التكنولوجيا تغتال اللغة العربية وخطوطها
التكنولوجيا تغتال اللغة العربية وخطوطها
شكل الحرف العربي أحد الخيارات أمام الفنان التشكيلي المعاصر بعد أن اكتشف مدى ما يتمتع به من قدرات إبداعية كبيرة.
ليس ثمة حضارة أولت فن الخط الاهتمام الذي حظي به في الحضارة العربية، فقد عني الفنانون العرب منذ بداية تاريخهم بفن الكتابة والخط الجميل، ونال من تقديرهم أكثر مما نالته الفنون الأخرى، كما أن الفنان العربي لم تتجل عبقريته في ناحية من نواحي الفن بقدر ما تجلت في فن الخط العربي.
استخدم الخط العربي في الزخرفة، ومنه وجدت روائع الفن العربي الإسلامي، فلا يمكن أن يكون هناك خط أوفر للزخرفة من الخط العربي بحروفه التي تمتاز بالاستقامة والتقويس، وخطوطه العمودية والأنيقية.
انتشرت أنواع الخط العربي وتطورت على مدى التاريخ، وكان لكل عصر رواده، كما تنوعت أنواع الخط العربي لتصل إلى أكثر من 100 لا يخطها إلا من تعلم بصبر وأمسك بطواعية قصبة الخط وأقلامه المتنوعة.
التوقيع بالاسم
يبلغ عدد الخطوط المتدوالة في الوقت الحالي بأغلب الدول العربية والإسلامية 20 نوعاً، ويحتاج من يرغب في الحصول على إجازة في الخط العربي ويصبح أهلاً لأن يوقع باسمه تحت كتابته أن يكون على معرفة بالخطوط الرئيسة، وهي الرقعة والنسخ والثلث.
في هذا السياق يقول الباحث في الخط العربي أحمد الأمين الزائدي إن الإجازة في الخط العربي تقليد درج عليه الخطاطون منذ مئات السنين، بحيث يتدرج الخطاط في سلك التعلم على يد معلمه حتى يرى المعلم أنه قد أتقن أصول الخط وأصبح أهلاً لأن يوقع باسمه على لوحاته، وأن يعلم الخط لطلبته في ما بعد، وجرت العادة عند المعاصرين أن تعطى الإجازة في خطي الثلث والنسخ معاً، وقد تعطى في غيرهما من الخطوط كالرقعة والديواني، وللحصول على الإجازة لا بد لطالبها أن يتعلم على يد خطاط متقن عارف بضوابط الخط وأصوله، ويستحسن أن يكون مجازاً ليتصل الطالب بسلسلة الخطاطين ممن سبقوه، وقد يستغرق الحصول عليها مدة تطول لسنوات وقد تقصر بحسب مهارته وموهبته في الخط”.
التكنولوجيا لن تسرقه
لعل ما تقوم به اليد التي ترسم الأحرف العربية لن تتمكن التكنولوجيا من اقتحامه، إذ بقى الخط العربي فناً مستعصياً على التقليد تكنولوجياً، على رغم هينمتها وإتاحتها أنواعاً من الخطوط العربية في مختلف التطبيقات.
يرى الخطاط مسعود بن حافظ أن “التقنية لن تؤثر في الخط العربي، لأن خط اليد له روح وفن وجمال لا يوجد في الخط الحاسوبي”.
كما يذهب الخطاط عبيد النفيعي إلى أبعد من هذا الرأي، إذ يرى أن الخط يتناغم مع روح الخطاط، مؤكداً أن “التكنولوجيا لن تستطيع بجمود مدخلاتها وقيود لغاتها أن تنتج ما تنتجه اليد، فللخط عندما يكتب وترصف سطوره وتتساوى كتل تراكيبه من حركات وسكنات، علامات فنية ما زالت شامخة منذ مئات السنين”.
ويبدو أن أغلب الخطاطين يناصرون الرأي الذي يؤكد أهمية حركة اليد التي تنتج أبهر أنواع الخطوط المستعصية على التكنولوجيا، إذ يوضح الفنان والخطاط مهدي حوماني أن الخطاط هو من وضع الحرف للتكنولوجيا، وما يقوم به الخطاط لا يمكن لها أن تقوم به، فالانحناءات في الأحرف والسيطرة على المد من الصعب أن يقوم بهما برنامج في الحاسوب”.
