامية، ولذا يُنتجون الخواء الذي يُنسى بمجرد انتهاء المسلسل.
وهنا إن كان من نصح للأصدقاء إن كانوا يسمعون، هذه الحافة بكل مشاهدها تنفع مسلسل من ثلاثة أجزاء، ثلاثة مواسم تجمع عصور ما قبل وبعد الثورة، تحكي المشيخ في تعز؛ قاسم بجاش، أمين عبد الواسع نعمان، ومحمد علي عثمان، وأحداث مرحلة صعبة مرت بها البلاد بعد الثورة، تحكي الإنسان، المكان، والزمان بكل بساطة سرد فيها من الأسماء والمشاهد ما يزيد عن حمل بعير، فقط تحتاج إلى إعادة فرز المواضيع، وفهرسة موضوعية، وتوزيع السيناريو الموجود في ثنايا هذا المنجم والنص الخام.
“إلى المخلافية والعبادية وأنيسة محمد سعيد، إلى تقوى غالب (أم أولاده)، إلى تعز المبتدأ والمنتهى” أهدى الأستاذ عبدالرحمن بجاش هذا العمل الجميل ومن سواه يذكر شريكة حياته ومعها عدد من الناس العاديين البسطاء في الإهداء؟ بجاش يكتب للإنسان بدون حسابات ومجاملات، وحكى ما تيسير من سيرة المكان والإنسان، ومذكراته القديمة في تعز إن صح لنا التعبير، تليها مذكراته في صنعاء في كتاب لم يصلني بعد ” لغلغي في صنعاء” لعله يصل قريباً.