ثقافة وسياحةكتابات فكرية

ناجي العلي .. الوطن والفن في الممارسة السياسية (٢  ـ ٣)

ناجي العلي .. الوطن والفن في الممارسة السياسية (٢  ـ ٣)

ناجي العلي .. الوطن والفن في الممارسة السياسية (٢  ـ ٣)

  • قادري أحمد حيدر

الأحد13يوليو2025_  

2- ناجي، وفن الكاريكاتير:

أ- فن الكاريكاتير:

في تقديري أنه من المهم ونحن نتحدث عن ناجي العلي وفن الكاريكاتير ، أن نقدم فكرة حول هذا المبنى والمعنى ، والشكل والمضمون الذي نسميه الكاريكاتير .

في البدء يمكن القول إن الكاريكاتير ظاهرة تاريخية ، ظاهرة قديمة ، بعضهم يعيدها إلى بداية الحياة الواعية للإنسان ، بداية تأريخه الحي المدون على الجدران ، والمعابد ، والمقابر ، ظاهرة يمكن العودة التأسيسية لها إلى الرسوم داخل قبور الفراعنة ، وتحديداً الرسوم خارج القبور، ظاهرة مارسها الفنانون كطقوس دينية في البداية،وباعتبارها عملية نقدية لواقع الظلم الواقع على الناس خارج دائرة القبور والمقابر الفرعونية . المهم أن الظاهرة ارتبطت بحالة من النقد . ويؤرخ لنشأة وظهور الكاريكاتير –بالشكل الذي نتحدث عنه اليوم – إلى أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر ، إذ بدأ معهما ظهور فن الكاريكاتير السياسي ، ويمكن القول إن فن الكاريكاتير ، هو فن الحرية ، فن الانطلاق ، فن النقد ، فن الفرد الحر المبدع المتحرر من القيود ، فن العقلانية والمدنية ، فن التنوير ، وبذلك هو وليد نجيب ونبيل للرأسمالية الأوروبية الصاعدة ، سليل الثورة ، والإصلاح الديني والتنوير ، إبن شرعي لعصر الأنوار ، ويرتبط بالآلة الحديثة ، والمطبعة بقدر ما هو منتج رأسمالي صناعي، نتاج الثورة الصناعية العلمية وهو كذلك منتج له صلة بالجماهير ، وبالرسالة المكتوبة التي تحملها الجماهير ، وفي هذه المرحلة ظهرت المانفيستوهات “البيانات ” الأيديولوجية الكبرى ، والرسوم الكاريكاتيرية السياسية الناقدة للحالة الرأسمالية ، وانعكاساتها السلبية على أوضاع الناس ( العمال والفلاحين ) اتسعت معها ظاهرة النقد الفكري ، والسياسي وبالعودة إلى كتاب البيان الشيوعي لماركس ، سنجد أن طباعاته الأولى احتوت رسوماً كاريكاتيرية نقدية ساخرة من الأوضاع الاقتصادية والسياسية في ذلك الحين .

وحول هذا المعنى لنشأة فن الكاريكاتير يقول الباحث والناقد التشكيلي محمد الأسعد ” مع أواخر القرن الثامن عشر بدا الجو مهيَّأً لظهور الكاريكاتير السياسي بفعل ثورتين ، الثورة الصناعية والثورة الفرنسية ، ووجد فن الكاريكاتير بين يديه وسائط تمكنه من الإنتاج على نطاق جماهيري ، كما وجد اهتماماً عاماً بالسياسة موضوعه الجديد .” (1)

ويرى البعض أن المصدر اللغوي لمفردة الكاريكاتير الذي تحول بعد ذلك إلى مصطلح ، يعود إلى جذور اللغة الإيطالية .

ومن المهم ونحن بصدد الحديث عن فن الكاريكاتير والرسم ، أن نحدد الفرق النوعي بين الفن التشكيلي ، وفن الكاريكاتير ، باعتبارهما شيئين وعالمين مختلفين عن بعضهما البعض ، من الدور ، والوظيفة ، وساحة التلقي (الجمهور ) .

الفن التشكيلي فن إبداعي نخبوي ، تعبيري تجريدي بالمطلق ، يتوزع أو يحتوي الأشكال الفنية التالية : فن النحت ، الرسم أو التصوير (الزيتي) ، الجرافيك.

فن نخبوي تحتفي به القلة المثقفة في الغالب ، فن بعيد عن الممارسة السياسية المباشرة ، روح النقد فيه لا تُرى بسهولة ، بحاجة إلى عين فنية ناقدة ، وعقل مثقف . فن لا صلة له بالعمل الصحفي .

