في رحاب إبراهيم بن علي الوزير.. شهادة للتأريخ

في رحاب إبراهيم بن علي الوزير.. شهادة للتأريخ

بقلم: حسن الدولة
السبت23 أغسطس 2025_
رحم الله الأستاذ العلامة والمفكر السياسي صارم الدين إبراهيم بن علي الوزير، فقد كان واحداً من أولئك الرجال الذين وُلدوا ليكونوا حالة وطنية، لا مجرّد شخصيات عابرة في سياق السياسة أو الفكر. انتمى إلى بيت جهاد وعلم، هو بيت الوزير، ذلك البيت الذي وضع بصمته على أبرز مفاصل التاريخ اليمني المعاصر، بدءاً من توحيد اليمن في عهد الإمام يحيى، مروراً بثورة الدستور عام 1948م، وصولاً إلى تأسيس التيار الثالث في ستينيات القرن الماضي، وانتهاءً بفكر عابر للطوائف والمناطق والصراعات.
ولد الأستاذ إبراهيم في مدينة تعز سنة 1351هـ، وتربى في كنف والده الشهيد العَلَم علي بن عبدالله الوزير، الرجل الذي شارك الإمام يحيى في توحيد لوائي تعز وإب، وأدى الثمن دماً بعد فشل ثورة الدستور. في أجواء العلم والجهاد والالتزام، نشأ إبراهيم، فحمل في شخصيته تلك التركيبة النادرة بين الورع العلمي والطموح السياسي، وبين التواضع الزاهد والكاريزما اللافتة.
درس القرآن وتجويده، ثم التحق بالمدرسة العلمية، لكنه لم يُكمل الدراسة فيها بسبب الأحداث العاصفة التي لحقت بثورة الدستور، حيث أُودع سجن قلعة القاهرة وهو فتى في مقتبل العمر. وفي لحظة استثنائية داخل السجن، بايعه رفاقه وهو في العشرين من عمره، ما شكّل في وجدانه شعوراً مبكراً بالمسؤولية السياسية والطموح القيادي. بعد خروجه من السجن، هاجر إلى مصر، حيث أكمل دراسته العليا وانفتح على التيارات الفكرية القومية والإسلامية والحداثية، وهناك تشكّلت لديه ملامح المشروع الذي عاد به إلى اليمن بعد قيام الجمهورية في 1962.
لم ينخرط الأستاذ إبراهيم في الاستقطاب الثنائي الحاد الذي شهده اليمن بعد الثورة، بل أسس لحالة ثالثة، عقلانية وواعية، فأنشأ حزب اتحاد القوى الشعبية اليمنية، ليكون لسان حال طبقة مثقفة تبحث عن العدالة دون شعارات غوغائية، وعن الدولة دون عسكرة، وعن الدين دون تحزيب. وكان لهذا التيار ما يُعرف بالقوة الثالثة، وهي نخبة من المثقفين والسياسيين نذروا أنفسهم لمشروع وطني مستقل، لكنه – كما كل المشاريع الرصينة – لم يكن يحظى بحظوة لدى مراكز القوة.
وقد ظل الأستاذ إبراهيم، رغم نفيه واستقراره في واشنطن، رقماً صعباً في المعادلة السياسية اليمنية، إلى درجة أن كثيراً من الرؤساء – وفي مقدمتهم آخرهم علي عبدالله صالح – وضعوه تحت الرقابة المستمرة، وتعرض لعدة محاولات اغتيال، واحدة منها كانت بالسم، لكن الله نجاّه منها جميعاً، فواصل دوره بقلمه ولسانه ومؤلفاته.
أما على مستوى الإنتاج الفكري، فكان الأستاذ إبراهيم غزير العطاء، وتنوّعت مؤلفاته بين السياسي والفكري والديني، أبرزها “لكي لا نمضي في الظلام”، “بين يدي المأساة”، “الطائفيون آخر ورقة للمتعالين في الأرض”، “الإمام زيد: جهاد حق دائم”، “الإمام الشافعي: داعية ثورة ومؤسس علم”، “الميثاق في سبيل الله والمستضعفين”، وغيرها مما تجاوز العشرين عنواناً، وتُظهر جميعها نضجاً فكرياً واستيعاباً عميقاً لتعقيدات الواقع اليمني والعربي والإسلامي.
كان الأستاذ إبراهيم أبرز أبناء الشهيد علي الوزير من حيث الحضور السياسي والريادة الحركية، وهو شقيق نخبة من الأعلام، في طليعتهم الشهيد عبدالله الوزير، مهندس ثورة 1948م، والأستاذ زيد، أحد أكثر أبناء البيت نبوغاً وتأليفاً وثقافة، وقد مزج بين العلوم الدينية والعقلية الحديثة، حتى غدا مفكراً وفيلسوفاً من طراز رفيع، ترك بصمة خالدة في مشروع الدولة المدنية والفكر الدستوري.
أما القاسم، توأم روحه ورفيق دربه، فكان الشاعر المفكر، والكاتب العميق الذي قلّ أن يجود الزمان بمثله، رجل إذا نطق أدهش، وإذا كتب نفذ، وإن قلّ إنتاجه المنشور، إلا أن وهج فكره كان ظاهراً في حضوره، وثابتاً في تأثيره، ومَن عرفه أدرك كم خسر الفكر العربي بصمته الطويل.
ويأتي ثالثهم العباس، المجاهد البطل، الذي حمل السلاح كما حمل المبادئ، ووقف في ميادين النضال وقفة لا يخطئها الشرفاء، رجل المواقف الصلبة والنفس الطويل، والمبادئ التي لا تنحني للعاصفة. كان مناضلاً يليق باسمه، وجندياً من جنود هذه العائلة التي اختارت أن تكتب تاريخها بالكفاح لا بالامتيازات.
لقد آمن هؤلاء جميعاً بفكرة الدولة المدنية الحديثة، لكن الأستاذ إبراهيم كان الأجرأ في تحويل هذه الفكرة إلى تيار سياسي منظم، ورؤية وطنية متكاملة، جعلته ندّاً حقيقياً للملكيين والضباط على حد سواء. وفي ظل الاستقطابات والوصايات التي عرفها اليمن الحديث، بقي صوته صوت العقل، وموقفه مرجعية أخلاقية في زمن التنازع والادعاء.
رحل الأستاذ إبراهيم الوزير عام 1435هـ (2014م)، بعد رحلة كفاح قلّ نظيرها، تاركاً وراءه ميراثاً من الفكر والسياسة والخلق، ومشروعاً لا يزال صالحاً ليكون بوابة الخروج من أزمات اليمن المتكررة. ومهما تعددت الأسماء والاتجاهات، فستبقى ذكرى هذا الرجل علامة فارقة في مسيرة اليمن نحو الكرامة والمواطنة، وسيظل التاريخ منصفاً لأمثاله، أولئك الذين لم يساوموا على المبادئ، ولم يطلبوا ثمناً لمواقفهم.
اقرأ أيضا:وثيقة تاريخية هامة بقلم الأستاذ زيد بن علي الوزير
اقرأ أيضا للكاتب:رد وتعقيب على مقال “الواقعية السياسية والخلل في موازين القوى” للأستاذ محمد حسن زيد
