شهيدُ الدولةِ المدنية: البروفيسور أحمد شرف الدين “قراءة في معنى الفقد وأمانة المشروع الوطني”

شهيدُ الدولةِ المدنية: البروفيسور أحمد شرف الدين “قراءة في معنى الفقد وأمانة المشروع الوطني”
- حسن الدولة
الخميس 4 ديسمبر 2025م
في مثل هذا اليوم من عام 2017م كتبتُ خاطرة قصيرة على صفحتي، أستعيد فيها شيئاً من ملامح شهيد الدولة المدنية، البروفيسور أحمد شرف الدين. وبعد أن وجدت تعليق الدكتور عباس صهر الدكتور- زوج ابنته العجيبة لمياء أحد أعضاء فريق إعداد مسودة الدستور – مشيداً بتلك الكلمات ومذكّراً بعمق التجربة التي عشناها معه، رأيت أن تلك الخاطرة الوجيزة تستحق أن تتحول إلى مقال يليق بسيرة رجلٍ حمل مشروعاً أكبر من ذاته، ودفع حياته ثمناً له. وها أنا أُثبت نص الخاطرة كما كانت بين معكوفتين:
((خاطرة عن شهيد!
الشهيد البروفيسور أحمد شرف الدين سار في الزمن الثوري حاملاً مشعل التنوير فريداً متفرداً، مطالباً بالدولة المدنية التي ترعى المتدينين من بغي بعضهم على بعض، وطالب أن يكون الدستور هو النص الحاكم غير المحكوم بفقه الماضين. هكذا سار في زمنه الثوري غريباً في وسط متخلّف محدّقاً فيه، بعين الفكر العلمي، ومضى يحلّل الواقع وعلاقاته وآلياته وتناقضاته وصراعاته، وتناول الطروحات التي بحكم البداهة بدأ بمناقشتها، يقلّبها على مختلف وجوهها ويوجّه إليها الأنظار والأذهان، ويكشف عن الجذر الرئيسي لمشاكل اليمن في أضلاعه الثلاثة: القبلي والعسكري والديني، غائصاً في أعماق التاريخ ناظراً للأحداث بنظر ثاقب مستعيناً بمفاهيم علمية، وهذا ما أضفى على محاضراته طابع المصداقية والأفق المستقبلي))

لكن الخاطرة، مهما اتسعت كلماتها، لا تكاد تلمس إلا طرفاً من سيرة رجلٍ عاش مشروعاً وطنياً كاملاً، وسقط شهيداً وهو على عتبة تحقيق أهم أحلامه: دستور مدني حديث تتسع روحه لكل اليمنيين دون استثناء.
لقد أفضت ثورة 11 فبراير 2011م إلى مشهد سياسي غير مسبوق في تاريخ اليمن، إذ اجتمعت كل القوى والمكونات السياسية والدينية والمدنية في مؤتمر حوار وطني شامل استمر ستة أشهر وضمّ الجميع بلا استثناء، بما فيهم الجماعات الدينية بكافة أطيافها، وأنصار الله، وممثلو القبائل، والأحزاب، والجماعات العقائدية، إضافة إلى نخب ثقافية وفكرية من مختلف المشارب. كان ذلك الاجتماع الكبير بداية محاولة جادة لتأسيس دولة جديدة تقوم على عقد اجتماعي حديث. وفي قلب هذا المشهد وقف البروفيسور أحمد شرف الدين، رئيس فريق بناء الدولة، الذي لم يكن مجرد رئيس فريق بل كان العقل الدستوري الأبرز في تلك اللحظة.
درس شرف الدين كل دساتير الدول العربية والإسلامية، واطّلع على التجارب العالمية في الانتقال الديمقراطي، وسعى إلى صياغة مبادئ دستورية تضع اليمن على أعتاب دولة مدنية حديثة. كان يرى أن الدستور ينبغي أن يكون النص الحاكم لا المحكوم، وأن الدولة المدنية يجب أن تؤمن حماية للمجتمع بمن فيهم المتدينون، من بغي بعضهم على بعض، وأن تُرفع السياسة عن سطوة الفقه التاريخي، وتُعاد إلى منطق المؤسسات والقانون والعقل. وقد استطاع بمنهجه العلمي ورؤيته العميقة أن يوجّه النقاشات داخل فريق بناء الدولة نحو تشريح المشكلات البنيوية التي يعاني منها اليمن في أضلاعه الثلاثة: القبلي، والعسكري، والديني، مستحضراً التاريخ بعيون علمية تكشف الآليات والمحركات الحقيقية للصراع.
وعقب انتهاء أعمال الحوار، شُكلت لجنة صياغة الدستور برئاسة العلامة القانوني إسماعيل بن أحمد الوزير، أول من سعى إلى تطوير القضاء اليمني بمؤسساته ومحاكمه ونياباته. وضم الفريق نخبة من أساتذة القانون والمتخصصين، كان من بينهم الدكتور عباس الذي أعادني تعليقه إلى تلك اللحظة، فدفعني إلى تحويل الخاطرة إلى مقال. وخرجت اللجنة بأفضل مسودة دستور عرفها اليمن، دستور يؤسس لدولة حديثة تقوم على فصل السلطات، واستقلال القضاء، وتقييد المؤسسة العسكرية، وحماية الحقوق والحريات، واعتبار المواطنة قاعدة الشرعية الوحيدة.
ولعل من أبرز بنود تلك المسودة وأكثرها تقدماً البند الذي نص على منع أي ضابط في القوات المسلحة أو الأمن من الترشح لرئاسة الجمهورية إلا بعد مرور خمسة عشر عاماً على خدمته النظامية. هذا النص وحده كان كفيلاً بإزعاج رأس النظام السابق وكل منظومته، لأنه كان يعني خروج السلطة من يد العسكر إلى رحاب الدولة المدنية، وهو ما عجّل بالتخطيط للثورة المضادة التي أجهضت حلم التحول الوطني.
لقد كان البروفيسور أحمد شرف الدين شهيداً حقيقياً للدولة المدنية، لا بمعنى الاصطفاف السياسي، بل بمعنى الخسارة التي لحقت بالمشروع الوطني نفسه. فقد سقط وهو يغادر منزله متجهاً إلى الجلسة النهائية للجنة الدستورية، وكأن الرصاص أراد أن يوقف آخر خطوة قبل أن يرى مشروعه النور. ولم يكن الرجل شهيداً لمكون أو حزب أو جماعة، بل شهيداً لفكرة أراد لها أن تكون وطناً يتسع للجميع، دولة قانون لا دولة سلاح، دولة مواطنة لا دولة غلبة، ودستوراً حيّاً لا نصوصاً ميتة.
إن تحويل تلك الخاطرة إلى مقال ليس مجرد توسعة في القول، بل هو محاولة لإعادة الاعتبار لرجلٍ حمل مشروع اليمن على كاهله، ومضى في طريقه وحيداً في زمنٍ كان فيه التفكير المدني نفسه غربة. ويبقى السؤال الكبير معلقاً فوق حاضرنا المثقل: هل سيدرك اليمن يوماً أن مشروع شرف الدين لم يمت، وأن الدستور الذي حلم به هو الطريق الوحيد إلى سلام عادل ومستقبل يليق باليمنيين؟
رحم الله شهيد الدولة المدنية، وأحسن الله عزاء اهله وذويه وأصدقاءه ومحبيه والدولة المدنية التي فقدت بفقده، ومات مشروعها بموته.