أما فن الكاريكاتير فهو فن جماهيري واسع الانتشار ، هو فن البسطاء والفقراء               ( المعترين ) حسب تعبير اللهجة اللبنانية ، فن يتوجه للجميع ، نخبة مثقفة ، وناس عاديون ، وأشباه متعلمين ، فن ذو صلة بالهم السياسي والحياتي المباشر للناس ، الكاريكاتير حالة أو ظاهرة اجتماعية ولكن يصنعها فرد حر مستقل ، وهو فن يتجه للسلطة بالنقد ، وللناس بالتحريض والتعبئة ، والكاريكاتير اليوم في الغالب فن ناقد متمرد ، رافض ، فن ساخر يقدم في رسوماته ضحكاً كالبكاء ،

فالكاريكاتير يكاد يكون هو العمل الفني الوحيد الذي يجمع في وقت واحد بين الضحك والبكاء ، فالسخرية والنقد غالباً ما يكون مبعثهما الألم أو الفرح، أو- السخرية – محاولتان لتجاوز لحظة ألم ، أو شيء من عبث الحياة ، يقول صلاح جاهين: “أنا أرسم من أجل أن أعبر عن شيء ، وإذا ابتسم القارئ لما أقوله بالرسم يكون الكاريكاتير جيداً ، وأكون قد نجحت .. أما إذا لم يضحك ، فأكون قد نجحت بدرجة أكبر “(2)

وهو تأكيد أن – لا السخرية ولا الإضحاك هدفان بحد ذاتهما ، قدر ما يحملانه من رسالة وقضية وفكرة ، وتخلو جميع كاريكاتيرات ناجي من الإفراط والمبالغة في الإضحاك .

ويقدم شيخ الرسامين الراحل زهدي العدوي تعريفاً للكاريكاتير بقوله: “هو أن تقول في رسومك ما تتمنى الجماهير أن تقوله “(3)

وفي جميع رسومات ناجي العلي الكاريكاتيرية لم يتعاطَ مع النقد والسخرية ، والضحك كضرورة ، بل باعتبارها فضاءً للحرية وهنا تتجلى قيمة فنه الكاريكاتيري وخلوده باعتباره فضاء حرية مفتوح يمكن لمن يشاء توظيف رسومه الكاريكاتيرية في نقد التخلف ، الاستبداد والفساد والطغيان .

الكاريكاتير هو ممارسة للفن في أعمق تعبيراته ، هو الهزل ، أو السخرية الناقدة، المفكرة والحادة ، كما هي عند ناجي العلي ، فن الكاريكاتير كان أداته ووسيلته الكفاحية في الدفاع عن نفسه وعن فلسطين ، وعن كافة الشعوب العربية ووسيلته في الدفاع عن القيم الإنسانية الكبرى ، والكاريكاتير حقيقة  فن صعب ، وجاد ، وهو فن ملتزم ، على عكس ما قد يتبادر إلى ذهن البعض .

الكاريكاتير يجعل الضحك طريقا للتفكير العميق

ويشترك الفن التشكيلي وفن الكاريكاتير في عدة سمات أو خصائص :

عقل فنان مبدع،

عين بصيرة ومبصرة غائرة في دقائق التفاصيل الحداثية والإنسانية،

يد حاذقة مهنتها ومهمتها إعادة تركيب خطوط الواقع والشخوص وخلق حياة بديلة في قلب اللوحة .

الفن التشكيلي وفن الكاريكاتير ، الاثنان يشتغلان بالرسم والخطوط وفن الرسم عموماً الجامع بينهما ولكل منهما خصائصه وأدواته.

يلتقيان في أنهما يحملان رسالة تنويرية وثقافية وسياسية ، وأخلاقية وجمالية ، الفن التشكيلي يمارس هذا الدور والمهمة عبر عملية توصيلية معقدة ومركبة ، والآخر بصورة مباشرة وبسيطة ، وتأثيره مباشر وسريع .

كلاهما خرِّيج كلية الفنون الجميلة من حيث الدرس الأكاديمي ، حيث يتم التخصص في درس الكاريكاتير في كلية الفنون كمادة مستقلة  شرط حضور الموهبة في الاثنين.

الأداة والوسيلة الوحيدة في فن ناجي العلي الكاريكاتيري هو الحبر الأسود على الصفحة البيضاء .أي أنه يشتغل بالحبر الأسود ليعيد إنتاج معادلة الأسود والأبيض في اللوحة ،- على عكس غيره من فناني الكاريكاتير الذين يستخدمون الألوان – والشيء المهم، الواجب إيضاحه في فن الكاريكاتير أنه فن يجمع بين العمل الفني والصحفي ، وحتى الإخراج الفني للصحيفة أو المجلة ، وكثير من فناني الكاريكاتير يشتغلون في تصاميم الديكورات المختلفة .

