قراءة للبيانين العسكري والسياسي

قراءة للبيانين العسكري والسياسي

قراءة متأخرة للبيانين العسكري والسياسي، لانقلاب 5 نوفمبر 1967م.
- قادري أحمد حيدر
الثلاثاء8أبريل2025_
هذه المادة هي قراءة متأخرة – أكثر من نصف قرن- للمحتوى السياسي للبيانين العسكري، والسياسي” الهام”، وهما البيانان اللذان حاولا تقديم تغطية سياسية
للانقلاب، والضرورة السياسية والوطنية لقيام الانقلاب.
يبدأ نص البيان الذي أصدرته القيادة العامة للجيش بخطاب أيديولوجي/ سياسي تحريضي فيه الكثير من العنف اللفظي، والتخوين السياسي الذي يصل حد الحقد والكراهية السياسية، وليس النقد الموضوعي لتجربة قوى الثورة طيلة سنوات الدفاع الحاسمة عنها، 62-1967م، في محاولة لتمجيد لحظة الانقلاب النوفمبري، وكأن كل ذلك التاريخ السياسي والعسكري والوطني المجيد لم يكن شيئاً مذكوراً.
إن بيان القيادة العامة للجيش حاول تجيير كل شيء لصالح الانقلاب الذي حمل تجربة الثورة طيلة سنوات 62-1967م كل المسؤولية، مع أنهم كانوا جزءاً من تلك القيادة وفي قلبها، وسبباً مباشراً في أزمتها، وهو ما يؤكد أن الصراع السياسي على السلطة، كان قائماً وحاضراً في قلب القيادة الجمهورية، والذي نعبر عنه بـــ “أزمة القيادة الجمهورية”
أو بتعبير حالة “ازدواجية السلطة”، التي جاء انقلاب 5 نوفمبر 1967م، ليحسمها لصالحه نهائياً، باسم الدفاع عن الثورة والشعب وحماية كرامته وسعادته – محملاً البيان – الطرف الآخر من القيادة كل المسؤولية، ومعه القوات العربية المصرية، لأنها كما يقول البيان، “لم تسر في الطريق الثوري الذي رسمته الطلائع الثورية من الجيش والشعب، التي تحركت يوم 26 سبتمبر، حتى تأكيد جماعة الانقلاب من “أنها لا تطمع في مال ولا منصب ولا غرض شخصي إلا حماية مصلحة الشعب، مؤكدة أنها ستعود إلى مواقعها وثكناتها في الوقت الذي ترى فيه أن الشعب قد اختار من يثق فيهم”!!
وهذا النص خاصة في قسمه الأخير يؤكد على البعد والعمق العسكري للانقلاب، الذي يشير إلى أنهم سيعودون إلى مواقعهم وثكناتهم ، بعد أن أكدوا أن تجربة الثورة خلال سنوات 62-1967م “أوجدت – كما يقولون – وضعاً أكثر فساداً، وعبودية واضطهاداً من أي عهد مضى” ، هكذا في نص البيان!!
وهو خطاب فيه الكثير من عاصفة التجني والحقد السياسي، وليس النقد الموضوعي.
إن الفقرة المشار إليها تعتبر سنوات الدفاع عن الثورة والنظام الجمهوري 62-1967م، هي الأكثر فساداً وعبودية واضطهاداً من كل التاريخ الإمامي !!.
إلى هذه الدرجة من الحقد السياسي وصل الخطاب في موقفه من الآخر السياسي في قيادة الصف الجمهوري!!، حتى يصل بيان القيادة العسكرية للقول: “أمام هذا الضغط المستمر على قوى الثورة والجمهورية تحركت طلائع جيشنا البطل لتنهي كما أنهت 26 سبتمبر عهد الفرد، والاستبداد، لتسليم البلاد لأبنائها المخلصين ولتُجدد الثورة وتدفعها في طريقها الطبيعي”، وكأن السلال، والقيادة الجمهورية المنقلب عليها، ليست من قيادة الجيش ومن قيادة الثورة!!, مختصرة أهداف الانقلاب في هدفين: “أولاً إعفاء عبد الله السلال من مناصبه .. وثانياً تجريده من رتبه العسكرية ومن أي صفة رسمية”.
هذه هي أهداف القيادة العامة للجيش، وهي التي أمليت عليهم من الجانب السياسي الذي أشرف على إدارة وتمرير الانقلاب، وكأن الانقلاب انتقام من شخص الرئيس السلال، – مع الأسف – حيث لا أهداف غير الهدفين اللذين أشار إليهما البيان العسكري، تحت غطاء استبدال ”حكم عهد الفرد” ,حسب البيان!! على طريق – والكلام هنا للبيان العسكري – “إيقاف النزيف الدموي الذي استمر طيلة الخمس السنوات الماضية” ، وكأن القيادة الجمهورية الأولى للثورة هي من فجرت الحرب، وفرضت استمرارها في حياة اليمنيين!!” وهي بالنتيجة المسؤولة عن ” استمرار النزيف الدموي”, حسب تعبير البيان.
جاء البيان العسكري – في تقديري- ليلقي بالمسؤولية على عانق الرئيس السلال، الذي جسد حكمه عهد الفرد كما يقولون!!.
أما نص البيان السياسي “الهام”، للانقلاب فقد جاء في مفتتحه التالي: “باسم الجماهير الشعبية التي قاست واضطهدت وتمردت وانتصرت، باسم الشخصية اليمنية التاريخية الخالدة (…) باسم جلالة الاستقلال، وعظمة السيادة الوطنية للشعب العربي اليمني، باسم جميع هذه الغاليات التي باتت تجد عندنا اليوم – وبعد تجاربنا المريرة القاسية التي مررنا بها – مدلولاتها الحقيقية الصادقة، نحن الشعب العربي اليمني، نحن صناع الثورة (…) نعلن اليوم للدنيا عودتنا الظافرة وانتصارنا الحتمي النهائي على أعدائنا –لاحظوا نحن الشعب اليمني، نحن صناع الثورة، وتعبير- “أعدائنا “, -والأخطر تعبير “عودتنا الظافرة”، عودتهم من أين؟!!!! ، -الباحث- (….) ، إنهم وقد أسأوا كثيراً تفسير الأمور قد انهزموا أخيراً على أيدينا وأننا قد انتصرنا عليهم” أي على طرف السلال وحلفائه، وليس على جذر وأصل العدوان على الثورة، وهو ما يفسر عجلتهم في نقل السلطة إلى أيديهم وهزيمة أو إزاحة الطرف الآخر بالانقلاب كما جاء في نص البيانين بعد حصرهم في البيانين، العسكري والسياسي” أهداف انقلابهم في التخلص من “حكم الفرد وعهد الفرد”,!! حتى وصول البيان السياسي الهام، للقول: “لقد أردنا بالثورة إسقاط حكم الفرد وإنهاء تحكم الشخص، وإعلان قيادة الشعب، ورفض التحكم الداخلي ببلادنا – يقصدون السلال – ومقاومة السيطرة، الخارجية بكل أشكالها – المقصود الوجود العربي المصري وليس العدوان الرجعي السعودي، والأجنبي- الباحث – (…) – أردنا كل الذاتية ملاكاً لتأكيد حرية الإنسان اليمني ليخدم نفسه وليصنع مستقبلاً واحداً لتسلط حاكمه – كما في أصل البيان – (…) لقد طعنوك من الخلف قبل أن تستكمل تصفية بقايا الوجود الملكي الرجعي المباد، حتى يسخروا بك ويقفوا أمامك ليتم لهم تكبيلك والمتاجرة بقضيتك في أسواق مناطق النفوذ”، وفي البيان السياسي حديث عن السجون والاعتقال، والتعذيب الذي مارسته سلطة عهد الفرد, (السلال).
من الملاحظات المباشرة والأولى على فكر ولغة الخطاب في البيانين، أنهما؛ الخطابان، اللذان جاءا مرتبكين ومضطربين في صياغتهما الفكرية، والسياسية واللغوية، جاءت صياغتهما قلقة وغير واضحة ولا مفهومة في بعض الصياغات وكأنهما كتبا على عجل، وبدون رؤية واضحة للانقلاب وما بعده، غير هدف الاستئثار بالسلطة، وتجريد الرئيس السلال من جميع مناصبه ورتبه، مع أن البيان العسكري، أصدر بعد يوم من الانقلاب، 6 نوفمبر 1967م والبيان السياسي أعلن في 7 نوفمبر 1967م.
لقد حملاَ البيانان سلطات ما قبل الانقلاب كل شيء، بما فيه مأساة استمرار العدوان والحرب، ورفض السلام!!! ما يدل على أن البيان السياسي “الهام” ، لم يكن هاماً إلا في عدوانيته السياسية، الذي اتجه عبرها إلى شخصنة الصراع السياسي والوطني في صورة حصر الانقلاب وكأنه ضد السلال، الشخص والقائد للثورة، الذي وصم عهده من 62-1967م، بأنه عهد حكم الفرد، ذلك أن مشكلتهم الأساسية هي قضية احتكار السلطة والاستئثار بها، من خلال حسمهم لحالة ” ازدواجية السلطة”, واحتكارها في من يرون أنفسهم الأحق بالحكم باعتبارهم “ورثة الإمامة الجدد”، وليس السلال أبن الحداد الفقير الذي هوجم، وتمت معارضته بسبب أصله الاجتماعي/ الطبقي الفقير من قبل رموز المشيخة القبلية، وبعض العسكر من أصول مشيخية، وكذلك بسبب انحيازه السياسي مع الموقف المصري تجاه قضايا المنطقة العربية التحررية، واليمن بدرجة أساسية. ولذلك كانوا مشغولين طيلة سنوات 62-1967م، بالسلطة وليس بالثورة، حتى كان لهم ما كان بالقيام بالانقلاب.
