كتابات فكرية

حين تصبح الحرية تهمة عند الطغاة

حين تصبح الحرية تهمة عند الطغاة

  • حسن الدولة

الأحد 19 أكتوبر 2025-

لطالما كانت الحرية شبحًا مرعبًا في عيون الطغاة، لا لأنها سيئة في ذاتها، بل لأنها تهدد سلطتهم. لهذا صُوِّرت للناس ككارثة، وجرى تغليفها بالفوضى، وربطها بالإلحاد، والانحلال، والعداء للدين والوطن والأخلاق. ومن فرط التكرار، صدّق كثير من الناس هذا التشويه، حتى بات بعضهم يخاف من الحرية أكثر مما يخاف من القمع.

يُروى أن امرأة عجوزًا بكت بحرقة يوم مات أحد الطغاة، فلما سُئلت عن سبب حزنها قالت: “يا ويلنا، ستأتينا الحرية!” لم تكن هذه المرأة تدرك معنى الحرية، لكنها سمعت عنها ما يكفي لتخشاها، لا لذاتها، بل لما نُسب إليها ظلمًا من قبل خصومها؛ الطغاة والمستبدون، ومن يتغذّون على الجهل والخوف والتخويف.

وهذا ليس أمرًا غريبًا، فالخوف من الحرية ظاهرة معروفة، كتب عنها المفكرون طويلاً. إريك فروم، على سبيل المثال، يرى أن الإنسان يهرب من الحرية لأنها تكلّفه مسؤولية ذاته، وهو ما يخيف من تعوّد الطاعة. يقول: “الحرية الحقيقية تتطلب شجاعة. والناس كثيرًا ما يفضلون الخضوع على القلق الذي تسببه حرية القرار.” ولهذا تجد من يدافع عن الجلاد، لا حبًا فيه، بل خوفًا مما لا يعرفه خارج قفصه.

يحدث الأمر ذاته حين يُتَّهم كل من يدعو إلى الإصلاح أو التفكير أو حرية الرأي بأنه “ليبرالي”، وكأنها شتيمة. ويُقدَّم الليبرالي بوصفه خارجًا عن الدين، أو حاملًا لأجندة غربية، أو عدوًا للمجتمع. في حين أن الليبرالية، ببساطة، تعني احترام حرية الفرد في الرأي والاعتقاد والاختيار، ما لم يعتدِ على حقوق الآخرين أو كرامتهم. ولكن ما يُخيف المتشددين في هذه الحرية هو أنها تُلزمهم بالتعايش، وتنتزع منهم سلطة الوصاية على الناس.

الحرية لا تناسب من اعتاد أن يتكلم باسم الله أو الوطن أو الجماعة. رجل الدين المتشدد، مثلاً، لا يقبل بفكرة التعدد، لأنها تُفقده سلطته المطلقة. والإسلاميون عمومًا، حين يدخلون المعترك السياسي، لا يرون أنفسهم شريكًا، بل بديلًا عن الدولة. يُقدّمون مشروعهم الحزبي بوصفه الإسلام ذاته، ويطالبون بالطاعة كأنهم مفوضون من الله، لا مجرد فاعلين سياسيين.

ولأن الحرية تتصادم مع هذه الرؤية، فإنها تصبح العدو الأول. ولهذا يتهمون العلمانية بأنها ضد الدين، مع أن العلمانية الحقيقية لا تفصل الدين عن المجتمع، بل تفصله عن سلطة الدولة، وتحميه من التوظيف السياسي. أما من استغلوا العلمانية كقناع للاستبداد – من صدام إلى القذافي – فليسوا ممثلين لها، بل للطغيان في أقبح صوره.

وللمفارقة، فإن كثيرًا من رؤساء الدول الغربية علمانيون، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من الإيمان الشخصي أو من احترام التعددية الدينية، بل إن حرية المسلمين الدينية في الغرب مصونة أكثر مما هي في كثير من الدول الإسلامية، حيث تُراقب المساجد، وتُقمع الآراء، وتُستخدم الفتاوى لإسكات المخالفين. فهل كانت أنظمة “التديّن السياسي” أكثر عدلًا في السودان أو أفغانستان أو إيران؟ لم تمنع الشعارات الدينية عنهم الفشل، لأن المشكلة لم تكن في الدين، بل فيمن احتكر تمثيله.

الدين لا يُلغي الاستبداد، ولا يمنع الظلم، تمامًا كما أن العلمانية لا تعني بالضرورة غياب الأخلاق أو الإيمان. كل ذلك رهن بالدولة ونظامها، لا بالشعارات التي ترفعها. فالدولة، ككيان معنوي، لا دين لها، بل وظيفة، وهي تحقيق العدالة والمساواة، لا فرض العقائد ولا تبرير السلطة بالسماء.

من هنا، فإن الإسلام السياسي لا يمثل الدين، بل يستغله، ويختزل الشريعة في العقوبات والحدود، ويُغفل الرحمة والحرية والعدالة، ليقيم دولة قمع باسم الفضيلة، ويتحول الحاكم إلى ظل الله، يُحاسب الناس على النوايا، ولا يُحاسب نفسه على الجرائم.

والأدهى من ذلك أنهم غالبًا بلا مشروع اقتصادي أو اجتماعي واضح، ولا يقدمون إلا شعارات فضفاضة مثل “الإسلام هو الحل”، دون خطة واقعية، أو احترام للمواطنة المتساوية، أو استعداد للتعددية الحقيقية. في المقابل، حين تكون الدولة علمانية بحق، فإنها تقف على مسافة واحدة من الجميع، وتكفل الحقوق لكل مواطن، أيًا كان دينه أو طائفته أو خلفيته.

إن الطغيان، لا الحرية، هو من قلب موازين السياسة، وزيّف مفاهيم الدين، وأخاف الناس من المشاركة. لهذا لم يكن الربيع العربي عدوًا للدين أو لقيم المجتمع، بل انتفاضة ضد الفساد والبطش. غير أن الفشل لم يكن في الثورة، بل فيمن حاول ركوبها أو استثمارها أو إجهاضها، سواء كانوا طغاة أم متشددين.

الحرية لا تعني الإلحاد، كما أن التدين لا يبرر الاستبداد. ومن يعيش في مجتمعات حرة يدرك أن الدين لا يزدهر بالإكراه، بل بالاختيار. والإنسان لا يُكرم بالخضوع، بل بالكرامة. وما لم نؤمن أن الدولة يجب أن تكون حيادية تجاه الأديان، عادلة بين المواطنين، سنظل ندور في ذات الحلقة: من “الزعيم المؤمن” إلى “أمير المؤمنين”، والنتيجة واحدة.

الخوف من الحرية ليس دفاعًا عن الدين، بل دفاع عن سلطة تُخشى زوالها. أما من يحب الحرية، فلا يخافها، لأنها لا تظلم، ولا تُقمع، ولا تُرهب أحدًا. وكما يُقال في الطب: “اجتنب التدخين تصحّ”، نقول في السياسة: اجتنب الأدلجة والاستبداد، تكن حرًّا وعادلًا.

اقرأ أيضا: من بائع الماء إلى قائد وصانع للوعي .. ملحمة عيسى محمد سيف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى