كتابات فكرية

في الديوقراطية

بقلم :قاسم بن علي الوزير

تقوم الديمقراطية على توازن القوى في المجتمع .

ذلك هو الأساس الذي لا يمكن أن يكون لها وجود واقعي عملي بدونه .

ونحن نتكلم عن الديمقراطية كما نراها قائمة في الواقع المشهود ، أي في حالة كينونة فاعلة في ” واقع ” تطبعه بطابعها ، وتشكل ملامحه وقسماته ، وتسير شؤونه . إنه – على هذا – تعريف انطباعي بمعنى أنه مستمد من وصف لواقع مشهود ، وليس تعريفا قاموسيا أو فلسفياً يتشعب به القول الى مناح متعددة من الوجهة الفلسفية البحتة .

ونحن نعمد الى هذا التعريف الواقعي الانطباعي عمداً ؛ لأن ما يعنينا هنا هو تحقيق الديمقراطية واقعا لا تعريفها نظرياً .

لقد كانت الديمقراطية – فيما انتهت اليه – محصلة نضال طويل وعسير خاضته مجتمعات عانت الأمرين من اختلال توازن القوى الاجتماعية فيها اختلالاً جعل الأقوى ينزل بالاضعف دائما أفدح المظالم ، ومن ثم كان الصراع الدامي و”المؤامرة ” المستمرة هما الأسلوب المتبع لبلوغ الأهداف أو نيل الحقوق السياسية أو الأجتماعية المختلفة حتى أنتهى الأمر بتلك المجتمعات الى توازن في القوى أبدع وسائله وأدواته فى سياق تطور تاريخي ظل يقوَم عوجه باستمرار معطياً نتائجه الايجابية التي نراها اليوم واقعاً مشهوداً ماثلاً للعيان . حيث لم ينته “الاختلاف” – لا في الفكر ولا في المصالح – وإنما جرى التسليم به حقاً متساوياً للجميع ضمن اطاره الذي حدده المفهوم الجديد ” للقوة ” المنبثق من قيام ذلك التوازن فى القوى الاجتماعية . ولم يختف ” الصراع ” وإنما أستبدل – لذات السبب – أدواته التي أصبحت ” آليات ” تجري بها الأهداف والدوافع المختلفة معاً الى نهاية تحكمها الارادة العامة المعبرة عن تراض عام مستقر ، والمنبثقة منه أساساً . وذلك بالنزول عند رأي الأغلبية الذى تم الاتفاق والتراضي العام على الاذعان له دون أن يعني بأي حال تجريداً للأقلية من حقوقها أو تضييقاً عليها أو كبتاً لها .

لقد أصبح ” الصراع ” – بفضل ذلك التوازن – سلمياً أو قل ” تنافسياً ” قائماً على مؤسسات تكفل صيانة المجتمع من عقابيل الصراع العنيف الذى يحسم بمنطق الغلبة لمصلحة القوي بما تنطوي عليه الغلبة من وسائل القهر والاخضاع . بعبارة أخرى أصبح ” الصراع ” مساجلة بين قوى تتمتع بنفس الحقوق . وليس بالضرورة نفس القوة ، مساجلة قائمة على مؤسسات تكفل صيانة المجتمع من أن يجور جانب كليةً على أخر ( ونقول ” يجور ” ولا نقول ” يفوز ” ) حافظة – بذلك – التوازن بين قواه وفئاته المختلفة . وحين يختل ذلك التوازن لأي سبب من الأسباب ، فان الاختلال يصيب النظام كله دون شك . وليست النازية والفاشية إلا البرهان الشديد الوضوح على ذلك , إذ أفضى الاختلال في التوازن – لأسباب عديدة ليس هذا مجال بحثها – الى غياب الديمقراطية وحلول الديكتاتورية ، والحق أنه اذا غابت الديمقراطية حلت الدكتاتورية محلها .

في قراءتنا للواقع الديمقراطي ، نجد الديمقراطية متمثلة – من الناحية السياسية – في التبادل السلمي للسلطة ، وفى حقوق الانتخابات والمشاركة والمساءلة من جهة ، وفى التوازن بين قوى هذه السلطة نفسها الذى تحققه استقلالية السلطات الثلاث عن بعضها ، وتجعل للسلطة القضائية المستقلة اليد العليا من جهة أخرى ، ومن ثالثة قدرة المجتمع على مقاومة طغيان تلك السلطة أو الدولة وكبح جماحها بفضل قوى المجتمع المدني ومؤسساته التي تقاوم شهوة العدوان الكامنة فى طبيعة السلطة ذاتها أياً كانت ، وتوقفها عند حدودها المتفق عليها . و”الدستور ” – عادة – يمثل ” عقد ” ذلك الاتفاق . وليست الانتخابات , والاضرابات , والاعتصامات ، وحرية وسائل الأعلام ، وحرية تدفق المعلومات ، وحق الحصول عليها إلا من جملة وسائل المجتمع المقابلة لوسائل الدولة لتحقيق تلك الغايات .

وبالاضافة الى ما تؤديه تلك القوى المذكورة أنفا من دور على المستوى الاجتماعي فان الديمقراطية تتجلى – من الناحية الاجتماعية – كذلك في كونها أسلوبا يتحقق بها الحوار أو المساجلة بين القوى المختلفة داخل المجتمع وتتحرك به نحو غاياتها . وبامكاننا أن ننظر الى الأضرابات والأعتصامات مثلا – وهما من أعلى درجات العنف مظهراً في مجتمع ديمقراطي حقاً – باعتبارها أدوات حوار عملي قوي في يد المجتمع ، لأنها تنتهي باتفاق على هذا النحو أو ذاك بما يحقق قسطاً من العدل يتم التراضي عليه بقوة الحق المجردة . ومن هنا يصبح الحوار – حتى في شكله هذا – طابعا أصيلاً وبديلاً ” للصراع ” الدموي العنيف بين القوى الاجتماعية في المجتمع الديمقراطي . وذلك بفعل القواسم المشتركة التي يحددها ذلك المفهوم الاجتماعي نفسه للديمقراطية ، لأنها قد غدت ” ثقافة ” المجتمع التي تحدد سلوكه وتطبع نشاطه ، ومن ثم يصبح ” الحوار”* الفاعل أساساً للوصول الى الحق أو للدفاع عنه على حد سواء . ولهذا كانت الحرية شرطاً جوهريا لا غنى عنه لوجود ديمقراطية أصلاً ، ومتى افتقدت الحرية ، فقد انتفى أن تكون هنالك ديمقراطية . ان تجريد الديمقراطية من الحرية هو تجريد لها من روحها . ولعل بِدع مقولات كالديمقراطية الشعبية بما تتضمنه من ” ديكتاتورية البروليتاريا ” أو ” الطبقة ” قد انهارت تماماً مع إنهيار الأنظمة التى رعتها وتسلحت بها .. بل ربما كانت السبب الأول فى ذلك الانهيار .

ولا بد من إدراك الأساس المعرفي للقيم العملية في المجتمع الديمقراطي حتى نفهمه جيداً ، لأنها هي التي أنجبت الديمقراطية فانها إنما تنبثق وتقوم على ذلك الأساس . وفى هذا فاننا نستطيع أن نكتفى بمثالين إثنين يجزيان عن بقية الأمثلة ويغنيان بالقسط المطلوب فى الأداء لايضاح المثال الذي يطرد به القياس ويستقيم . وأعتقد أننا نفي بذلك إذا وقع الاختيار على الحرية والمساواة .

فاذا كنا ندرك معنى الحرية في سياقها العملي وندرك المساواة في إطارها القانوني ؛ فان مدلولاتهما المعرفية أكثر أهمية في هذا الصدد .

