في معنى السياسة (الدولة) وحواراتها الفكرية

في معنى السياسة (الدولة) وحواراتها الفكرية
- أمين الجبر
الثلاثاء 19 أغسطس 2025_
“السياسة” ليست مجرد كلمة عابرة في قاموس اللغة، بل هي جوهرٌ مركزي في بناء مجتمعات البشر وتنظيم شؤونهم. ففي الدلالة اللغوية، السياسة تعني “السوس” أي الريادة والقيام على شيء بما يصلحه، وهي شمولية في التناول تشمل تدبير مشاكل القوم وتولي أمرهم والقيام به. بهذا المعنى، السياسة ليست مجرد عمل شكلي أو وظيفة روتينية، بل هي فعل إنساني محكم يُمارس عبر التفكير العميق والقيادة الحكيمة، وليس له جذور سماوية بحتة، بل هو صناعة شخصية ومجتمعية بامتياز.
ولعل تجليات السياسة في التراث الإسلامي تُبرز تمايزها عن تفاهات الحكم الطاغي، فهي خلقنة وترشيد للفعل السياسي، هدفها تحقيق العدل والإنصاف، ومجابهة الظلم بكل حزم، استنادًا إلى قيم صارمة وأخلاق راسخة. هذا ما تؤكده المفردات القرآنية التي تعبر عن السياسة، مثل “الشورى”، “الملك”، “الحكم”، و“السلطان”، التي تصوغ إطار السياسة كفعل جماعي مسؤول، وليست سلطة مطلقة أو استبدادية.
وقد تبلورت المفاهيم الإسلامية حول السياسة في فكر عمالقة الفكر الإسلامي، حيث يظهر الفارابي في “رسالة في السياسة” و”السياسة المدنية” كمنظر بارز يستمد أصوله من التراث الإسلامي والواقع الاجتماعي، مؤكدًا أن السياسة لا تنفصل عن الواقع الموضوعي ولا عن روح المدينة الفاضلة. ابن سينا ركّز على أن السياسة منوط بها العقل بامتياز، وأن الحاكم المثالي هو “الحاكم الفيلسوف”، رمزًا لتكامل الفكر والفعل. أما ابن حزم فقد نظر إلى السياسة كحقيقة اجتماعية تخضع لشروط زمانية ومكانية متغيرة، في حين عمل الماوردي على تقنين السياسة وشرعنتها، تمهيدًا لاستحداث قوانين تحكم ممارسات السلطة، ما يشير إلى محاولات السيطرة الحصرية على العملية السياسية. ابن تيمية جلب بعدًا دينيًا وظف السياسة الشرعية كصبغة تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مؤكدًا أن الطاعة السياسية تتوقف على الإنصاف والتزام الحاكم بقيم الشريعة.
تعكس هذه التنوعات الفكرية، تمظهرات اختلافية جوهرية في تعريف السياسة حتى يومنا هذا، حيث يختلف الباحثون والسياسيون باختلاف خلفياتهم الفكرية والإيديولوجية. هناك من يرى السياسة سلوكًا بشريًا يمتد من الفرد إلى الجماعة، يهدف إلى تحقيق المصالح المختلفة. وهو تصور يؤكد على أن السياسة ليست حكرًا على الحكام فقط، إذ إن الإنسان بطبيعته كائن سياسي واجتماعي، لا يكتمل إلا في إطار المجتمع السياسي الذي يتشكل داخل الحدود الوطنية والعلاقات الإقليمية والدولية.
وبالتالي، السياسة مفهوم ديناميكي يشمل الفرد والجماعة والسلطات والمؤسسات المدنية، من الأسرة إلى الدولة، ومن القبلية إلى المؤسسات الوطنية. هذا ما أكده الفكر السياسي الإسلامي منذ مراحل مبكرة، حين أوجب “شورى الأمر” و”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” كوظائف جماعية جامعة تشتمل على المشاركة الشعبية في تدبير الشؤون السياسية، بعيدًا عن أي هيمنة فئوية أو سلالية.