الحداثة لصالح الخط
يرى كثير من هواة الخط أن الحداثة أسهمت في إنعاش فن الخط العربي، وفي هذا السياق يتحدث محمود علي، الذي نمت موهبة الخط لديه بفعل اهتمام والده بهذا الفن، قائلاً “بدأت عيني تلتقط لوحات الخط العربي وتشعر بجمالها، وبدأت بالاعتماد على تدريب نفسي عن طريق كراسات الخط التي خطت بأقلام أمهر الخطاطين في بغداد، وهم عباس البغدادي وهاشم محمد”.
علي يؤكد أن الحداثة منحت الخط العربي إضافات زادت من جمالياته، فمع وجود الألوان الحديثة والزخارف الجميلة التي رافقت الخط ظهرت لوحات رائعة، وهكذا فقد استفاد فن الخط العربي من الحداثة لإبراز جمالياته وتطويرها.
يوضح الخطاط قاسم حيدر أن بدايات دخول الحرف العربي إلى التقنية، سواء الطباعية أو الكمبيوترية، كان ينظر إليه كأمر ثانوي ليس ذا أهمية كبيرة، فلم يقم المتخصصون ممن احترفوا فن الخط بإقحام أنفسهم في هذا المجال، وكذلك لم تقم المؤسسات بذلك لا سابقاً ولا لاحقاً، وإنما كانت المحاولات التي تمت لسد الحاجة الفنية الأولية إن جاز التعبير، وهذا الأمر أدى إلى دخول غير المتخصصين في مجال تصميم الحرف وخطه كمبيوترياً، وظهرت نماذج لخطوط ركيكة وغير رصينة ولا تضاهي فن الخط اليدوي، وهو الأمر الذي يجعل المتخصص في فن الخط العربي يكره النظر إلى تلك الخطوط المنتجة بالكومبيوتر.
ويكمل حيدر “ظهر حديثاً فنانون مخلصون لفنهم ولجمال الحرف العربي ممن طورا أنفسهم فنياً وتقنياً، وأظهروا نماذج جذابة ورصينة وموافقة لجمال الخطوط اليدوية، وبذلك فهم يعكسون التكامل بين التقنية واليد، وبين العلم والعمل الحرفي، ومن ذلك أعمالي في الخط الكوفي، إضافة إلى برنامجي الذي ابتكرته خصيصاً لصناعة لوحات بالخط الكوفي الهندسي، ولست وحدي من يمزج التقنية بجمال الحرف، فهناك من الخطاطين المعاصرين مثلاً الخطاط وسام شوكت، وهو عراقي الأصل، وكذلك ماجد اليوسف من السعودية، وأعمالهما في غاية الروعة، ويستفيدان كثيراً من التقنية بشكل تكاملي لصناعة لوحات جميلة وجذابة”.
التقنية بشرط المهارة
يرى قاسم حيدر أن المهارة مطلوبة جداً من قبل الخطاط لتوظيف التقنية لرسم الخط العربي، ويمكن استخدام التقنية الكمبيوترية لإعادة رسم حروف الخطاط نفسه لتصبح أكثر دقة وحرفية ولإخراج اللوحة بشكلها العام ومن ثم تنفيذها يدوياً، ومن الممكن إخراج لوحة كمبيوترية ما دامت يد الخطاط المتخصص هي من رسمت حروف هذه اللوحة، أما إذا دخل غير المتخصص في هذا المضمار فإنه قد يرى أن الكمبيوتر يسهل عليه صناعة اللوحة فلا يأبه بشكل الحرف ولا بجماله ولا بنسبه الفنية، فكل ما يصبو إليه قد يكون ربحاً مالياً، أو أنه يجد الأمر سهلاً فيخرج لوحة يمقتها المتخصص وحتى متذوق الجمال البسيط ويرى فيها نقصاً”.
هناك من يرى أن التكنولوجيا أسهمت في القضاء على الخط العربي، إذ يرى الخطاط نور الدين خليفة أن المجتمع أصبح يميل إلى السرعة في طلب بعض اللوحات التي يكون الخط فيها عنصراً أساسياً، وهذا بالتأكيد يعود إلى عدم فهم جمالية الخط العربي.