على هذا المستوى فان الحرية أصلاً لا تعني حرية التصرف ( التي إطارها القانون ) بل حرية الفهم التي إطارها المعرفة ، وحرية الاختيار بناءا على ذلك الفهم . وبهذا تتعدد الرؤية الى الحقيقة وتختلف تبعاً لذلك . ومن ثم لا يكون ثمة مجال البتة لاحتكار الحقيقة انطلاقاً من ذلك الأساس المعرفي للحرية .

وكذلك الحال مع المساواة . فعلى الصعيد المعرفي لا تعني ” الحقوق ” و ” الواجبات ” ( التي مجالها القانون أيضا ) ولا الفوارق العرقية ( التي مجالها العلم ) . وإنما تعني – معرفياً – الحق في النظر الى حقائق الحياة وأطوار الوجود وآيات الطبيعة بحرية ، فما دام الجميع متساوين في هذا العمل فهم في النتيجة متساوون في حق الوصول الى تلك الحقائق على نحو مختلف . وما دام ذلك الحق مكفولاً للجميع بنفس القدر فمن ذا يجرؤ على ادعاء الحقيقة كاملة واحتكارها ؟ .

إذن ، فالحرية والمساواة كلتاهما – معرفياً- يمنعان احتكار الحقيقة أو الامتلاك المطلق لها ، ويفضيان الى التسليم بتعدد المفهوم واختلاف الآراء والرؤى ، ويفضي ذلك الى ” النسبية ” التي تمنح هذه التعددية ، وما يترتب عليها ، أساسها المعرفي ، والتي تقوم عليها الديمقراطية من بعد اجتماعياً ثم سياسياً ، فانما على ذلك وبه تصبح التعددية السياسية والاجتماعية والفكرية ممكنة في الواقع .

وهذا الترتيب مهم في فهمنا للواقع الديمقراطي : لأن الاستقراء الدقيق للتاريخ ولواقع الديمقراطية معاً لا يؤكده فحسب بل يجلوه شرطاً من شروط وجودها على نحو حقيقي .

وقضية النسبية هذه ضرورة شرطية . ولكنها قد تعرضت للشطط الذى خرج بها عن مدارها الصحيح . وتدفع الحضارة المعاصرة ثمن هذا الشطط بما نراه من عوج واضطراب فى جانبها الأخلاقي والاجتماعي يهزها هزاً شديداً وينذرها بالسقوط .

وانما أتاها ” أي النسبية ” الخلل من المبالغة فيها حين أخضعوا القيم العليا المتسمة بالاطلاق والثبات لمنطقها المحدود والمتغير .. فتقوضت العلاقة بالأسمى وتلاشت القدرة على التسامي الى الأعلى ، ومن ثم كان الانحدار الى الأدنى هو النتيجة المحتومة . ولكن شأن المجتمعات المتطلعة الى الديمقراطية أشد خطورة ، لأن بعض مثقفيها يريدون خطأ أن يؤصلوا لجانب الشطط وحده من هذه القضية ، فانهم لا يتحدثون عن ” النسبية ” إلا لينزلوها غير منازلها ويجروها فى غير مجراها . وبذلك يفقدون الاتجاه الصحيح الى الديمقراطية ، ويتجهون نحو أمراض مجتمعاتها . وهذا في الواقع هو أحد أسباب الخلل الرئيسية التي يعاني منها العالم الثالث – ونحن في القلب منه – بسبب بعض مثقفيه .

على كل حال ؛ إن الديمقراطية – سياسياً – تقوم على الديمقراطية اجتماعياً . وهذه تقوم على الأسس المعرفية لثقافة تطبع المجتمع ، وتحدد سلوكه ووجهته معاَ وفق مفهوم أو فكر عام تم التراضي عليه بحرية واختيار .

