الإعلام وتشكيل الوعي

الإعلام وتشكيل الوعي
- امين الجبر
الأربعاء 5 نوفمبر 2025-
يُعد الإعلام ظاهرة إنسانية عالمية فريدة، وتجلٍ حضاري رافق البشرية منذ فجرها الأول، وارتبط بمسيرة الإنسان على مر العصور، فكان شاهداً على تطور المجتمعات، ورافداً أساسياً في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه اهتماماته.
فما شهدته وسائل الإعلام عبر التاريخ من تحولات جذرية لم يكن فقط مجرد تغيير في أدوات الإبلاغ بل هو انعكاس مباشر لتغيرات عميقة في بنيات المجتمعات نفسها، وامتداد لتفاعل الإنسان مع محيطه، وسعيه الدائم لفهم واقعه وإعادة تشكيله.
لقد تعددت وتنوعت أشكال الإعلام بتعدد وسائل إنتاجه وانتشاره، وكلما تطورت التكنولوجيا بُنيت وسائل جديدة وأدوات مُحسّنة تخدم هذه الظاهرة. ففي مراحلها الأولى كانت وسائل الإعلام مرتبطة بوسائل بدائية تجمع بين الإشارة والرمزية، مثل إشعال النيران من قمم الجبال لإيصال رسالة تنبيهية أو إعلانية، أو ضرب الطبول كإشارة حضارية ذات دلالات متعددة، إضافة إلى الإطلاق المدروس للرصاص في مناسبات الطوارئ، لتتحول بذلك إلى أكثر من مجرد وسيلة نقل للمعلومة. كانت هذه أُسس إعلامية فطرية، سعت إلى توحيد المجتمع وإعلام أفراده بما يستجد من أحداث وأوقات، قبل أن يتجلى الإعلام في منظومة أكثر تنظيماً مع ظهور الصحافة والإذاعة والتلفزيون. ولم يكن هذا التطور فقط من حيث الشكل، بل والوظيفة، فوسائل الإعلام الحديثة الممتدة حتى الإعلام الرقمي اليوم جعلتنا نعيش في قرية كونية مفتوحة على العالم، ومتشابكة الأطراف، حيث تتكثف الرسائل وتتباين معانيها، ليصبح الإعلام بالفعل قوة صاعدة لا يمكن تجاهلها أو إنكار تأثيرها.
غير أن التفاعل مع الإعلام يتباين تبعاً لمستوى الوعي الجمعي، ومدى نضج الثقافة المجتمعية، إذ نجد في بعض المجتمعات نمطاً أبوياً تقليدياً يستهلك الإعلام فقط كوسيلة نقل للمعلومات الرسمية، دون وعي نقدي أو إدماج فاعل، فتقل فاعلية الإعلام لديه ولا يَعمق أدائه سوى كونه “صوتاً مسموعاً”. بينما في المجتمعات الديمقراطية ذات الأسس الليبرالية والثقافات المؤسسية المتطورة، يرتقي الإعلام إلى مرتبة السلطة الرابعة القادرة على التأثير الفاعل في صنع الرأي العام، بل والتدخل في صناعة القرار، حيث تتشابك أدوار الإعلام بين التنوير والتثقيف، وتشكيل الاتجاهات والابتكار في فضاء الأفكار.
واليوم، مع الطفرة الرقمية والتقنية المتسارعة، لم يعد الإعلام حكرًا على قنوات أو جهات محددة، بل أصبح في متناول الجميع، وتضاعفت أساليبه وأدواته، فتداخلت الفضاءات الإعلامية، من منصات اجتماعية، وقنوات بث مباشر، ومدونات شخصية، وغير ذلك من آفاق تواصل لم تكن متاحة للبشرية من قبل. فهذه الثورة الرقمية اختزلت المسافات، وجعلت من العالم غرفة إعلامية متكاملة، تتعاظم فيها قدرات التأثير وتأخذ أبعاداً راهنة ومستقبلية سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
إن هذه الوضعية تستدعي منا تعاملاً إيجابياً واعياً مع الإعلام، بعيدا عن استسهال رفضه أو شيطنته، لأن من يعزل نفسه عن مخرجات الإعلام المعاصر يظل خارج دائرة تطورات الواقع الاجتماعي والتاريخي، معرضاً لأن يُساح في التيارات المتسارعة دون مقاومة. فالإعلام هو الواقع الجديد الذي يسطره الحاضر ويصوغ ملامح المستقبل، وليس مجرد أداة نقل خبر. ولهذا فإن معالجة الإعلام يجب أن تكون ضمن رؤية استراتيجية رصينة، تعزز الوعي الجماهيري، وتدعم الثقافة المستنيرة، وتدفع نحو تنمية القدرات المجتمعية على التفاعل، النقد، والابتكار.
بخلاصة القول، الإعلام هو الأفق الحضاري الأوسع الذي يشكل واقع الإنسان اليوم، وأداة حيوية للتغيير والتحول الاجتماعي والسياسي والثقافي، وهو مسؤولية إنسانية جامعة تتطلب منا جميعاً إدراك أبعاده، واحترام تأثيراته، والتعامل معه بوعي فاعل يبني الحاضر ويهيئ المستقبل بجدارة.
اقرأ أيضا: قراءة لمقال (فضيلة التداول السلمي للسلطة) للقاضي عبد العزيز البغدادي