فقد وجهت لسلطة الرئيس السلال/ وتحالفه “أنهم عزلوا اليمن مجدداً وقلصوا مسيرة الثورة – هكذا جاء في البيان – وتساهلوا في معركة تطبيق الجمهورية عسكرياً، وحاربوا نمو الاقتصاد الوطني، وتنكروا لأهداف الثورة المعلنة، واستهتروا بالقانون والمبادئ الدستورية”!!.
مع أن ذلك من التهم الجاهزة التي كانت توجه لرئاسة دولة الثورة الأولى، وهو أنها لا ترغب بالحوار ولا بالسلام ولا إيقاف الحرب، وتريد فرض حكم الفرد، علماً أن كل ما تحقق من إنجازات سياسية واقتصادية محدودة بسبب الحرب على الثورة، وهو بفضل وخلال هذه القيادة، وخلال هذه المرحلة التي فتحت ضدها وفي وجهها أكثر من أربعين جبهة عسكرية، حتى وصول البيان السياسي الهام، للقول: “إن قواتكم المسلحة معكم، وليست ضدكم فكونوا معها متعاونين، مخلصين، ولن ترحم مطلقاً أي غادر أو متصيد – هكذا في أصل البيان – لمهماتها الرئيسية المقدسة (…) إن القوات المسلحة لا تنوي الاحتفاظ بالسلطة، ولا تطمع في إجراءاتها، ولقد تم التشاور مع المخلصين من أبناء الشعب، وقادته المخلصين من جميع الفئات وقررنا بعد تدارس جميع الظروف والاحتمالات لتسليم الحكم لمن يقع عليهم اختيار سليم، تمثيلاً وتمهيداً وترسيخاً لأن يحكم الشعب نفسه بنفسه (….) إن عهد الظلم والانحراف والسلبية قد انتهى”!!.
ومن البيانين يتضح أن القوى المشيخية, العسكرية/القبلية، هي من كانت تمارس إجراءات الانقلاب العملية على الأرض بالتعاون والتنسيق مع الطرف السياسي الناظم للانقلاب، هذا أولاً، ومن أن البيانين العسكري والسياسي يضعان القبيلة كبنية اجتماعية وسياسية، وشيوخ القبائل بالدرجة الأولى في مرتبة ومكانة مميزة، أي رفع الدور السياسي للقبيلة في السلطة، إلى مستوى الدولة، وهو ما يقول به خطابهما في سياق الحديث عن القوى السياسية والاجتماعية التي كانت قائمة في البلاد، فعلى سبيل المثل يقول البيان العسكري “لقد تمخضت السنوات الخمس الماضية التي قضاها شعبنا في صراع مع عقليات، ومخلفات الماضي عن وعي سياسي جعل أبناء هذا الشعب جميعاً من قبائل وفلاحين وعمال ومدنيين وعسكريين يلتقون عند إرادة هذا الشعب” فالبيان وضع في البداية وفي المرتبة الأولى، القبائل وهو ما يجمعون عليه جميعاً ، “القبائل” و”المشائخ”.
إن القارئ لنصوص البيانين سيلاحظ أن الصياغة الفكرية والسياسية – كما سبقت الإشارة – مضطربة ومرتبكة، ومن أن التراكيب اللغوية مشوشة غير واضحة تضيع فيها المعاني والدلالات التي تريد الوصول إليها، بل وحتى الأهداف السياسية المطلوب الإشارة إليها، وتوضيحها أو تأكيدها، ويبدو أن حالة التوتر السياسي والاضطراب السيكلوجي، قبيل الانقلاب وبعده هو الذي صاحب صياغة البيانين، العسكري والسياسي، ولذلك جاءت العديد من الصياغات قلقة ومضطربة، ومرتبكة ولا تشير إلى المقصود مباشرة وبوضوح كاف، فقط، في البيان جٌمل سياسية حادة وعنيفة في نقدها لتجربة الثورة والحكم خلال فترة سنوات 62-1967م.
وخاصة أن الجمل السياسية حملت الكثير من خطاب الشخصنة ضد السلال.
إن البيان العسكري – تحديداً يضع القبائل والمشائخ – كما سبقت الإشارة – في مقدمة القوى السياسية والاجتماعية، ففيه جاء التالي:
”وتنفيذاً لإرادة شعبنا بكل قطاعاته من قبائل وعمال ومثقفين وعسكريين، وبعد أن تجسدت أمام شعبنا كل وسائل الإقناع لقبول قرارات الجيش والمشائخ – لاحظوا قرارات الجيش والمشائخ – أي أن القوى الأساسية في الانقلاب هم القبائل والمشائخ والعسكر الملتحقون بهم ، ومعهم رموز سياسية من بقايا الأحرار الذين لا غبار ولا شك في نضالاتهم ووطنيتهم، على أنهم في الواقع لم يكونوا أكثر من “مشاقر زينة”، لتزيين صورة الانقلاب وشرعنته سياسياً ووطنياً، ذلك أن القوة السياسية والاجتماعية الفاعلة هي رموز المشيخة القبلية، والعسكر المرتبطين بهم سياسياً ومصالحياً ضمن مشروعهم السياسي الانقلابي على جمهورية 26 سبتمبر الأولى 62-1967م، بدأ معهم الانقلاب وكأنه تحرك سياسي عسكري ليس لاستكمال مسار الثورة كما كانوا يقولون، وإنما لتصفية حساب مع جناح سياسي وعسكري في السلطة، وفي خارجها.
لقد تجاهل البيانان العسكري والسياسي أنه لولا سنوات الكفاح السياسي والعسكري والوطني طيلة سنوات 62-1967م تحت القيادة السياسية المباشرة للرئيس السلال، والدعم المصري بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر، لما صمدت واستمرت وانتصرت الثورة على الإماميين والسعوديين والقوى الإستعمارية التي كانت تقف خلفهم، من خلال مقاومة أسطورية وبعدة قتال بسيطة ومحدودة، ومع ذلك تأتي سطور البيانين لتصور هذه المرحلة والتجربة من تاريخ الثورة العظيمة وكأنها انتكاسة سياسية ووطنية، لأن على رأسها قائد سياسي وعسكري وطني غير مرغوب فيه من القوى القبلية والمشيخية، ومن السعودية مستثمرين أخطاء البيروقراطية العسكرية والسياسية المصرية في مصر وفي اليمن، للهجوم على دور مصر في اليمن، ولتعزيز دور ومكانة السعودية على حساب الدور المصري، تحولت معه هذه السنوات الخمس من الكفاح السياسي، والعسكري والوطني إلى خطيئة ، وهو ما يدل على أن مشكلتهم مع جمهورية سبتمبر الأولى 62-1967م، إنما هو حصولهم على حقهم – كما يتوهمون/ بل ويحلمون – في السلطة وفي الاستئثار بها، وضرورة انتقالها إلى أيديهم ، وهو ما قالوه وأعلنوه حرفياً في البيان السياسي، لأنهم هم الورثة الشرعيون/ التاريخيون للإمامة، وكأن التناقض الرئيس، كان مع رمز قيادة جمهورية 26 سبتمبر الأولى، ومع دور مصر التحرري في اليمن، وليس مع القوى الإمامية والرجعية والاستعمارية، الذين لم تتوقف حربهم ضد ثورة وجمهورية سبتمبر 1962 م من لحظة قيام الثورة.
إن البيانين العسكري والسياسي لم يذكرا أو يُشِرا ولو من بعيد إلى الدور السعودي، فقط، حديث بكلمات عابرة وفضفاضة عن الرجعية والاستعمار.
لقد حوَّل البيانان الصراع السياسي والاجتماعي والوطني إلى مجرد أزمة سياسية داخلية مع السلال وحلفائه، بدرجة أساسية متجاهلين التناقض الرئيس مع الإمامة والرجعية السعودية والاستعمار، وكل ذلك يهدف إعطاء شرعية سياسية للانقلاب، وبالتوافق مع الجارة “الشقيقة” السعودية، ولذلك لا نجد في البيانين أي حديث عن من هي قوى العدوان بالحرب على ثورة 26 سبتمبر 1962م، وكأن الفاعل مجهول.
مع أنه فاعل معلوم أكثر من ما يجب، وما يزال دوره التدميري والسلبي قائماً في صورة ما جرى من بعد الانقلاب النوفمبري، وصولاً لما يجري في البلاد اليوم.
ولا يسعني في ختام هذه القراءة، سوى ترديد القول الشعري العظيم، للبردوني في جدليته الفكرية الشعرية التاريخية، القائل:
” لماذا الذي كان مازال يأتي/ لأن الذي سوف يأتي ذهب”.
اقرأ أيضا للكاتب:قادري أحمد حيدر يكتب عن الكتابة النقدية في الزمن القاتل