وعلى أساس من ذلك – سياسيا واجتماعياً – يتشكل ” الواقع ” الاقتصادي في المجتمع الديمقراطي ويأخذ طابعه وفقاً لطبيعة القوى الأكثر تأثيرا في مؤسسات ذلك المجتمع وفى ثقافته . وإننا نرى بوضوح انه حيث تتغلب حوافز الحرية الفردية ، فان المصالح – ومن ثم القوانين – تتخذ نفس الطابع : فتصل الرأسمالية ذروتها كما في أميركا. ولكن حيث تتغلب الحوافز الاجتماعية تتجه المصالح وتتكيف القوانين على نحو مختلف تبعاً لذلك ، ومن ثم تتحقق اشتراكية أكثر نضوجا كما نرى في دول اسكندنافيا التي ذهبت في مجال العدالة الاجتماعية شوطاً بعيداً بالديمقراطية ذاتها المطبقة في الجانب الأخر من المعادلة ** .

والعبرة التي نستخلصها من ذلك هي أن الديمقراطية تكفل سلمياَ – ضمن أساسها الثابت من توازن القوى الاجتماعية – إمكانية الوصول الى هدفين مختلفين بأسلوب ديمقراطي تبعاَ لمنطق ذلك التوازن الذي قد يرجح لهذا أو ذاك ولكن دون أن يختل بحكم وجود الحد الضروري المشترك من العدل الذي لا يقوم توازن بدونه ..

مفهوم القوة الجديدة

إن الديمقراطية إذن هي علاقة بين أطراف أو قوى متعددة مختلفة المصالح وهذه العلاقات تقوم على أساس من الاختلاف الذي ينطوي على جوهر الصراع من أجل الغلبة عن طريق امتلاك القوة التي تحقق ذلك . إن الجديد هنا هو مفهوم القوة . انه يميز الديمقراطية عن غيرها من أشكال القوة ، فالقوة هنا لم تعد قوة الإكراه أو القهر وإنما قوة القانون المدعوم برأي عام ، المنبثق من أسس معرفية فاعلة أصلاً ، والمعبر عن توازن قوى المجتمع . إنها القدرة على إقناع الأكثرية بمنطق المصالح أو بمعيار الأخلاق . فهذه الأكثرية التي تعطي الصوت الغالب هي التي ” تجسد القوة ” ولكنها محكومة بقوة أخرى هي قوة الحق للأقلية لا في أن تمارس حقوقها فقط ، بل حقها في أن تكون أكثرية . وبذلك فان الأقلية لا تنسحق أمام الأكثرية ولا تغيب وإنما ” تعارض ” ومعارضتها هذه تغدو إثباتاً للذات بما تمثله وحفاظا عليها بما تستهدفه . ونضالاً لامتلاك قوة الأكثرية لتحقيق أهدافها . وهكذا تصبح المعارضة سمة لازمة من سمات الديمقراطية . وبذلك تصبح القوة موزعة بالضرورة بين الفريقين بنسب مختلفة ولكن كافية لحفظ الحقوق ؛ وعلى هذا فان المعارضة هى المعادل الموضعي للحكم نفسه .

هذا هو ” التغيير ” المهم الذي طرأ على مفهوم القوة وموازينها ، وهو وحده الذي يؤدي أو يحقق تداول السلطة سليماً وديمقراطياً . ولو انتفى هذا المفهوم أو تعطل هذا الميزان للقوة لانتفى كل إمكان للتداول السلمي للسلطة ولتغير معنى الصراع وطبيعته وأشكاله . حينئذ تعود الأمور الى مجراها التقليدي فيكون الطغيان والديكتاتورية – سواء كانت ديكتاتورية فرد أم حزب أم عشيرة أم عائلة أم انكشارية عسكرية – ويكون مدار الصراع على قوة السلاح وامتلاك وسائل القمع ، ويكون ” العنف ” أو ” المؤامرة ” هما وسائل ” تداول ” السلطة أو احتكارها ووسائل العمل المضاد معاً .