تتجلى الاجتهادات الإسلامية في تصنيف السياسة وفق مستويات متعددة كما لدى ابن سينا، الذي بدأ بتدبير شؤون النفس ثم الأسرة مرورًا بالأسرة الممتدة ومحيط الخدم، وصولًا إلى الدولة. أما “إخوان الصفا” فقسموا السياسة إلى خمسة أنواع: النبوية، الملوكية، العامة، الخاصة، والذاتية، موضحين كيف تتداخل السياسة مع كل أبعاد الحياة الروحية والمادية والاجتماعية.
في التحليل التاريخي وضمن الإطار العلمي، تبرز السياسة كظاهرة اجتماعية ذات قوانين ونظريات، غير محض عشوائية، وهو ما يجعلها مجالًا معرفيًا جديرًا بالدراسة المنهجية. ولهذا نجد ابن سينا يصف السياسة بأنها علم، يدرس الرئاسات والاجتماعات المدنية بمقاييس عقلية وتطبيقية. وعبر الأدوات العلمية كالملاحظة والاستقراء، يمكن التنبؤ بتحولات السلطة وتطور الأحداث السياسية، فضلاً عن صياغة قواعد عامة تحكم السلوك السياسي.
في مقابل ذلك، هناك من يصنف السياسة كفن يتطلب مهارة عالية في إدارة الموارد والقوى، وإدارة الصراعات بحنكة، فـ”فن الممكن” كما عبَّر عنه الرئيس الأمريكي جونسون، يعكس جوهر السياسة كقدرة على تحقيق المصالح وتوظيف الوسائل بذكاء. لكن هذا التوصيف كان أيضًا موضوعًا لنقد لأنه يختزل السياسة إلى صراع رمزي بين القوى، متجاهلًا أبعاد العدالة الأخلاقية والبعد الاجتماعي الواسع.
أما الاتجاه الماركسي، فركَّز على السياسة كعقيدة مرتبطة بالهيمنة الطبقية، دراسة الصراع الاجتماعي باعتباره جوهر الممارسة السياسية والسلطوية، مركِّزًا على فكرة أن السياسة هي ميدان للصراع الطبقي لا أكثر.
يمكننا إذًا أن نستخلص أن السياسة، مهما تعددت تعاريفها وتباينت توجهاتها، تظل ظاهرة إنسانية كلية ترتبط عضويًا بكل مظاهر الحياة ومكوناتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والجغرافية، وتظل متغيرة، متعددة الأبعاد، تجمع بين السلم والصراع، التفاعل والاختلاف، وتحمل في جوهرها قيمة مرنة قادرة على استيعاب المضطرب من القضايا الإنسانية، ولها ميزة فريدة في
الجمع بين الجانب الأخلاقي والجانب الواقعي.
وبهذا نؤكد:
– أن السياسة تظل أفقًا رحبًا يتناول القضايا الشائكة إنسانيًا، لا يقتصر على القانون والمؤسسات فقط، بل يتعدى ذلك إلى أبعاد معقدة متغيرة.
– أن طبيعتها في العمق سلمية، حيث يلجأ السلوك السياسي إلى القوة فقط كتهديد مشروع، وليس فرضًا قسريًا دائماً.
– أنها تضمر أبعادًا تصارعية تعاونية في آن، تجمع القوة والنفوذ بالثقة والتوافق.
– وأنها متغيرة لأن الإنسان مستمر في البحث عن الأفضل، بالإضافة إلى تغير الظروف والأفكار التي تلعب دورًا مركزياً في إعادة تشكيل السياسة وإعادة صياغة العقائد.
في النهاية، السياسة ليست مجرد لعبة قوة أو مهنة شأن عام، بل هي تجسيد حي للصراع الأخلاقي والسياسي والاجتماعي الذي يحرك الإنسان ويشكل مصيره الجماعي، وسندًا لا غنى عنه لاستقرار الأمة وقيام المجتمعات العادلة.