وهنا ينتصب سؤال هو: هل حالة الفصل بين الفنان التشكيلي ، وفنان الكاريكاتير مطلقة وقاطعة؟ مع أننا أشرنا إلى السمات والخصائص المشتركة فيما بينهما وهي في الحقيقة صفات وسمات أكثر مما تم حصرها . وهنا يمكن القول: إن الفنان التشكيلي يمكن أن يكون في الوقت ذاته فناناً كاريكاتيرياً جيداً أي يمكن أن يخرج من الفنان التشكيلي فنان كاريكاتير كبير ، ولكن في تقديري أنه من الصعب أن يخرج من فنان الكاريكاتير فنان تشكيلي كبير ، وحالة الجمع بين الفنين في ذات فنان واحد موجودة وقائمة وهناك أسماء عديدة ، في مسيرة وتاريخ الفن العربي والعالمي تؤكد ذلك .

على أن الجمع الخلاق في ما بينهما هو الأمر المتعذر ، وحالة الثنائية هذه بين التشكيلي ، والكاريكاتيري ، تذكرني بحالة الذات المبدعة القابعة بين الشاعر والناقد ، لا بد أن يأتي الإبداع والتميز في إحداهما على حساب الآخر ، فالجمع الخلاق في كليهما في تقديري أمر صعب إن لم يكن متعذراً ، هو نفس الأمر وإن بمستويات ودرجات مختلفة نجده قائماً في ثنائية التشكيلي ، والكاريكاتيري .

علماً بأن الكاريكاتيري لا يخلو من التعبيري والتجريدي والتشكيلي.

ولناجي العلي الفنان أعمال تشكيلية جميلة ، نحتية ، وتصوير زيتي ، ويمتلك ناجي العلي ثقافة تشكيلية عميقة بشهادات العديد من نقاد الفن التشكيلي ، ومبدعيه من فنانين تشكيليين وإن ليس بالدرجة ذاتها التي اشتغل عليها كفنان كاريكاتير .

إن من يترك خلفه أكثر من أربعين ألف رسمة كاريكاتير يعني أنه أعطى كل وقته وفنه لذلك الفن ، وإن كان دخل للكاريكاتير من باب الفن التشكيلي وإن لم يكن قد اكتمل في هذا المجال ومن هنا ارتبط اسمه بفن الكاريكاتير . وهو مدخلنا للفقرة التالية.

ب- ناجي وفن الكاريكاتير:

سيجد القارئ صلة وصل وتقاطع بين هذه الفقرة، والفقرة التالية حول الفن وناجي، في الممارسة العملية عند هذه الفقرة أو تلك النقطة، على أن التفريق والفصل بين الفقرتين استدعياه ضرورة ومصلحة الدرس البحثي في التقسيم إلى فقرات .

لناجي العلي طريقة ومنهج مغايران ، في فن الكاريكاتير، وهو المجال الذي أسس له واشتغل عليه طيلة ما يقارب ثلاثة عقود ..، طريقة ومنهجاً فيهما ممن سبقه القليل، وفيه من روحه ، ومنهجه في الحياة والتفكير الكثير ، يجعلنا نعتبر أسلوبه ومنهجه في إبداع فن الكاريكاتير الخاص به ، هو منهجه في الحياة والتفكير في الواقع ، وفي ذاته ، وفي الآخرين من حوله . لقد ابتدع ناجي العلي طريقه الخاص وأسلوبه في فن الكاريكاتير ، الذي غدا علامة خاصة به ، تتلقفه الصحف والمجلات في العالم قاطبة ، حتى داخل إسرائيل ، صار علامة قراءة الصحيفة من الخلف ظاهرة كاريكاتيرية تشير إلى اسم ناجي العلي . يمكن القول إن فن ناجي العلي الكاريكاتيري غدا ظاهرة فنية وسياسية لعدم القدرة على تقليدها ، أو تكرارها .

ولم يكن الشاعر سميح القاسم مبالغاً حين قال “أعتقد إنني لا أظلم أحداً ، لو قلت إنه –ناجي العلي – الظاهرة الأكثر سخونة وإرباكاً في فن الكاريكاتير العربي على امتداد العقود الخمسة الأخيرة (….) وسيكون شرفاً عظيماً للأمم المتحدة ، أو لليونيسكو أو حتى ما يسمى جامعة الدول العربية أن تطلق اسم ناجي العلي على أكثر من معلم من معالم العرب والعالم “

كان ناجي العلي بإزميله الصادح فناناً يحك أحاسيسنا ويفجرها غضباً ، مطلقاً لفكرة الحرية، فضاءات لا متناهية في التعبير عن نفسها ، لتستحيل الفكرة بحد ذاتها لحظة حرية في الواقع ، لحظة حرية تدفعك أكثر نحو المقاومة ، وتحررك من نقصانك . لتعود فلسطين من جميع مواقع الشتات إلى فلسطين . يقول ناجي عن بداياته الفنية مع فن الكاريكاتير ” بدأت بنشر لوحة واحدة ،.. ثم لوحتين .. وهكذا .. وكانت الاستجابة طيبة .. شعرت أن جسراً يتكون بيني وبين الناس ، وبدأت أرسم كالمحموم . حيث تمنيت أن أتحول إلى أحد آلهة الهند القدامى .. بعشرين يداً ، وبكل يد ريشة ترسم وتحكي ما بالقلب ” ، الكاريكاتير عند ناجي تحديداً – ومعه حجازي ، وجاهين .. إلخ – هو حشد لطاقةٍ هائلة من النقد المسكوت عنه ، ويمكنني القول إنه ومع فن ناجي العلي الكاريكاتيري توحد النقد والسخرية ، والضحك المر ، بالتفكير ، والتأمل العقلي ..، ينطوي فنه على نزعة تحرير العقل من الجمود ، والثبات والقوالب النمطية في الرؤية للواقع والأشياء من حولنا.

وحول ظاهرة ناجي وفن الكاريكاتير وعلاقاته بالفن يقول محمود درويش: ” هذا الفنان قليل الاكتراث بالفن ، هكذا يبدو لي بقدر ما هو فنان ، ولا يبدو لي أن الفن يفرحه أكثر من ذلك ، لا يبدو أن الفن يعنيه ، لأن الفن يسيل من أطراف أصابعه ، ولأنه ممتلئ بالناس الذين لا ينضبون” مع ناجي العلي تتحول اللوحة الكاريكاتيرية ليس إلى صورة فنية بديلة للواقع ، بل إلى الواقع الأكثر صدقاً في التعبير عن الواقع ، هي اللوحة الواقعية لما هو مسكوت عنه في الواقع . في فنه الكاريكاتيري اشتغل ناجي العلي على تناقضات الواقع ومفارقاته ، وغرائبيته ، وعلى جنون الخراب العظيم الذي يحتويه ، اشتغل على إعادة صياغة وإنتاج العلاقة الحرجة بين الفكرة والواقع ، بين الواقع ، وما هو متخيل .

وحين تنقلب النكتة الساخرة ، أو الرسم الكاريكاتوري أكثر صدقية من الواقع ذاته فتأكد من أنك أولاً: أمام فنان كبير ، يعيش على حافة واقع يتداعى ويتهاوى إلى لا قرار .

وثانيا: إنك أمام فنان يحترم ذاته ، ويحترم فنه ، فنان يمكن من سيرورة رحلته الإبداعية أن تخلق علاقة جدلية وإبداعية بين رؤيته الفنية والواقع ، بين الوطن والفن.

وفي جُلّ فن ناجي العلي الكاريكاتيري اشتغال إبداعي خلاق على تناقضات المسافة واللحظة الحرجة بين الفكرة والواقع . وهو مصدر كل تلك السخرية المرة ، والنقد المقذع الذي يتجاوز كل الخطوط . الفن الجميل ، أو الضحك الساخر أو الناقد هو إمساك باللحظة الفارقة والحرجة ” فالضحك – مثلاً – مقاربة ومقارنة ، مفاجئة وسريعة بين حالة قائمة بين يديك ، وأخرى ماثلة في ذهنك : وضع راهن وآخر منشود ” (4)، وهنا تظهر قدرة المبدع والفنان على الإمساك باللحظة المفارقة والفارقة ، بين الموقفين أو الحالتين ، لانتزاع لحظة فرح في نفوسنا ، على شكل نكتة، أو نقد فني كاريكاتوري ، وهو في تقديري من أرقى أشكال أنواع النقد الفني . ”  في رسمه ما تحتاج إليه الفكرة لتصل ، لا أكثر ولا أقل ، وليس مصادفة أن نجد أكثر رسومه دون خلفيات تحدد المكان ، ففي عقيدته أن ذلك ليس ضرورة ، مادام الأشخاص في مقدمة الرسم يكفون لقول الفكرة ” (5) لذلك قال عنه سليمان الشيخ ، ناجي “فنان الفكرة والفطرة ”  (6)في فنه الكاريكاتيري اختزال لقضيتي وطن ، وحرية ، وفي عقله الفني يتداخل الخاص بالعام ، الذاتي بالموضوعي ، الوطني بالقومي ، فالحرية والحلم ليس لهما مدى ، ولا متناهيان في تاريخه الفني الخاص .

لو لم يكن ناجي فنان الموهبة الخلاقة ، أو فنان ” الفكرة والفطرة ” المشحون بتلك الطاقة الإبداعية الإنسانية الهائلة ، لكان فدائياً ، أو قائداً عسكرياً كبيراً ، على أن ناجي الفنان في رسوماته الفنية ، كان الاثنين معاً ..، فدائياً بلا حدود في أرقى وأجمل صور الفنان الكبير ، وليس من فراغ أن يقول محمود درويش عنه “كنت أكتب وكان يرسم ” ومن يرسم بمستوى لغة وشعر محمود درويش ، فهو شاعر على طريقته ، ودليل على الاعتراف بعمق الحضور الفني والإنساني في عقل وسلوك ناجي العلي ، يقول عنه محمود درويش في نفس المقال الذي أشار فيه إلى أنه يكتب وناجي يرسم يقول درويش ” حين استبدل عبارتي بيروت خيمتنا الأخيرة ، بعبارته أي – محمود – خيبتنا الأخيرة ، كلمته معاتباً، فقال لي: لقد فعلت ذلك لأني أحبك ، ولأني حريص عليك من مغبة ما أنت مقدم عليه ، ماذا جرى؟، هل تحاور اليهود ؟ أخرج مما أنت فيه لأرسمك على الجدران ” هل بعد ذلك من مكاشفة وشفافية وصدق ..، مع ملاحظة هنا مكانة واسم درويش الصاعق والأثير في العالم قاطبة ، وليس في العالم العربي . وناجي بذلك كان بحق يعبر عن قمة حبه لدرويش . دخل ناجي من الحالة الفردية لدرويش ليبحث ويناقش حالة عامة ، حالة موضوعية . لم يكن هدفه نقد درويش الفرد ، بل الحالة والظاهرة التي بدأت تتشكل في ذلك الحين ، والتي أنتجت فيما بعد أوسلو ، والظاهرة “الدحلانية” في قلب منظمة التحرير الفلسطينية ، كان ناجي مهجوساً بنقد الحالة الموضوعية السلبية ، والقيم السالبة ، والمشاريع الصغيرة ، والعلاقات ، والبرامج التي يجدها تنحرف عن الصراط الفلسطيني القويم .

 الشخصنة في فنه الكاريكاتيري محاولة لتعرية وكشف حالة موضوعية عامة . إن نقده الساخر لم يكن موجهاً ضد شخص ، أو حالة فردية ، ولا ينطوي على بعد ذاتي وشخصي؛ كريكاتيره الفني يحمل رسالة نقدية فكرية، اجتماعية، سياسية، ثقافية ، مع فنه الكاريكاتيري سقطت مهمة ووظيفة استخدام الكاريكاتير كأداة للتسكين والتخدير ، أو لتأييد أوضاع قائمة ، كما هي عند البعض .

كان نقداً موجهاً للذات أولاً ، وللسلطة ، والمجتمع معاً . حيثما وجد السلب في الواقع والحياة كان نقده الفني الكاريكاتيري لها بالمرصاد . و لا مكان للوظيفة التقليدية للكاريكاتير في فنه ( الإضحاك ، التسلية ، المحافظة على الوضع القائم ) فقد اختار تحويل وظيفة الفن الكاريكاتيري إلى نقد الذات ، والسلطة والمجتمع . وهو الطريق والمنهج الخاص الذي اختاره لنفسه ولفنه .

إن فن الكاريكاتير بصفة خاصة ، والفن التشكيلي بصفة عامة هما في تقديري من أكثر أشكال الفنون والإبداع توجهاً وانصباباً وانكباباً على رسم الحالات الخاصة ، والظواهر الفردية ، ورسم الشخصيات ، والذوات الفردية . وتكوين ملامح عامة أكثر مما تقوم به أجناس الإبداع ، والكتابة الأخرى ” قلائل هم الذين تحدثوا عن التفاصيل الصغيرة للإنسان العربي مثل “الجبرتي” و “المقريزي ” و “ابن إلياس ” ذلك لأن التاريخ يسجل الأحداث الكبيرة ويغفل دور الإنسان العادي ” (7)

الكتابة الفنية بالرسم والريشة تنطلق في الغالب من الخاص ، من الفردي ، والذاتي ، لتصل إلى العام والكلي والموضوعي والتاريخي . وهي الكتابة التي لا تصادر الذات الإنسانية ، أو تغيبها وتقصيها لصالح حالة عامة موضوعية أو طبيعية وكلية غير ملموسة ولا واضحة . في الفن عموماً يتجلى في أبدع ما يكون وحدة الخاص والعام ، الذاتي والموضوعي ، الفرد والمجموع ، الجزئي والكلي ، المجرد والملموس ..، في الإبداع الفني عموماً ، وفي الفن التشكيلي ، وفن الكاريكاتير خصوصاً يتجسد الحس العام بالحياة والكون .

يمكنك من خلال كاريكاتير ناجي العلي ، أن تتابع الحالة العامة ،وأن تقرأ بصورة واضحة المناخ العام ، تستطيع أن تكون فكرة عامة ، ورؤية شاملة حتى قبل أن تتصفح الصحيفة ، مكتفياً بكاريكاتيره الذي يقدم وجبة دسمة تكشف الحال العام والمناخ العام ، باختصار كاريكاتيره ينقل الواقع بتفاصيله ، والحياة من حولك بشمولها إلى الصورة ويجعلها واقعاً بديلاً ، واقعاً أكثر حركية وحيوية ويستفزك لتغييره . يتصور البعض أن رسومات ناجي ليس فيها فنٌ وجمالٌ ، وتشكيلٌ فني ، وهو وهم شائع عند البعض لأسباب وحسابات ذاتية صغيرة لا صلة لها بالنقد الفني والجمالي . فالكثير من أعماله الفنية الكاريكاتيرية تنطوي على أبعاد جمالية وفنية وتشكيلية عالية ، وقيم فنية عميقة وأصيلة وإلا لما اكتسب فنه ذلك الحب والخلود معاً.

ولذلك يقول ناجي العلي: ” الرسم هو الذي يحقق لي توازني الداخلي ، وهو عزائي ولكنه يشكل لي عذاباً كذلك”،

ومن تكون علاقته كذلك بالفن ، لا يمكن إلا أن يكون إنساناً متوحداً بفنه ، ويعني له كل الحياة . وإلا فكيف نفسر اختياره واحداً من بين أكبر عشرة فنانين كاريكاتيريين في العالم من قبل مؤسسة فنية دولية . وحصوله على جائزة فنية حتى بعد استشهاده النبيل ، ووصفه بيان الجائزة ” بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر .. وأن الجائزة منحت له تقديراً لأعماله البارزة من أجل حرية التعبير” ، وقال عنه أحد رسامي الكاريكاتير في مجلة ” التايمز ” “إن ناجي العلي يرسم بحمض الكبريتيك – نار الأسيد – “

ناجي العلي بحق هو فنان التفاصيل الإنسانية العميقة ، فنان يعتني بالهوامش ، والمشكلات الصغيرة والعادية ، ويجعل منها إشكالات وطنية وقومية وإنسانية كبرى          

         ويمكن إجمال أهم السمات والخصائص الفنية الأساسية لكاريكاتير ناجي العلي في التالي:

الاقتصاد في الكلمات والخطوط:

بأقل ما يمكن من التعليق والخطوط يوصل المعنى والفكرة ، خطوط ومربعات صغيرة موزعة باقتصاد على صفحة البياض تحمل من الإيحاءات والإيماءات والدلالات الكثير ، يوظفها بصورة بديعة تخدم الشكل والمضمون الفني للفكرة المراد إيصالها من خلال حساسية فنية عالية ، يتوحد فيها الموضوع ، بالشكل والمضمون ..،

اقتصاد في الخطوط والكلمات مصحوب بقدرة فنية على استخدام الخطوط وتوزيعها بين الأسود والأبيض ، وتوزيعه الجميل والدقيق للمساحة وللمسافة وللظل ، والتظليل ، والخطوط الشبكية..،

وكأن رسومه الفنية تجسيد لرؤية النفري ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”

الفكرة والرؤية الفنية:

رسوماته تتسم بالجمع بين الفكرة ، والرؤية الفنية ، وذلك ما أنتج كأبدع ما يكون ثنائية الوطن، والفن في نتاجه الفني كله، كان يحمل رؤية فنية ، وحدس فنان ، يقرأ ، ويرى بعيون زرقاء اليمامة أو حسب تعبير الشاعر بلند الحيدري ” لقد خص بذاكرة عينية قل نظيرها ” ..، تنبأ باكرا بانتفاضة الحجارة من خلال واحدة من رسومه الكاريكاتيرية ، وبعد حوالي أربعة أشهر كانت انتفاضة الحجارة في فلسطين المحتلة.

الآني والتأريخي:

رسوم تجمع بين الآني ، والتاريخي ، وهي عملية معقدة في أي عملية فنية ، لا يقدر عليها سوى أصحاب الأحلام الكبيرة ، والمشاريع التأريخية والرؤى الإستراتيجية ، في فنه، نجد معادلة الآني والتاريخي، واضحة وقد تجدها تمر عبر هذه الحالة الفردية أو تلك الظاهرة الشخصية التي يجسدها ولكنها ليست قضايا أو هموماً شخصية أو ذاتية ..، ومبكراً تنبأ بالظاهرة ” الدحلانية” في قلب منظمة التحرير الفلسطينية . ويمكنني القول إن حساسية الفنان العالية لديه بمن حوله ، وحالة الحدس ، والبداهة السريعة في التقاط الأشياء والأفكار والمعاني الكلية عنده قد ساعدته على الإمساك باللحظة الحرجة والمفارقة في كل لحظة من لحظات تحرك الواقع وتحولاته ، وهي التي جعلته ، يحول الخيمة إلى خيبة ، ويحول الكوفية إلى ربطة عنق ، والكوفية الفلسطينية إلى قبعة أمريكية ، ويحول الكرش إلى كرش مقزز يتدلى من الخلف ويمنع الحركة ….. إلخ . الحساسية الفنية ، والبداهة المركزة ، والحدس العالي تلكموها التفسير الوحيد لمخرجات فنه الكاريكاتيري عالية الجودة ، و القيمة من الناحيتين ، الفنية ، والفكرية. لم يتعاط ناجي مع الحدث الأني بحد ذاته كحدث ، بل مع المعاني والأفكار ، والقضايا الكبيرة التي يشير ويقود إليها الحدث ، كان ناقداً استراتيجياً ، ومن هنا جدل الآني والتاريخي في إبداعه الكاريكاتيري تأكيداً، على أن الكاريكاتير فن سياسي بامتياز.

الأخلاقي والسياسي:

تميزت أعمال ناجي الفنية الكاريكاتيرية بالبعدين ، الأخلاقي والسياسي ، ومع أن الأخلاقي والسياسي قلما يجتمعان ، – خاصة في واقع شديد التخلف والاستبداد- على أننا نجدهما : متماهيين ومتوحدين مع بعضهما البعض في كاريكاتير ناجي العلي ، وأقصد هنا بالسياسي والسياسة ، المسؤولية الذاتية لتحمل تبعات الفكرة السياسية ، ورفعها إلى مصاف الموقف الأخلاقي والقضية الأخلاقية، فأعماله الكاريكاتيرية دفاع عميق عن القيم والمثل العليا ، والقيمة الأخلاقية منها على وجه الخصوص ، حيث الأخلاقي عند ناجي هو الفني ، وهو الإنساني ، الأخلاقي في حضوره وتوحده بالموهبة الكبيرة يحتوي كل شيء ، أما السياسي ، والوطني بمفردهما أو في توحدهما فإنهما غير مؤهلين لاستنتاج قيمة فنية كبيرة ، ولا موقف إنساني شامل.

هـ-  التكرار والفراغ :

شخص ممتلئ بالحياة مثله لا يمكن أن يحب الفراغ ، يحاصره الوطن من جميع الجهات حتى لا يجد فسحة للحركة خارجه ، ناجي ممتلئ بروحه الحية والمغايرة ، ممتلئ بالناس وقضاياهم ومشاكلهم ، ممتلئ بالمخيم وناسه ، ممتلئ بفلسطين الممزقة والموزعة على الشتات العربي والعالمي . ولا مجال للفراغ في حياته وفنه .

الفراغ قليل الحضور في رسومه الكاريكاتيرية ، وتشيع فيك روح الامتلاء ، فضاءاته مشحونة بالحركة والحياة ..، بالخطوط والمربعات ، والظلال ، وبالأفكار والقصائد والزاجل والموال ، ولديه قدرة عظيمة لتحويل ما يحيط به إلى حالة تشكيلية . حين يحاصره الفراغ يتوسل التكرار ، ويلجأ إليه لإزاحته ، أو تقليص مساحته في اللوحة قدر ما يستطيع ، لذلك نجده في لوحاته الكاريكاتيرية يملأ فراغ اللوحة بكلمة ، أو عبارة مثل : فلسطين ، كامل التراب الفلسطيني ، أو بصورة شخص مكررة عشرات المرات تغطي مساحة مملوءة بالأسود والأبيض .

وهنا تظهر في العديد – أو البعض – من لوحاته ثنائية الفراغ ، والتكرار ليشكل حالة امتلاء واستغراق لمساحة الصورة في اللوحة . ناجي العلي يمارس التكرار ليس من أجل التكرار الذي يملأ به الفراغ كيفما اتفق ، بل المختلف في كل مرة ..، تكرار يحمل في كل مرة فكرة ومعنى مختلفين ، فكرة ومعنى يظلل بهما لوحة الكاريكاتير ، ويملأ الفراغ بفكرة جديدة غير مكررة ، وهنا يتجلى جدل الفراغ والتكرار فنان البساطة والتفاصيل الإنسانية:

الأدب والفن والإبداع عموماً على أي مستوى ، هو إبداع فردي حر ، إبداع من أجل الناس (الجماعة) – ذات إبداعية واحدة ، – متلقين كثر – وذلك ينطبق على الأدب والفن التشكيلي ، وفن الكاريكاتير ، وهو الذي يعنينا في هذا المقام ، ويتميز فن الكاريكاتير بالبساطة ، والوضوح ، والشفافية ، وروح النقد والسخرية ، وجميع أعمال ناجي الكاريكاتيرية تجسيد عميق لهذه المعاني والدلالات ، أعمال تقدم الواقع البديل على مستوى الفن ..، ويتميز فن الكاريكاتير بأنه فن جماهيري ، واسع الانتشار والتأثير ، فن البساطة والتفاصيل الإنسانية الصغيرة والعميقة ، ولوحات ناجي الكاريكاتيرية دخول عميق إلى أغوار وتفاصيل النفس الإنسانية وهموم الناس العادية والمكررة – اليومية – هموم البسطاء الذين تزدحم بهم الشوارع ولا يراهم أحد لكثرتهم ، وعاديتهم ، وتكرارهم في حياتنا اليومية ، وناجي الفنان كان أبداً يدخل إلى التخوم القصية المشتركة لأولئك الناس العاديين ويلتقط الهم الإنساني الذي يجمعهم ويوحدهم بالهموم الإنسانية الكلية ، فن لا يدغدغ الحواس والغرائز ، ولا يستجدي العواطف والمشاعر التحتية ، بل فن يدفعك إلى السؤال ، وحك جذر الوعي لالتقاط الأحاسيس الإنسانية العميقة ، والمسكوت عنها ، فن يدفعك لنقد الذات ، ومقاومة كافة أشكال الاستلاب الداخلي والخارجي ، والكوني ، إن فن ناجي العلي – كما يقول الشاعر والناقد بلند الحيدري(8)– فن “عرف كيف يتغافل عن ثرثرة التفاصيل الزائدة ، إلا عندما يريد أن يجعل منها مرمى لغاية في رمز مقصود ، وعرف يبسط أفكاره ، وكيف يجعل لصوره بؤراً رئيسة تستقطب انتباه المتلقي ، (….) ، ولا أعرف لماذا تذكرني شخصيات ناجي العلي بأبطال تشيكوف 1860- 1940 – ربما لبساطتهم ، وربما لاعتماد كل منهما على تفجير العناصر المتناقضة في أبطالهما ” (9) ، فالبساطة والتلقائية، وجعل التفاصيل الإنسانية العادية والمكررة والتي لا تلفت الانتباه إليها بؤرة مركز تفكيره ونظره ، هي من السمات الجوهرية لفن ناجي العلي الكاريكاتيري .

 ختاماً لهذه الفقرة ، يمكنني القول إنه أوجد هوية ذاتية ، ومعنى جديداً لفن الكاريكاتير ارتبط بإسمه هو تاريخه الخاص في فن الكاريكاتير ، مدرسة مستقلة يحمل اسمه عنوانها.

الهوامش:

1_- محمد الأسعد “مجلة الآداب البيروتية ص 71 العدد سبتمبر وأكتوبر /2002م  السنة الخمسون.

2- نقلاً عن كتاب د.محمد كروب (شخصيات وأدوار في الثقافة العربية الحديثة ) ص 171 ط أولى 1987م مؤسسة الأبحاث العربية ، النص مأخوذ من حديث صحفي لصلاح جاهين.

3- محمد بغدادي ، كتاب(كاريكاتير حجازي فنان الحارة المصرية ) من المقدمة ص 18 المركز المصري العربي ط أولى 1995م .

4 – خالد القشطيني ، كتاب (السخرية السياسية الغربية) ص 16 ، دار الساقي ، بيروت ،ط ثانية 1992م .

5 – يوسف عبده لكي ، مادة مأخوذة من الأنترنت.

6 – سليمان الشيخ، مجلة الآداب اللبنانية، العدد 9و10، أيلول/سبتمبر وتشرين أول/أكتوبر 2002م السنة الخمسون

7 – كتاب ” كاريكاتير حجازي فنان الحارة المصرية من مقدمة محمد بغدادي ، ص 18 و19 المركز المصري العربي ط أولى 1995م القاهرة.

8 – بلند الحيدري ، كتاب الشاهد والشهيد ، ص 75 ، تقديم وإعداد د.عمر عبد العزيز ، منشورات دائرة الثقافة والإعلام – الشارقة ، 1997م

9 – د.عمر عبد العزيز ، كتاب الشاهد والشهيد ، ص 88 ، حيث يبرز د.عمرعبد العزيز سمة وخاصية التلقائية باعتبارها واحدة من الصفات الجوهرية لفن الكاريكاتير عند ناجي العلي.

 اقرأ أيضا:ناجي العلي الوطن والفن في الممارسة السياسية (  ١ ـ ٣ )

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى