قراءة في خطاب الأطراف المتصارعة

قراءة في خطاب الأطراف المتصارعة
- أمين الجبر
الأربعاء 3 سبتمبر 2025-
إن المتابع لمجريات الصراع المستعصي في اليمن، وخصوصاً الخطاب الذي يصدح به الأطراف المحسوبة على التيار الإسلامي بكليّتيه السني والشيعي، يلحظ بوضوح مذهل ظاهرة الاتهام المتبادل التي تكاد تشكل النسيج العضوي لهذا الصراع. كلا الطرفين، في خضم معاركهما التي لا تنتهي، لا يرى في خصمه سوى ذراع خارجية خادمة لأطماع إقليمية ودولية، وكأن العالم برمته يتآمر عليهم لإسقاط مشروعهم الإسلامي الذي يزعمون وحدتهم وامتلاكهم له. وما يزيد الأمر غموضاً واشتعالاً، أن هذا الاتهام المزدوج قد تحول إلى عقيدة إيمانية متصلبة، مبدأ مؤسس ينطلق منه كل منهما في حربه على الآخر، حيث لا مكان للشك في نفاق الطرف المقابل ولا لرحمة في محاكمته.
وهكذا، لم يعد الصراع مجرد نزاع عابر أو تبادل مصالح، بل عرفان مذهبي وفكري ينصّب الحرب المقدسة فرقاناً بين حق لا محيد عنه وباطل جدير بالمحو. فقد تسقط في قاموس الطرفين مفردات مثل الحوار، التفاهم، أو حتى التمرّن على تنازلات تكتيكية، لأنهما يخوضان حرباً إلهية بالوكالة تغلق أمامهما أبواب السلام والتسامح، وتجعل من الآخر عدواً وجودياً يهدد كينونته وهُويته الإيمانية. في مثل هذا المشهد، تفقد المشترك الإنساني وأسس المواطنة معنى ووجوداً، وتصبح لغة القطيعة والكراهية السائدة هي الحاكمة.
وسط هذا الواقع المرير، تبرز أسئلة عميقة التغلغل، تحث على التأمل وعلى نقاش جدي يعيد تقييم الأمور من منظور إنساني ووطني بحت، بعيداً عن خنادق الانتماءات الضيقة. هل ما زال هناك بصيص أمل يلوح في الأفق، لامتصاص الانقسامات وتوحيد الصفوف، والتأسيس على قاعدة مشتركة من الثوابت الوطنية والمصالح العليا؟ وهل بإمكان القدر أن يكتب للحظة من التوافق والاحترام المتبادل أن تولد، حتى وإن بدت مستحيلة في ضوء مآلات الصراع الراهن؟
فلنتخيل معاً، ولو للحظة، سيناريوهات تبدو عجيبة وأقرب إلى الحلم: ماذا لو استوعب الإخوان أن “الخلافة” التي يؤمنون بها ليست إلا صيغة أخرى لـ”الإمامة” واعتبر كلا الطرفين أن جوهرهما واحد، يكفلهما الدين والوطن؟ ماذا لو أقرّ الإخوان بأن الولي هو المرشد، وبالمقابل آمن الأنصار بوحدانية المرجعية في هذا الدور، متحدين بإرادة موحدة ضد عدو مشترك؟ ماذا لو احتفى اليسار بكل أطيافه بالولي كرمز للتحرر من الهيمنة والديكتاتورية العسكرية، واعتبره تجسيداً للحلم الاجتماعي والعدالة؟ وماذا لو رأى اليمين المتشدد بالقائد الراهن ربّان السفينة الذي يقود الأمة في عباب بحر من التحديات العاتية؟
ومع كل ذلك، تبرز الحقيقة الأليمة: لم يستطع أي حاكم أن يحتشد حوله كل هذه التيارات المتلاقحة، ليصبح نقطة التقاء تجمع شتاتها، وترسم معاً ملامح مستقبل تتوافق حوله هذه الأطياف المتباينة. لماذا؟ ربما لأن التناقضات بين رؤى وأيديولوجيات هذه المكونات تبدو أقوى من أي محاولة للوحدة، وربما لأن لغة القوة والصراعات الإيمانية خانقة إلى حد تمنع أي بادرة مصالحة.
رغم ذلك، فلا مناص من أن تبقى هذه التساؤلات المؤرقة منفتحة على أمل، مهما بدا ضعيفاً أو بعيد المنال. في حافة هذا الأفق، تكمن إمكانية إعادة قراءة الواقع، واعتبار السياسة فن الممكن، وضرورة استعادة العقلانية لتجاوز حالة الاستقطاب التي كبّلت الوطن وأضرّت بمستقبله. قد يبدو هذا الحلم ضرباً من الخيال، وربما وهماً، ولكن في عالم الصراعات المعقدة، لا شيء يستحيل إذا سمعت الأصوات النبيلة وتمسكت بالإرادة الراشدة.
اقرأ أيضا:الشهيد جار الله عمر في مذكراته.. وفي ذاكرتي (١-٣)