إن مفهوم القوة هذا عامل مهم جداً في إدراكنا لطبيعة العملية الديمقراطية ، فليست الديمقراطية إلغاءً للصراع ولا إنهاءً للاختلاف ، ولا مسحاً للذكاء الإنساني في المناورة وابتداع وسائلة لتحقيق مصالحة أو مطامحه . ولكنها إلغاء للعنف ، وإنهاء لفرض الرأي الواحد ، ونفي للمؤامرة واستبدالها جميعاً بوسائل جديدة متوائمة مع طبيعتها القائمة على التسامح والتصالح والاعتراف بالأخر .. وهلم جرا الى أخر القيم التي تقوم عليها الديمقراطية . ومعاد هو القول بأن ذلك كله ما كان له أن يكون لولا عامل التوازن في القوى الاجتماعية الذي أعطى ويعطي “المعنى” أو “المفهوم الديمقراطي” للقوة محتواه الايجابي .

المجتمع المدني

والكلام عن توازن القوى في المجتمع الديمقراطي يتصل اتصالاً وثيقاً بالكلام عن قوى المجتمع المدني التي تكفل ذلك التوازن وتحققه فلا تفرط فيه قوة على أخرى ولا تطغى، إنها القوة المانعــة لطغيان السلـطة أو الدولة التي تستشري بطبيعتها طالبة المزيد .. ولكن الأمر الأكثر أهمية هنا هو أنها ” توقف ” السلطة وتحد منها وتواجهها ليس من أجل أن تحل محلها ، وانما لتلزمها حدودها المتفق عليها . أي انها بمثابة الحارس الذي يصدها عن التجاوز ، تاركة مصير السلطة ذاتها لعملية التداول السلمي الذي هو النتيجة العملية لذلك التوازن نفسه تبعاَ لتغير موازين القوة نتيجة لتغير مفهومها في المجتمع .

وقد تعرض مفهوم أو مصطلح ” المجتمع المدني ” لسوء فهم واسع ، وبخاصة فى عالمنا . مما جعله – برغم وضوحه – غير واضح للكثيرين ، وجعله عرضة للتشويه والشطط والاضطراب بين الداعين إليه والرافضين له على حد سواء .

والسبب فى ذلك أت من اختلاف النظر الى الموضوع . وليس من الموضوع نفسه . فحين يتحدث باحث غربي فانه يعرفه بأنه ” الحالة الأجتماعية المقابلة للحالة الطبيعية ، والناجمة عن عقد اجتماعي كما قال بذلك روسو وسان جوست” ( المعجم الفلسفي – لالاند Lalande ) . اما حين يتناول باحث عربي الموضوع فانه يعرف المجتمع المدني بأنه ” المجتمع المدني وليس المجتمع الديني .. المجتمع الذي يفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية” ( حسن حنفي – مجلة ” الوسط ” العدد 155 ، تاريخ 16 / 1 / 1995 ) .

وفارق بين الأمرين .

ولكنه الفارق الذي يكشف لنا موقع الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون حين لا ينظرون الى المصطلح من خلال وظيفته القائمة في الواقع ، أي طبيعته ، وإنما من خلال نشأته فى الماضي ، أي أسبابه فى مسار مجتمع ما في مرحلة من تاريخه .

ان المفاهيم – وخاصة الاجتماعية – تاريخية ، بعكس ” القيم ” . ولذلك فهي متطورة بالضرورة . فاذا كان فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة مثلا أصلاً فى وجود النهضة الغربية لأسباب خاصة بها – وهو أمر لا جدال فيه – فليس كل مانتج عن هذه النهضة ناتجاً بالضرورة أو مرتبطاً بذلك الفصل من ناحية . ومن ناحية أكثر أهمية لا ينطبق ذلك على تطور مجتمعات لم تعان من ذات المشكلة لانعدام الأسباب التاريخية الموضوعية لها. ومن هنا ؛ ليس ثمة ما يحول بين هذه المجتمعات وبين الاستفادة من حكمة الحضارات الأخرى وتجاربها . ونحن نعلم انه بسبب الصراع الذي نشب بين الكنيسة وطلائع المجتمع المدني في سياق التجربة الغربية أصبح مفهوم المدني مناهضاً لمفهوم الديني وهو أمر خاص بتجربة مجتمع محدد هو المجتمع الغربي فى نطاق تطور خاص به غير قابل للتعميم لا تاريخياً ولا علمياً ولا واقعياً . والذين يحاولون ذلك انما يقومون به ” قسريا ” على غير هدى .. فان التجارب الاجتماعية نفسها لا تنقل ولا تقبل ذلك . لكن نتائجها أو دروسها وحتى قوانينها هي التي يمكن الاستفادة منها باعتبارها من تراث الإنسانية العام ، و”الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها” .

ومن أجل هذا يتطلب النظر الى ذلك ” تكييفاً ” متجدداً بحيث نتناول ونعرف مثل هذه القضايا من حيث طبيعتها أي وظائفها وليس من حيث أسبابها أي تاريخيتها التي لا تختلف فقط من مجتمع الى أخر بل من فترة الى أخرى فى المجتمع الواحد ذاته *** .. ومن اصولنا البالغة الدلالة ” العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ” .

ماهو إذن المجتمع المدني ؟

من الناحية الانطباعية، وهي المنهجية التي اتبعتها هذه السطور كما أسلفنا منذ البداية توخياً للغايات العملية التي تتطلع اليها مجتمعاتنا ، قد يسهل القول – نقلا عن الواقع أو وصفاً له – انه يتمثل في تلك المؤسسات الوسطية التي تملأ المساحة أو الفراغ – إذا شئت – القائمة بين الناخب والمنتخب أو بين المجتمع ككل وبين الدولة ممثلة لحقوق المجتمع ومدافعة عنها، أمام عدوان قوى السلطة – الدولة الحديثة التي بطبيعتها تحب التوسع على حساب تلك الحقوق والعدوان عليها .

أبعد من ذلك ان المجتمع المدني كائن جاء من مجمل التكوين الاجتماعي والثقافي والسياسي والقانوني حيث تنبثق السلطة ذاتها من ذلك التكوين نفسه وتجد نفسها مقيدة بشروطه. وحيث من جهة أخرى تنبثق قوى اجتماعية مستقلة عنها للحد من طغيانها أو انحرافها ، ولأداء مهمات أخرى تكمل دورها وتسد الفراغات التي تتركها . وفي ظروفها الغربية الخاصة، فقد نشأت لمواجهة سلطة الكنيسة ، ونتيجة لتلك المواجهة. ومن هنا أصبح المدني ضد الديني في هذا السياق الخاص بل المتميز الخصوصية . أما اليوم فان قوى المجتمع المدني انما تواجه سلطة الدولة لا الكنيسة ، وهو تطور كبير يكاد يضع الكنيسة أقرب الى قوى المجتمع المدني منها الى الدولة ****..

وههنا ” مسألة ” كما يقول الأقدمون ..

فاذا كانت مكونات المجتمع المدني هي تلك المؤسسات ، فاننا نجد مجتمعاتنا مزينة بمثلها . ومع ذلك فليس هنالك أبعد من القول انها ” مجتمعات مدنية ” ( إلا انها مجتمعات دينية ) . ذلك لأن العبرة ليست في وجود المؤسسات وانما في فاعليتها . فبدون ذلك تصبح المؤسسات كالجسد بلا روح .

واذن فما هي ” الروح ” التي تعطي هذه المؤسسات حياتها .. أي فاعليتها ؟ .

لقد حاولت البحث عن ” عامل رئيسي ” ترجع اليه العوامل الأخرى أو تصب فيه أو تفسر به . واعدت النظر مرتين في استقراء ” الواقع ” واستخلاص جوابه .