خليفة يرى أن الخطاطين أصبحوا يبحثون عن عمل ثابت، ويلجأون إلى الخط كهواية فقط، كما أن بعضهم أصبح يشارك في المسابقات أملاً في الحصول على الفوز الذي يوفر له المكافآت المالية لكي تساعده في شؤون حياته، وقد يلجأ الخطاط إلى أعمال قريبة من هوايته كفن التصميم لكي توفر مدخولاً ثابتاً له، كما أسهم غياب سوق للخط العربي ومزادات لبيع لوحات الخطاطين في تراجع إحياء هذا الفن.
تشكيل يتكئ على الحرف
حديثاً بدأت جماليات الخط العربي ترتبط بالأعمال التشكيلية لتصوغ من خلال التمازج بينهما لوحات فنية تؤطرها حروف الخط العربي. وفي هذا الخصوص يحدثنا الخطاط والتشكيلي أحمد عبدالله قائلاً “تمثل الحروف اتجاهاً في الفن التشكيلي يقوم على توظيف الحرف العربي كمفردة تشكيلية لتحقيق منجز بصري ضمن تعاليم الفن الحديث وذلك من خلال الجمع بين الأصالة والحداثة، وقد نشأ هذا الاتجاه نتيجة تأثر الفنانين التشكيليين العرب والمسلمين الرواد بالفنانين التشكيليين الغربيين أثناء دراساتهم للفن في أوروبا، وقد دفعهم ذلك نحو التوجه إلى المواضيع المحلية التاريخية والاجتماعية والتراثية، لا سيما حين رأوا زملاءهم الفنانين الغربيين مهتمين أيضاً بها ومنكبين على استلهامها في أعمالهم الفنية”.
ويضيف عبد الله “شكل الحرف العربي أحد الخيارات أمام الفنان التشكيلي المعاصر، بعد أن اكتشف مدى ما يتمتع به من قدرات تشكيلية وتعبيرية إبداعية كبيرة تصلح لأن تكون لوحة أو منحوتة أصيلة. والحروفية التي يشتغل عليها اليوم عدد كبير من الفنانين التشكيليين العرب والمسلمين تحولت إلى تيار له ثقله الكمي والنوعي في الحياة الفنية التشكلية، وهي على قدر كبير من التنوع والاختلاف من فنان إلى آخر ومن بلد إلى بلد آخر”.
ويوضح أن الخطاط يعتمد بصورة عامة على القوالب في اللوحات الفنية التي هي ناتج عمله اليدوي بغية الحصول على النسبة الذهبية التي تعتمد على قواعد الخط العربي المتعارف عليها، ولكي لا يهدر الأدوات المكلفة المعدة لعمل اللوحة، إضافة إلى اختصار وقت الإنجاز.
وعن طريقة عمله يقول عبدالله “النمط الفني للوحاتي يعتمد على إكساء الحروف بالأشكال المراد عمل اللوحة بها، مع الأخذ في الاعتبار أسلوب تناسق الحروف مع الأشكال لكي لا يأخذ الحرف شكلاً خارج القواعد، وفي لوحاتي أيضاً اعتمد على أسلوب السهل الممتنع، حيث للوحة ثلاثة أبعاد بصرية من ناحية مسافة الرؤية، فالذي ينظر إليها من مسافة قريبة يجدها لوحة تشكيلية، ومع الاقتراب أكثر يتلاشى الرسم لتظهر الحروف بشكلها الواضح، وبعض اللوحات تعتمد على زاوية الإنارة لتظهر بشكلها العام”.
الحرف بعيداً من التشكيل
خلافا لرأي أحمد عبدالله، يقدم الخطاط فايز الشرعان رأياً مغايراً، إذ يرى أن استخدام الحروف في الفن التشكيلي غالباً ما يطمس قواعد الخط لأنه خروج عن المألوف، وكذلك خروج عن قاعدة الحرف الذي نأخذ سنين طويلة حتى نتمكن من إجادتها بنسبة معقولة.
أما أستاذ علم المخطوطات إدهام محمد حنش فيرى أن هناك فرقاً فنياً وثقافياً ونقدياً كبيراً بين استخدام الحرف العربي في اللوحات التشكيلية، والخط بوصفه فناً مميزاً بأصوله وقواعده الخاصة المختلفة تماماً عن مبادئ فن الرسم. بالتالي لا بد من القول إن كلاً منهما فن قائم بذاته.
توضح أستاذة الأدب العربي والنقد منال العمري تجربة دراسة الخط العربي في مدارس السعودية بالقول إن “مقررات الخط ظلت موجودة في المدارس لسنوات، لكنها ألغيت ثم أعيدت من جديد قبل سنوات، لكن المقررات ليست هي المشكلة، بل طريقة التدريس وأولويات التعليم، فقد يستطيع معلم اللغة العربية تدريب الطلاب على الخط والإملاء معاً، وقد يستطيع أن يهملهما أيضاً معاً، والإشكالية هي في طريقة التدريس وإعطاء المقرر ما يستحق من الاهتمام، وتشجيع الطلاب على تحسين خطوطهم”.
أما الباحث في الخط العربي أحمد الأمين الزائدي فيرى أن “المناهج العربية اهتمت بتعليم الخط في مراحل مختلفة من التعليم، بخاصة تلك التي تكون في بداية المشوار الدراسي، وكانت النماذج المدروسة في السابق تكتب بخط اليد من قبل خطاطين مبدعين لتعليم أصول الخط التي يجب أن يراعيها الطلاب في المدارس، ويحاكيها الطلاب بأقلامهم تحت إشراف المعلم، أما الآن فبعض المناهج المطبوعة تم إعداد نماذجها بواسطة الحاسوب، واستعملت فيها خطوط طباعية تختلف عن خط اليد الذي نتحدث عنه، والطالب بذلك سيواجه صعوبة في محاكاة هذه النماذج”.
الخطاط حسن حسين لطف الله البكولي شرح تجربة تعليم الخط في اليمن، مشيراً إلى إهمال المؤسسات القائمة على التربية والتعليم هناك لفن الخط العربي، وهو يرى أن إعادة أحياء الخط العربي تأتي بإدراجه كمادة أساسية ضمن المناهج والمقررات الدراسية، وفتح أقسام للخط العربي في كليات الفنون، وإدراج وظيفة (أستاذ الخط) لتفعيل دوره في تدريس الخط العربي كمقرر مستقل، وكل هذا من شأنه أن ينهض بالخط العربي ويزيد من اهتمام الناس به، لأن عدم الاهتمام يكسر عزيمة الخطاط وهمته، وبذلك يخسر الفن.
لائحة تراث اليونيسكو
لم تول مدارس في العالم العربي أهمية للخط العربي فاعتمد الموهوبون من الطلبة على التعليم الذاتي، توضح مريم أحمد الطالبة في الصف الخامس الإعدادي أنها تعلمت الخط ذاتياً عن طريق كراسات الخط، إضافة إلى متابعة بعض الخطاطين على مواقع التواصل الاجتماعي، مضيفة “لم تنظم مداسنا مسابقات خاصة للخط العربي لكنها تنظم مهرجاناً يتضمن بعض الأنشطة من ضمنها الخط”.
أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) عام 2021 الخط العربي ضمن قائمتها للتراث غير المادي، وهو قانون يسمح بالحفاظ على هذه الممارسة الفنية القديمة على نطاق واسع، وقد دافع عن هذا المشروع 16 دولة بقيادة السعودية، وهي البحرين والمغرب ومصر والكويت والجزائر ولبنان وعمان وموريتانيا والأردن وفلسطين والسودان وتونس والإمارات واليمن والعراق.
يرى أستاذ علم المخطوطات إدهام محمد حنش أن القرار الذي اتخذته الـ”يونيسكو” بإدراج الخط العربي في قائمة التراث الثقافي الإنساني كان مهماً وإيجابياً من الناحية السياسية للدول العربية التي تقدمت بمشروع القرار، لكنه لم يكن كذلك من الناحية الثقافية، فالقرار أدرج الخط العربي في قائمة الحفاظ على التراث من الضرر والاندثار والزوال، والحقيقة أن الخط العربي لا يحتاج إلى ذلك لأنه ليس مجرد كتابة أثرية تاريخية عابرة في الحضارة الإنسانية، فهو ركن من أركان اللغة العربية الخالدة بخلود القرآن، وهو مقوم من مقوماتها المستدامة بكتابة المصحف الشريف وانتشاره في كل أرجاء العالم وأطرافه الواسعة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
أقرأ ايضا:نقوش في جبال بأمريكا تحمل اسم الرسول الكريم تؤكد وصول المسلمين لها قبل كولومبس