كتابات فكرية

فشل الأقمار الصناعية وانتصار العيون المحلية

فشل الأقمار الصناعية وانتصار العيون المحلية

  • د. عبد الرحمن المؤلف

 الأحد13يوليو2025_

وسط محيط يعجّ بأجهزة الاستخبارات المتطورة، وطائرات الدرون الشبحية، والأقمار الصناعية المتربّصة، ظهرت القوات المسلحة اليمنية كاستثناءٍ صادم في معادلات الحرب المعاصرة، خصوصًا في جبهة البحر الأحمر، حيث تمكّنت من تنفيذ عمليات عالية الدقة والإحكام، أربكت عواصم القرار الأمني في واشنطن وتل أبيب ولندن.

فما الذي يفسر هذا النجاح؟

ولماذا باتت القوى الغربية تخشى من جهاز استخبارات يعمل في الظل بإمكانات متواضعة لكنها فعّالة؟

بين الأقمار الاصطناعية و”عزبة صياد”

ليس سرًا أن الأجهزة الاستخباراتية الغربية، وعلى رأسها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، وجهاز الموساد الإسرائيلي، تمتلك شبكات رصد فلكية قادرة على تتبّع كل شاردة وواردة. ومع ذلك، فشلت تلك الأجهزة في إحباط أو التنبؤ بعدد من أكثر الهجمات تعقيدًا وتنسيقًا نُفّذت ضد سفن مرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر خلال الأشهر الأخيرة.

ويعود هذا الإخفاق إلى عامل جوهري: اعتماد القوات المسلحة اليمنية على بنية استخباراتية لا مركزية، تعتمد على الإنسان أكثر من التقنية، وعلى الأرض أكثر من السماء.

بكلمات أوضح: بينما كانت الأقمار الصناعية ترصد مجسات الموانئ، كان صيّاد في باب المندب يدوّن تحركات مشبوهة في دفتره.

عناصر القوة في الجهاز الاستخباراتي اليمني

1. التكامل بين المصادر

بحسب دراسة نشرتها Journal of Naval Warfare في عددها الثالث لعام 2024، فإن القوات اليمنية تستخدم بيانات الأقمار التجارية المفتوحة (مثل MarineTraffic)، إلى جانب معلومات بشرية ميدانية، وتحليلات إعلامية دقيقة، لتشكيل “صورة استخباراتية ثلاثية الأبعاد”.

2. التحليل لا الكمّ

الفارق الأساسي بين الأجهزة الغربية واليمنية يكمن في أن الأولى تُغرق نفسها بالبيانات، بينما تركّز الثانية على تحليل محدود ودقيق لما يهم ميدانيًا. فريق متخصص في صنعاء، وفق تقرير IMESS، يضم ضباطًا ميدانيين ومحللين نفسيين وإعلاميين، يشكلون معًا “غرفة حرب للمعنى قبل الحدث”.

3. التوزيع السريع والتنفيذ الفوري

ميزة خطيرة ولافتة تمثّلت في قدرة القوات اليمنية على تسليم المعلومة مباشرة إلى الجهة المنفذة خلال دقائق، وهو ما أفضى إلى عمليات نوعية مثل استهداف السفينة “إترنتي سي” في غضون ساعات من تجاهلها للتحذيرات، وفق بيان الناطق العسكري يحيى سريع.

4. استغلال نقاط ضعف الخصم

رغم تفوّق إسرائيل وأمريكا تقنيًا، إلا أن صنعاء تعي جيدًا أن أنظمة الدفاع المتطورة مثل “باراك 8″ و”آرو-3” لا تحمي السفن المدنية في عرض البحر، وأن “حرب الظل” لا تحتاج إلى مقاتلات بل إلى صبر، وانتظار اللحظة المناسبة.

أسباب القصور الغربي: حين تصبح التكنولوجيا عبئًا

وفقًا لتحليل نشرته The Guardian في أغسطس 2025، فإن أحد أسباب فشل الاستخبارات الغربية في التعامل مع اليمن يعود إلى “الارتكان المفرط إلى الأنظمة الرقمية” مقابل القصور في فهم الثقافة المحلية والبيئة الميدانية. وأضاف التقرير أن السرية التي تحيط بتحركات القوات اليمنية، والتمويه المعلوماتي عالي المستوى، خلقت بيئة عمياء أمام التكنولوجيا الغربية.

والأهم من ذلك أن أجهزة مثل CIA والموساد لا تملك نفوذًا ميدانيًا فعليًا في الداخل اليمني، حيث تُسيطر صنعاء على شبكات الاتصالات والطرقات والموانئ المحورية.

تداعيات التفوّق الاستخباراتي اليمني على الأطراف المتصارعة على إسرائيل:

تحوّلت المياه الإقليمية من نقطة عبور آمنة إلى كابوس بحري مفتوح. وتشير WSJ إلى أن قطاع النقل البحري الإسرائيلي يخسر ملايين الدولارات أسبوعيًا نتيجة اضطراره إلى تجنّب البحر الأحمر.

على أمريكا وبريطانيا:

أضعف هذا التفوق قدرة واشنطن ولندن على تقديم صورة حاسمة للحلفاء الخليجيين، مما زاد من التردّد في المشاركة المباشرة في أي حملة ضد اليمن، كما أنه يُعيد طرح تساؤلات عن جدوى “حرب الذكاء الاصطناعي” أمام حرب “المعرفة الطبيعية”.

على دول الخليج:

الدول الخليجية باتت تدرك أن أي تورط عسكري مباشر قد يجعل منشآتها الحيوية تحت نيران دقيقة ومدروسة، كما حدث سابقًا في الضربات على “أرامكو” في بقيق وخريص.

خاتمة: التجربة اليمنية تكتب فصلًا جديدًا في علم الاستخبارات

ما يحدث اليوم في اليمن ليس فقط حربًا عسكرية أو بحرية، بل هو ثورة مفاهيمية في كيفية بناء منظومة استخباراتية فعالة بأقل الإمكانات. إنه الدرس القاسي لأجهزة كانت ترى البحر الأحمر مجرد ممر تجاري، فوجدته يتحول إلى مصيدة بذكاء محلي.

في زمن الأقمار الصناعية، لا تزال “العيون المحلية” تسبق الضوء.

المراجع:

IMESS Institute: “The Evolving Maritime Capabilities of the Yemeni Armed Forces” – 2025

Journal of Naval Warfare, Vol. 15, Issue 3, 2024

Wall Street Journal (WSJ) – July 2025

The Guardian, August 2025

Jane’s Defence Weekly, April 2025

MarineTraffic & VesselFinder (بيانات السفن في الزمن الحقيقي)

UN Panel of Experts on Yemen, 2024 Reports

International Maritime Organization (IMO)

اقرأ أيضا للكاتب:اليمن يغيّر معادلات الأمن الإقليمي من الدفاع إلى الردع

الصورة ارشيفية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى