قراءة في مقال القاضي عبد العزيز البغدادي ” أسئلة لا بد من طرحها”

قراءة في مقال القاضي عبد العزيز البغدادي ” أسئلة لا بد من طرحها”
حسن الدولة
الأربعاء 22 اكتوبر 2025-
اطلعت على المقال القيم تحت عنوان (أسئلة لا بد من طرحها لمحاولة التفريق بين حق المقاومة وحق الانتحار) للقاضي العلامة عبد العزيز البغدادي، المنشور يوم الثلاثاء الموافق 21 أكتوبر 2023م في صحيفة الشورى الغراء الإلكترونية، وقد أثار هذا المقال في نفسي الكثير من الأسئلة الملحة، وأطلق شرارة تفكير عميق في واقع القضية الفلسطينية، ولا سيما الدور الذي لعبته حركة حماس في هذه المرحلة الحساسة.
إن الحقيقة الثابتة التي لا يمكن إنكارها، وهي أن هناك فرقا جوهريا بين المقاومة الواعية المسؤولة التي تنطلق من منطق حماية الشعب وحفظ كرامته، وتحقيق مصالحة، وبين المغامرة العشوائية التي لا تزن العواقب، ولا تبادلي بالخسارة فتقود إلى نسف ما تبقى من المشروع الوطني الفلسطيني، وتخرج بعد ان تسببت في أسوأ كارثة في تأريخ القضية الفلسطينية، وبالرغم من توالي الخسائر مقابل التمسك بعدد من الاسرى والجثامين استطاع الاعلام الاسرائيلي ان يتسم مظلوميته، مستندا على معرفة مشاعر الرأي العالمي الذي يعتبر الاختطاف للمدنيين جريمة …
وبصراحة مؤلمة، فإن ما قامت به حماس يوم السابع من أكتوبر 2023 من عملية “طوفان الأقصى “، كانت عملية انتحارية جماعية تحت غطاء “حق المقاومة” واتفق تماما مع ما تضمنه مقال القاضي العلامة عبد العزيز البغدادي جملة وتفصيلا، وبخاصة التفريق بين حق المقاومة وحق الانتحار، فالمقاومة بطريقة الطوفان مع أن نتائجها الكارثية كانت متوقعة لأي عاقل يقرأ المعطيات بدقة. لقد أدى هذا التصرف إلى إطلاق يد إسرائيل المجرم في تدمير غزة، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، وسمح لها، بفعل ما صورته وسائل الإعلام العالمية من هجوم على مدنيين، أن تحظى بتعاطف عالمي غير مسبوق، حتى من دول لطالما كانت محسوبة على معسكر الحياد أو الصداقة مع الفلسطينيين، مثل الصين وروسيا وبعض الدول الإسلامية، وحتى الدول التي وقفت بصلابة في وجه تلك المجازر التي ارتكبها الكيان الصهيوني بقسوة وبشاعة ليس لها نظير في التأريخ لم توافق على استمرار حماس التمسك بالأسرى – المختطفين حسب الاعلام الاسرائيلي.
إلا أن الإعلام الإسرائيلي بإمكانياته المالية وببراعة تضليلية متقنة، صور للعالم أن مواطنيه كانوا ضحايا هجوم “وحشي”، ونجح في تثبيت سردية “حق الدفاع عن النفس”، وهو حق لا تنكره حتى الدول التي تدين الاحتلال الإسرائيلي نفسه. والأسوأ من ذلك، أن حماس استمرت في رهانها على ورقة المختطفين، وكأنها لم تعِ أن هذه الورقة تحولت إلى ذريعة مقدسة تشرعن العدوان الإسرائيلي وتبرره دوليا، مما يجعل حماس عمليًا شريكة – وإن غير مباشرة – في إطالة أمد المجازر التي ترتكب بحق الأبرياء في غزة.
العملية بحسب العديد من التحليلات الأمنية لم تكن سوى فخ استخباراتي محكم، صممه الاحتلال بعناية لاستدراج حماس ومحور المقاومة إلى معركة خاسرة، هدفها القضاء على ما تبقى من القوة العسكرية والتنظيمية في غزة وجنوب لبنان، وتجريد إيران من أوراقها في المنطقة.
وقد كان من المؤلم أن تتحول قيادة حماس، التي كانت تهدد وتتوعد الأنظمة العربية بالتخاذل، إلى من يرضخ بشروط مذلة مقابل تسليم المختطفين، في موقف اعتبره البعض أقرب إلى الاستسلام. وما أعظم تلك العبارة التي أطلقها أحد سكان غزة الغاضبين في مقابلة مصورة:
“لو كنا غنما تذبح كل يوم بسبب اولئك الاسرى لرقت قلوب الخاطفين، ولانت وعملت بإزالة الذريعة التي يستخدمها العدو.. وبالرغم من فداحة الإصرار على عدم تسليم الاسرى حتى وجدت حماس ان الخطر سينالها قبلت مبادرة ترامب التي فرضها بوضع حماس اما القبول بالمبادرة أو سيكون نهايتها اي ان حماس سلّمت كل شيء عندما وجدت ان تلك المغامرة ستطالها، لكنها لم تُسلّم فكرتها الخاطئة، وقتلت كل من خالفها أو عارضها بعد ان فقدت سيطرتها.
إن هذه الشهادة الشعبية، القادمة من قلب المعاناة، تلخص جوهر المأساة: انفصال القيادة عن نبض الشارع، وتحول المقاومة إلى أداة حزبية مغلقة، لا تسمع سوى صدى شعاراتها، وتقصي كل من يفكر بعقلانية أو يرفض الانتحار الجماعي باسم الصمود.
والأدهى من ذلك، أن بعض الأصوات لا تزال تصر على تسمية ما حدث نصرا، رغم وضوح الخسارة الإنسانية والسياسية والأخلاقية، وتحويل غزة إلى ركام ملغم بالصواريخ التي لم تنفجر، والادهى والامر ان هذه الهزيمة التي تركها حزب الله وحماس وسوريا وإيران، تعتبر عند بعض العربان من يعتبر هذه الهزيمة النكراء نصرا، ولذلك فلا يمكن لشعب أن يتقدم، أو لقضية أن تنتصر، إذا كانت المعايير معكوسة، والحقائق تقلب لتتناسب مع ما تريده التنظيمات لا مع ما يريده الناس.
إننا بحاجة إلى تقييم صادق وشفاف بعيدا عن الزيف الإعلامي والشعارات القديمة، فاستمرار تزييف الواقع لا يضر إلا بالقضية ذاتها، ويكرس لعقلية الهزيمة المستدامة، التي ترفض الاعتراف بالخسارة وتبحث لها عن بطولات وهمية.
من الناحية النفسية والاجتماعية، فإن إنكار الهزيمة وإلباسها ثوب البطولة ليس “موقفا ثوريا”، بل هو عقبة كأداء حقيقية أمام الإصلاح والتطور. الأمة التي لا تعترف بأخطائها تعيد إنتاجها باستمرار، وتعيش داخل دائرة مغلقة من الكوارث المكررة.
إن التاريخ يعلمنا أن الاعتراف بالهزيمة ليس عيبا، بل مقدمة للنهضة. ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، واليابان بعد هيروشيما، كلاهما شهدا انهيارات شاملة، لكن شعبيهما لم يتشبثا بشعارات النصر الكاذب، بل انطلقا من الاعتراف بالهزيمة نحو البناء والتصحيح والانطلاق.
في المقابل، فإن الإصرار على تصوير ما حدث على أنه انتصار، وتجاهل الحقيقة المروعة التي تقول إن أكثر من 300,000 فلسطيني قضوا في هذا الصراع الأخير بين قتيل وجريح ولا تزال القائمة مرشحة للازدياد، وأن غزة تحولت إلى ركام لا تستطيع سكناها الأشباح، لا يخدم إلا الاحتلال، ويجعل من المقاومة مجرد شعار فارغ.
بل الأسوأ أن هذا الإصرار يؤدي إلى تمجيد الميليشيات الطائفية وتبرير القتل المجاني، وإلغاء الإنسان الفلسطيني من المعادلة لحساب فكرة أو خطاب أيديولوجي ضيق. وهذه خيانة كبرى للمبادئ التي قامت عليها المقاومة الحقيقية.
إن الوقائع صادمة، لكن وضوحها لا يحتاج إلا إلى شجاعة الاعتراف. ما قامت به حماس لم يكن مقاومة، بل كان مغامرة خاسرة فتحت الطريق أمام الاحتلال لتحقيق أهدافه دون كلفة سياسية تذكر. وما نحتاجه اليوم ليس المزيد من الخطابات، بل مشروع وطني فلسطيني جديد، مبني على الحكمة والعقل والحسابات الدقيقة، لا على الاندفاع والشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
الرهان على وعي الشعوب لا يزال ممكنا، لكن البداية لا تكون إلا بالصدق مع الذات، ومعرفة الفرق بين مقاومة تبني، ومغامرة تهدم.
والله من وراء القصد.

اقرأ أيضا :أسئلة لابد من طرحها لمحاولة التفريق بين حق المقاومة وحق الانتحار!
نجدد التأكيد أن المقال المنشور لا يمثل سوى كاتبه فقط