نعم ! إذا ما استقرينا الواقع وأحسنا الاستقراء ؛ فسنجد ان التسليم العام بسيادة القانون سيادة حقيقيه ، هو تلك “الروح” التي تمنح الحياة والفاعلية لمؤسسات المجتمع المدني . إذ يصبح ” القوة ” المهيمنة التي تحتكم إليه ، وتخضع له كافة المؤسسات سواء منها المنتمية الى المجتمع أم الى الدولة . إذ من أين تستمد مؤسسة مدنية أو اجتماعية ” قوتها ” لمواجهة مؤسسة سلطة أقوى منها بما لا يقاس ؟ الجواب واضح : من ” القانون ” الذي يهيمن على الجميع ويخضع له الجميع . وهكذا فان مراسلاً فى صحيفة ” الواشنطن بوست ” ما كان له ان يهز أقوى رئيس في العالم حتى يرغم على الاستقالة *****– بصرف النظر عن الدوافع – لو لم تكن سيادة القانون هي القانون الأول .

ونعود الى ” توازن القوى الاجتماعية” الذي افضي اليه تطور فكري وتاريخي معين: لنجد السبب الأول في هذه السيادة المحسومة للقانون ( باعتباره التعبير عن العقد الاجتماعي الذي أشار اليه معجم لالاند )، بما افرزته من ثقافة، ونسجته من علاقات, وحققته من تغيير في ” مفهوم القوة ” ؛ فهذه كلها ولا ريب عناصر متضافرة ، ولكن ” سيادة القانون ” هي المحصلة الظاهرة والمباشرة التي أعطت المجتمع المدني طابعه المشهود، ومنحت مؤسساته فاعليتها .

كما رأينا الديمقراطية سياسياً تفرز الحكم والمعارضة بنفس الوقت: فإننا نراها في المجتمع المدني تفرز السلطة كما تفرز المؤسسات الوسيطة في ذات الوقت كذلك ، من أرضية مشتركة ذات حقوق وواجبات مشتركة يحكمها قانون واحد. كما يكفلها “توازن” ثابت مستقر على تراض عام – حر .. ومن هنا تكتسب مؤسسات المجتمع قوتها… من ذات القانون الذي يمنح السلطة ” صلاحيتها ” و “مشروعيتها”.******

وبهذا يصبح المجتمع المدني هو بيئة الديمقراطية التي تعيش فيه ؛ فالمجتمع الديمقراطي هو مجتمع مدني بالضرورة والعكس صحيح الى حد ما..

واذا كان المجتمع المدني هو ذلك المجتمع الذي تكون السيادة فيه للقانون، فإن سيطرة أو سطوة العصبية – بكل أشكالها – تفقد مخالبها وأنيابها. هذا لا يعني بحال أنه لا يوجد شيء من ذلك في المجتمعات المدنية، ولكن “وجودها” مقرون بوجود الوسائل المتاحة للقضاء عليها او الخروج منها. ونحن نرى مثلاً حركة السود في أمريكا تنتزع حقوقها الواحد بعد الاخر بهذه الوسائل التي تقضي بها على العصبيه العرقية خطوة خطوة كلما تقدم وعيها وقامت بواجبها نحو نفسها مستفيدة من ” سيادة القانون” تجاه العصبية السائدة بالواقع والتي تتراجع امام القانون كلما قام ذو حق بواجبه لنيل حقوقه . وانه لهذا السبب يحرز السود في اميركا من الحقوق أكثر بكثير من تلك التي يحرزونها في قارتهم ذاتها ، بالرغم من ” السيادة والاستقلال ” .

وحين نقول اننا لا نمثل حالة ” مجتمع مدني ” فاننا لا ننفي وجود قانون ؛ فما أكثر هذه القوانين في عالمنا. ولكننا نقول أن السيادة ليست له ، بل هي في الحقيقة عليه ، فالعصبيات قبلية او حزبية او عسكريه او مذهبية او عائلية هي التي تحـكم القانون وليس العكس لان هذه القوانين لم تصدر عن عقد اجتماعي وانما عن حاجات سياسية للفئات الحاكمة، والدساتير نفسها تبدل كما تبدل الملابس في المناسبات وبالسهولة نفسها ، وهي حالة تنطبق علينا – نحن المسلمين – بصفة خاصة منذ غابت سيادة الشريعة فسادت قوة ” الطاغوت” وأستفــحلت، خاصة بعد الانقلابات العسكرية التي اضافت الى العصبيات واحدة أشد عتواً وأكثر عنفاً ..

تلك هي الديمقراطية كما تقرأ في واقعها المطبق واذا كان ثمة اضافه لازمة ، فهي الاضافة التي لا يجهلها من يمارسها ويعيش في كنفها او يتتبع مسيرتها في مظانها من مراجع البحث او في مسارها من وقائع العمل بها في الواقع . وتلك هي: ان الديمقراطية هي مراجعة مستمرة غير جامدة . وليست وقفاً على نظام دون أخر . فهي منظومة من القيم والثقافة تصنع الانظمة وليس العكس وهي لهذا تطور وسائلها كلما تطورت مشكلاتها واجدة لها الحلول المناسبة . ثم هي بارتكازها على الحرية – تصحح اخطاءها على نحو مطرد، وتعالج اسقامها باسلوب متجدد. إذ الحرية وحدها – وهي مناط مسئولية الانسان – هي القادرة على ذلك . والحرية هي روح الديمقراطية بلا جدال . ولقد رأينا بأم أعيننا كيف انهارت نظم وامبراطوريات بسبب عجزها عن معالجة أمراضها او تصحيح أخطائها . ولم يكن ذلك العجز الا لانعدام الحرية التي اذا غابت حلت العبودية محلها تحت أي اسم.

ومن ذلك كله ندرك ان الديمقراطية هي نتيجة تطور حي طويل ؛ نمت كأي كائن بايجابياتها وسلبياتها ، حتى أصبحت وجوداً طبيعياً قائماً بالفعل ، تعيش في كنفه مجتمعات تتنفس فيه كما تتنفس الهواء . ولا أبلغ في الدلالة على ايجابية ذلك الوجود من هذه الاصوات العميقة الصادرة من صميم الفكر الديمقراطي ذاته ؛ ناعية سلبياتها وفاحصة في أمراضها. ذلك لان ” الكائن “القوي لا يجأر إلا إذا أحس بألم من داء أو عرض من ضعف أو خوف من عاقبة ؛ فهو يرى المرض لأنه معافى . فليس من المنطق في شئ ان يعمد هذا أو ذاك الى هذه الظواهر أو تلك الاصوات ليصدر حكمه القاطع على الديمقراطية بالويل والثبور وسوء المنقلب وعدم الصلاحية ، لانه انما يحكم بجهله على نفسه!

وما من أحد قط يدعى ان الديمقراطية هي نظام مثالي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ( لأن الديمقراطية فكراً هي مناهضة ومناقضة لاحتكار الصواب ) ، وأقصى ما يصل اليه مؤيدوها هو القول : انها إن لم تكن الأمثل والأكمل فهي أفضل ما وصلنا اليه حتى الآن ..

ومن حق من يعيش الديمقراطية متمتعاً بآلائها ان يتحسس مواطن الضعف فيها طلباً للعلاج . ويتلمس جانب النقص تشوقاً الى الكمال . اما الذين يعيشون في ظلام العبودية فأولى لهم أن يفتحوا عيونهم على ايجابيات الديمقراطية حتى يتعلموا ما ينفعهم ، ويعملوا حتى يخرجوا من ظلام العبودية الى نور الحرية ثم يتكلموا حينئذ – اذا ارادوا – عن الأمراض والاعراض ؛ فإن ” المريض ” الذي يطلب العلاج ليصح، غير الصحيح المعافى الذي يتوقى المرض ليظل صحيحاً معافى .

ولا يصح الخلط بين ” صحيح ” يتحدث عن ” العلل والأمراض” من وجهة وقائية، وبين “مريض” تنهشه الأسقام المزمنة وتفترسه الجراثيم القواتل: فيشن الهجوم على العوارض الجانبية تفادياً لتعاطي العلاج نفسه. إن هذا بحد ذاته حالة مرضية خطيرة تستحق المعالجة أيضاً.

أقرأ أيضا:  المفكر والمؤرخ زيد بن علي الوزير في سطور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى