قراءة تحليلية لقصيدة: ( نغماتُ قلب ) للشاعر الراحل فيصل البريهي

قراءة تحليلية لقصيدة: ( نغماتُ قلب ) للشاعر الراحل فيصل البريهي
- حسن الدولة
الأربعاء 25 سبتمبر 2025-
قبيل رحيل الشاعر عزف معزوفة العشق الوجودي، طيب الله ثراه فقد رحل قبل الأوان، وقبل أن يُكمل مشواره الادبي الواعد الحافل، لكنه ترك خلفه عددا من الدواوين منها ما طبع بعد رحيله وكنت قد شاركت بنشر هذه القصيدة في حياة الشاعر وها أنا اعيد نشرها مع هذه القراءة، وقصيدة تعتبر نغمةً صافية لا تزال تتردد في آفاق الشعر، تحمل صدقا نادرا، وجرسا فريدا، ولغة تعرف طريقها إلى القلب. من بين نصوصه اللافتة، تبرز هذه القصيدة “نغمات قلب” كواحدة من أبرز مراثي العاشق لنفسه، وصورته أمام مرآة الحب.
قصيدة تنبض لا بالكلمات فقط، بل بنبض شاعر عرف الحب لا كحالة طارئة، بل كـ”قدرٍ وجودي” متجذر في الروح.
يبدأ البريهي قصيدته بما يشبه الإصرار القَلبي، فيقول إن قلبه أبى إلا أن يخوض درب الهوى، رغم صعوبته وبعده. وهنا تلوح أولى ملامح الصراع الداخلي بين القلب والعقل، بين المعلوم والمجهول، بين ما يُفترض أن يُتجنب، وما لا يمكن مقاومته. فالقلب –في لغة الشاعر– ليس مجرد عضو نابض، بل كائن متمرد، له اختياراته الخاصة، يركب المركب الصعب ويزداد عنادًا كلما اقترب من المنال.
في هذا السياق، يرسم الشاعر صورة التيه الشعوري، حيث لا يعرف إن كان قد أتى من الشمال أو الجنوب، من الشرق أم الغرب، فالحب أضاع عليه بوصلته. ومن هنا، تتجلى تجربة الحب في القصيدة لا كرحلة محددة المعالم، بل كتيه صوفي، لا يمكن الإمساك باتجاهاته، ولا العودة منه. إنه دخول في عالم آخر، فيه كل شيء ممكن… ومُبهم.
ومع تتابع الأبيات، يأخذ الحب مكانته العضوية في جسد الشاعر، يتغلغل في الشرايين، ويفتح أغصانه في الجسد، ليزهر به عشبًا وزهرًا. إنها صورة بديعة تجسّد الحب ككائن حيّ داخل الإنسان، لا يكتفي بأن يُشعره، بل يُعيد تشكيله من الداخل. فالحب هنا ليس عرضًا، بل أصل، وجذر، ودمٌ يجري في العروق.
غير أن هذا التماهي الكلي مع الحب لا يعني العبودية له، فالشاعر يرفض أن يكون عبدًا له أو ربًّا، ويرى أن العلاقة مع الهوى علاقة وعي وحرية. وهذا موقف فلسفي جدير بالتأمل، إذ قلّما نجد في الشعر العربي من يتناول الحب بهذه النظرة المتزنة، التي تُقرّ بالشغف دون الوقوع في فخ الاستلاب.
ثم يعود الشاعر ليُصوّر حالة العطش الأزلي للحب، فيقول إنه “شرب الهوى”، لكنه ما زال على ظمأ، وكأنّ الحب، مهما قُدّم له، لا يُشبع القلب، بل يزيده اشتعالًا. وهذا التصوير يحاكي تجربة إنسانية عامة، حيث لا يُروى العاشق الحقيقي، لأن ما يبحث عنه لا يُمسك، ولا يُحد، ولا يُكتفى به.
ويمضي الشاعر في رسم مشهديّة الهوى التي لا تنفكّ تتكرّر، فهو –رغم محاولات الانسحاب– يجد نفسه منجذبًا من جديد، مشدودًا نحو الأمنيات، وكأن الجمال كلما تراءى له، أذابه من جديد. وهنا تأتي صورة القلب الممتلئ رُعبًا رغم كونه في أمن، لتكشف عن تلك المفارقة الإنسانية الكبرى: أن الخوف من الحب لا يعني غيابه، بل قد يكون أحد أشكاله الخفية.
وفي الخاتمة، يصرخ الشاعر باعترافه: “دعوا لي سبيل الحب، آمنت أنني محبٌّ وإن كنتم ترون الهوى ذنبًا”، وهو تصريح يقف على طرف نقيض من الموقف الاجتماعي الذي يرى في الحب ضعفًا أو خطيئة. البريهي هنا يعلي من شأن العشق، يراه إيمانًا، واختيارًا، وجهادًا شعريًا لا يليق إلا بالأحرار.
من حيث اللغة، كتب البريهي قصيدته بلغة عربية كلاسيكية ذات نَفَس موسيقي جميل، تتراقص فيها الألفاظ وتتواشج الصور. وقد استطاع أن يمزج بين فصاحة اللفظ ورقة المعنى، مما يجعل القصيدة سهلة التلقّي رغم عمقها الشعوري والفكري.
أما من الناحية الفنية، فالقافية والروي (الباء المفتوحة) منحا القصيدة وحدة موسيقية أنيقة، تحاكي خفق القلب، وتُشبه إلى حد بعيد “نغمات” تتكرر في سيمفونية طويلة، لا يُراد لها أن تنتهي.
فيصل البريهي رحمه الله كان شاعرا لا يصطنع التجربة، بل يعيشها بكل جوارحه. وبهذه القصيدة، يمكن القول إن الراحل الكبير الشاعر حسن الشرفي لم يُخطئ حين رأى فيه خليفة له. فهذه القصيدة وحدها تكفي لأن تُسجل اسمه في سجلّ الشعراء الذين صدقوا، فأبدعوا، فرحلوا جسدًا، لكن بقي صدى قلوبهم نغمةً خالدة.
واليكم القصيدة العصماء:
أبى القلبُ إلّا أنَّهُ يقطعُ الدربا
فيزدادُ بُعداً كُلّما أمعَنَ القُربا
أبى القلبُ إلّا أن يسيرَ مع الهوى
مُصِرّاً على أن يركبَ المركبَ الصعبا
أراهُ كرؤيا العين يشتفُّ عمرَهُ
سراباً ويستسقي الندى قِيعةً جدبا
دروبُ الهوى العُذريِّ كانت بدايتي
وما زلتُ أسعى فوقها هائماً صبّا
جزافاً على الدربِ الذي ليس ينتهي
بدأتُ الخُطى سعياً ولم أُدركِ العُقبى
توجَّهتُ لا أدري شمالاً أتيتُ؟.أم
جنوباً؟ ولا حدّدتُ شرقاً ولا غربا
عشقتُ احتساباً واتّكالاً على المُنى
وحسبي بأنّي لم أكن للمنى حسبا
وما كان من حقٍ على الحُبِّ لي ولا
عليّا لهُ إن كنتُ أرضى الذي يأبى
سواءً علينا ضقتُ أو ضاق بي فلن
يرى أيُّنا في غيرنا موطناً رحبا
على أيّ حالٍ لستُ في ذمِّةِ الهوى
بمتَّخِذٍ لي منهُ عبداً ولا رَبّا
ولكنّني والحُبُّ يُرخي جُذورَهُ
بصدري أرى قلبي لهُ وادياً خصبا
لهُ في شراييني بذورٌ تفتَّقت
فروعاً بجسمي تُنبتُ الزهرَ والعُشبا
سقَتها ينابيعُ الخلايا دمي ولم
تجد غيرَ ماءِ القلبِ ريّاً ولا شُربا
سكنتُ الهوى واستوطنَ الحُبُّ مهجتي
مُقيماً عليها دولةً تبتني شعبا
كأنّي لغيرِ الحب ما كنتُ بل ولا
لغيريَ كان الحب أهلاً ولا صحبا
لكَ اللهُ يا دربَ المحبين….هل ترى
كَدقّاتِ قلبي نغمةً تعزفُ الحُبّا؟
مواطئُ قلبي في دروبِ الهوى غدت
رياضاً خصاباً تزرعُ الحُبَّ لا القضبا
جرَت كلُّ أنهارِ المحبةِ في دمي
وفي كلِّ عضوٍ فجّرَت منهلاً عذبا
شربتُ الهوى لكنّني لم أزل بهِ
على ظمأٍ مهما استقى القلبُ أو عَبّا
* * **
فكم همتُ في حُبِّ العذارى وكلما
أردتُ انسحاباً جاذبتني المنى جذبا
إليهنَّ ما دامت تُفاجئُني الرؤى
بحسنٍ يُذيبُ الجلمدَ الصمَّ والصّلبا
فما بالُ قلبٍ خالجَ الحُبُّ نبضَهُ؟
وأيُّ جمالٍ فاتنٍ لم يُذِب قلبا؟
أنا العاشقُ المفتونُ والآمِنُ الذي
يرى قلبَهُ في الأمنِ ممتلئاً رُعبا
إذا شاهَدَ الحُسنَ البديعَ رأيتَهُ
كأجبنِ مَن فوقَ الثرى واجَهَ الحربا
دَعُوا لي سبيلَ الحُبِّ..، آمنتُ أنّني
مُحبٌّ وإن كنتم ترون الهوى ذنبا