اخبار محليةنافذة على كتاب

عبدالباري طاهر يكتب عن القاسم بن علي الوزير.. والحرث في حقول المعرفة

عبدالباري طاهر يكتب عن القاسم بن علي الوزير.. والحرث في حقول المعرفة

الأحد22سبتبمر2024_ كتب الأستاذ عبدالباري طاهر مقالا مطولا في مجلة المسار الصادرة عن مركز التراث والبحوث اليمني العدد الـ 74 ، والتي خصص عددها للحديث عن الأستاذ والمفكر الكبير القاسم بن علي الوزير .

قدم الأستاذ عبدالباري في مقاله خلال الأسطر القادمة قراءة دقيقة عن الكتاب الأخير للأستاذ القاسم بن علي الوزير حرث في حقول المعرفة، “صوت الشورى” ولأهمية المقال تعيد نشره عن مجلة المسار.

 القاسم بن علي الوزير.. والحرث في حقول المعرفة

الأستاذ عبدالباري طاهر

 أ. عبد الباري طاهر

«حرث في حقول المعرفة»كتابٌ للمفكر النهضوي والفقيد الكبير القاسم بن علي الوزير. صدر الكتاب 1443هـ/ 2022م، عن مركز التراث والبحوث اليمني. يقع الكتاب متوسط الحجم في 167 صفحة.

عن الكتاب والكاتب مقدمة الأستاذ زيد بن علي الوزير-مركز التراث والبحوث اليمني. يتحدث الأستاذ زيد عن شقيقه ورفيق الطريق الذي سارا فيه منذ سقوط الثورة الدستورية 1948، في ظروف غاية في القسوة والشقاء، مؤكدًا على حمل إرث الثورة العظيم، ونشدان الخير والتطور والحكم الرشيد. تغمره العاطفة عن شقيقه ورفيق الطريق، ويرى أن شخصية القاسم تقوم على نواحٍ متعددة ومبدعة؛ فهو شاعر كبير إلى جانب ذلك أديب بليغ الأسلوب، ناصع الكلمة، عميق الفكرة، لديه القدرة العلمية المتمكنة، والتجرد التام من أي انتماء إلا للعلم وحده كرؤية زيد. له اطلاع على تاريخ الفكر الإسلامي والتراث العربي والمعاصر، وعلى تاريخ الفكر الغربي، وعلى مسار الفكر الماركسي، ويتناول بتوسع قراءته للفكر المعتزلي والفلسفي والأدبي والتاريخي.

ويدلل بنماذج وشخصيات عديدة، ثم يتناول الكتاب فيشهد له بحسن التحليل، وإنارة الطريق، كما يشير الأستاذ زيد إلى تناول الكتاب ما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، ويرى أن الإمبراطورية قد مثلت سورًا قويًّا حاميًا للشرق المسلم من طوفان الاحتلال الغربي، ويندد محقًّا بمكائد الغرب، وطمس الهوية، واستغلال تخلف العالم الإسلامي. ويبدي تعاطفه مع السلطان عبد الحميد-آخر سلاطين آل عثمان. والأستاذ زيد -كمفكر إسلامي- تغمره العاطفة في الترحم على السلطان عبد الحميد؛ وهو ما فعل حينذاك حافظ إبراهيم في قصدته الشهيرة:”لا رعى الله عهدها من جدود..”، وإن شابها الانتقاد.

يتناول الأستاذ زيد موقف جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومقاومة المفاهيم الغربية الغامضة لما يسميها المفاهيم الإسلامية البنَّاءة، وإن موقفها قد أضعف الهجمة الغربية، لكنه لم يتغلب عليها.ويرى أن إدراك طبيعة المكائد الغربية ضروري لفهم شروط النهضة، ويرى أن الكتاب يمثل المخرج من الإبهام والغموض، وإن المضامين الواضحة خير معين في استجلاء الطريق.

ويضيف: “ومن هنا فإني لواثق أن ما قدمه القاسم بن علي الوزير في كتابه هذا وفيما يكتب من فهم دقيق للمفاهيم، وعمق الأفكار، سيجد فيه الناس منارةً تهدي للخروج من غياهب مفاهيم منحرفة تعتقت، ومفاهيم أخرى غامضة أضرت.

ويشير إلى أن القاسم لا يحب أن ينشر كتابًا ولا شِعرًا، وأن الأستاذ إبراهيم بن علي الوزير حاول مرات عديدة إقناعه بطبع أبحاثه وبعض أشعاره الكثيرة، وكم حاول أصدقاء معجبون به إقناعه بذلك، فلم يُصغِ إليهم، وقد قام إبراهيم بتجميع ما توفر له وطباعته.

في حين قام زيد بتجميع ما أمكن جمعه من أوراق هنا وهناك للطبع في مركز التراث والأبحاث، وذلكم بالتعاون مع صديقه المفكر العربي صبحي غندور، رئيس مركز الحوار العربي.

توطئة

في التوطئة المُقَدَّمة من المؤلف، يتناول الأستاذ قاسم المواضيع المتعددة في الكتاب الصغير حجمًا الكبير معنىً وأهميةً ودلالةً، والعميق فكرًا ورؤىً؛ فهي كما يدون مجموعة محاضرات وأحاديث متفرقة مستقلة بعضها عن بعض تدور حول موضوع واحد هو النهضة. وحقًا، فإن المحاضرات والمواضيع الأخرى مكرسة من الألف إلى الياء لقضية النهضة، ومسار الحداثة والتنوير والبناء في الوطن العربي كله. وبالفعل، فإن تنوع علوم ومعارف الأستاذ قاسم كثيرة ومتعدد، وتدلل على مقدرة كبيرة ومهارة وإتقان.

سؤال النهضة -كما يرى- لايزال قائمًا، ويشير إلى أنه ألقى معظم المحاضرات في مركز الحوار العربي في واشنطن الكبرى، وقد ألقى نظرة جديدة بغية موازنة ذاتية، فلم يرَ تعديلًا أو تغييرًا في موقف؛ فهي وجهة فكرية قائمة على منهج مستفاد من مصادر علم، وكما يختم: فلا جرم تظل صالحة للنظر ما احتاج الواقع للتغيير.

في حديثه عن الموقف من الحضارة الغربية،يعرف مصطلحين. والباحث دقيق جدًا في تحديد المصطلحات، وتوضيح المفاهيم والإحاطة بالقضايا. المصطلحان: الحضارة، والغرب.

يختار تعريفًا جامعًا لعالم اجتماع هو مالك بن نبي،إذ يقول: “إنها مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده من كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطواره. فالمدرسة، والمعمل، والمستشفى، ونظام شبكات المواصلات والأمن في جميع صوره عبر سائر تراب القطر، واحترام شخصية الفرد، تمثل جميعها أشكالًا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه”.

ويرى مالك بن نبي أن جوهر الحضارة مُعطى مضمر في ذاتية أي مجتمع تحمل إرادته معطياتها الأصلية وفقًا لاطراد تاريخي متواصل، أما من الناحية المادية البحتة، فإن الحضارة هي التي تصنع منتجاتها، وليس العكس.

ويتناول مصطلح «الغرب والشرق»، ويرى أن المصطلح قد بلغ الأوج مع المرحلة الاستعمارية. فقد أصبح الشرق يعني المنطقة المُسْتَعْمَرة، والغرب المنطقة المُسْتَعمِرة، وهناك أكثر من شرق وأكثر من غرب.

ثم يدرس متسائلًا: ما المقصود بالحضارة الغربية؟ ويرى عدم إمكانية الإجابة إذا حصرت في مكان جغرافي معين منعزل أو جنس معين، ويرجح البحث عنها في المجال الحيوي مع توينبي أو مع ابن نبي على مستوى حضارة ضمن نظريته في النشاط المشترك. فالغرب فكرة أو منطقة فكر، أو هو -كما يقول جارودي- ليس تعريفًا جغرافيًّا، ولكنه مجموعة من القيم والقوى والثقافات والماديات التي تميزه كحضارة متقدمة في وقتنا الراهن.

ويرى الباحث أنه إذا ما توفرت الشروط والظروف في مجتمعٍ ما يكون ميلاد الحضارة، وتكون انبثاقًا من رحم ثقافة سابقة. والحضارات ليست دوائر مغلقة، وما لدى الغرب من أفكار ومبادئ ونظم وفنون وماديات، فله جذور في حضارات أخرى.

ويدرس الروابط والتدخل بين الحضارات المختلفة وعلاقاتها ببعضها، ويرى أن جوهر الحضارة واحد من حيث هي تفاعل الإنسان مع الزمن ومع الطبيعة. ويقرأ الخصوصية في كل حضارة: طبيعة القيم، والفلسفة، والمعتقدات، والعادات، ولكي نحدد موقفًا من الحضارة لا بد أن نفهمها وفلسفتها على وجه أخص. ويرى أن الإنسان يبدع الحضارة؛ فالحضارة إرث إنساني مشترك تقوم على أساس التكامل.

ويدرس الحالة التي وصلت إليها الحضارة الغربية، وما نجم عن الثورة البرجوازية والصناعية وحاجتها إلى المواد الأولية والأسواق، ونشأة ظاهرة الاستعمار وصولًا إلى أعلى مراحل الرأسمالية وما صاحبها من تبرير للتفوق العرقي يحق له أن يستعمر، وأن يستعبد مستشهدًا بمقولات رينان الاستعمارية والعنصرية.

ويجزم أن الموقف ليس ضد الغرب، ولا ضد الحضارة الغربية؛ وإنما ضد الاستعمار وفلسفته المنحلة، ومبرراته اللاأخلاقية.وهو الموقف الذي أدركه باكرًا ماركس وأنجلز ولينين، ولاحقًا جارودي وإدوارد سعيد وأمين معلوف وآخرون كُثُر [الكاتب].

وتصفية الاستعمار -كرؤية الباحث- لا تعني الوجود العسكري ومؤسساته فقط، فالأهم تصفية ثقافته، وفلسفته، ومنطقه.

ويرى -محقًا- أن جمال الدين الأفغاني وتلاميذه قد قبلوا الحضارة، ورفضوا الاستعمار وهيمنة الغرب. ويقدم قراءة متميزة لفكر وفلسفة الاستعمار ومآسيه في البلدان المستعمرة.

كتاب حرث في حقول المعرفة

في محاضرة بعنوان: «مراجعات وتأملات فكرية في مفترق قرنين»،يتحدث عن العدوان الصهيوني البربري على غزة، والمواقف المخزية للأنظمة العربية طبعًا، وغليان واحتجاجات الشعوب الأخرى.

يدرس نشأة الإمبراطوريات في القرن السابع عشر، وسيطرة الإمبراطورية البريطانية ثم الفرنسية، وبداية المرحلة الاستعمارية. ثم يأتي على تناول الإمبراطورية العثمانية، وتبني الجامعة الإسلامية، والسعي الروسي القيصري للسيطرة على شعوب آسيا الوسطى، واحتلال بريطانيا لمصر، واستعمار الهند، والقضاء على الدولة الإسلامية فيها، واحتلال فرنسا لمعظم الشمال الإفريقي، واستباحتها مع بريطانيا للقارة الإفريقية، وتطويقهما عقر دار الإمبراطورية العثمانية في الجزيرة والعراق وبلاد الشام. ويقرأ ثورة الاتحاد والترقي، واعتمادها النهج الطوراني متمثلة النهج الأوروبي الاستعماري.

ويتناول الهجمة الاستعمارية الأوروبية بأبعادها السياسية والاقتصادية والعسكرية والفكرية.

يدرس عميقًا حركة الإصلاح كتجديد فكري وإصلاح ديني وتحديث علمي وسياسي واجتماعي، هزت المجتمعات الشرقية كلها، وليس العالم الإسلامي والعربي وحدهما. ويتتبع الخط البياني لهذه الحركة بدءًا من عدو الاستعمار الأول جمال الدين الأفغاني، ويتناول فكرة الجامعة الإسلامية، ومحاولات الإصلاحات التي قام بها عبد الحميد.

ويقرأ بالتفصيل جهود التجديد والإصلاح، ويحددها بإحياء العلم، والقطيعة مع عصور الانحطاط، وفتح باب الاجتهاد.

ويتناول موقف القوى التقليدية في مناهضة التجديد الفكري، والتغيير السياسي، والإصلاح الديني والإحياء العلمي، والتمسك بالتقاليد الموروثة.

ويأتي على ذكر التيار الثالث (تيار التغريب)، ويربط هذا التيار محقًا بهيمنة الاستعمار، وبسط نفوذه على الكره الأرضية.

ويرى أن للتقليد معسكرين: ماضوي، وتقليد أوروبي. ويربط نشأة العروبة بسقوط عبد الحميد خان، وبروز تيار الاتحاد والترقي.

وهذا الأمر بحاجة إلى مراجعة ونقاش؛ فالصراع بين العروبة، والاحتلال العثماني، يعود إلى مراحل مبكرة، وصراع المصريين والشوام والمغرب العربي أيضًا سابق، كما أن قيام الإمام القاسم بن محمد يعود إلى مطلع القرن التاسع الهجري. [الكاتب].

ويصنف الأفكار الرئيسية مطلع العام 1909 في الآتي: فكرة الجامعة الإسلامية، فكرة التجديد والتحديث والإصلاح، فكرة التقليد والجمود، فكرة التغريب، فكرة العروبة. ويدرك المفكر والباحث أن قضية الدسترة كانت سائدة في تركيا وإيران، وقامت ثورة المشروطية في إيران عام 1906، وفي تركيا 1911، يشدد على العام 1909 كبداية لمشروع النهضة.

ويرى أن نهاية الحرب العالمية الثانية كانت سقوط الخلافة العثمانية، وغياب فكرة الجامعة الإسلامية، وسقوط مشروع الاستقلال العربي والدولة الواحدة، وانكشاف خديعة الثورة العربية الكبرى، وتقاسم الدولتين المنتصرتين: بريطانيا وفرنسا، العراق وبلاد الشام وفلسطين، وتحويل المنطقة العربية إلى دويلات مستعمرة، وتجزيئه إلى أوصال. وقد استمرت فكرة التجديد والإصلاح في كل قطر تواجهها القوى التقليدية.

ويرى -محقًا- أن فكرة التجديد والإصلاح قد أنتجت حركات التحرر من الاستعمار، وانطلاق دعوات التغيير الاجتماعي، وارتفاع وتيرة الحريات السياسية. وفي الجانب السياسي الديمقراطي تكونت مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ومؤسسات وهيئات ونقابات وحرية صحافةواسعة، وقيام حكومات منتخبة، ومجالس نيابية فاعلة على نواقصها، وانتشار الوعي والتعليم.

ويتناول الجانب الاقتصادي، وتنامي دعوة الوحدة العربية، وشهدت الثقافة نهضة حقيقية في مجالات متعددة.

ويتناول باهتمام غرس إسرائيل في قلب الأمة العربية، و1948 التي شهدت على فساد الأنظمة، وسيطرة الاستعمار.

وقد تتابعت الانقلابات العسكرية بدعوى القضاء على الفساد، وتحقيق التقدم، والقضاء على التجزئة، وتحرير الأرض المغتصبة.

كان التحرر والوحدة والحرية والعدل والتقدم ملء القلوب والعقول؛ فإن رفع الحكام الجدد لراياتها قد دفع هذه الجماهير المشتعلة حماسًا لها للتهليل لهم، والالتفاف حولهم.

ضحت الأمة بحريتها وحقوقها على أمل التحرير، ولكن الحكام العسكر صادروا الحريات المكفولة؛ فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأممت الصناعات والمؤسسات الاقتصادية لتمويل الحكم، وضمان استمراره بالسيطرة.

ويتدارك: صحيح أن التعليم قد ازداد، وخارطة التعليم اتسعت، ولكن العلم ذاته قد انكمش.

اعتبر الانقلابات قطعًا للتطور الطبيعي. ويضيف: سواء صدقت نظرية المؤامرة أم كذبت؛ فإن النتيجة خدمت العدو، ولم تخدم الأمة.

ومع الاحترام لرأيه؛ فإن الأنظمة الملكية كانت متواطئة وعميلة، ولكن ذلك لا يعفي الأنظمة القومية من مسؤولية الهزيمة وتبعاتها القائمة حتى اليوم. [الكاتب].

وانتقد غياب الحرية والديمقراطية ومؤسسات المتجمع المدني وتغول أجهزة المخابرات وعسكرة الحياة، وإليها ينسب الباحث محقًا إفراغ المشروع الوحدوي من محتواه، وتغييب الإرادة الشعبية، وحصر الحكم في الحاكم، ويعتبر هزيمة 1967 نتيجة متوقعة، بل لازمة لذلك.

ثم يتناول -محقًا- إدانة القبول بالأمر الواقع، واتفاقيات كامب ديفيد حتى كارثة أوسلو التي حولت المقاوم إلى مفاوض يقدم التنازل بعد الآخر دون أن يكسب شيئًا؛ ليصل إلى استسلام النظام العربي، وسيادة روح القُطرية، وغياب الحرية أيضًا؛ مما أدى إلى تغول الدكتاتورية في أبشع صورها، وزاد الاعتماد على أجهزة المخابرات، وقمع الحريات وإخماد العقول.

ويرى -محقًا- أن الهزيمة أيقظت روح الأمة، واستنفرت قواها، وازدهرت ثقافة المقاومة ابتداءً من رفض نتائج الهزيمة، ورفع اللاءات الثلاث في الخرطوم، وانطلاق المقاومة الفلسطينية.

ويوجه سهام النقد للانكسار الذي ساد عقب كامب ديفيد واتفاقات أوسلو؛ وهو ما يتفق فيه مع المفكر الكبير إدوارد سعيد في كتابيه: «أوسلو سلام بلا أرض»، و«غزة وأريحا سلام أمريكي».

في مبحث بعنوان «أولويات للنهضة العربية»،يتناول المشكلات القائمة، ومخاطر التجاهل؛ داعيًا إلى انتفاضة ثقافية حقيقية على الذات. ويشخص حالة التدهور في المجتمعات، وغياب مقومات الحضارة. ويقرأ مرحلة البناء الحضاري (النهضة).

ويرى أن العنف ليس شرطًا، ولا هو حتمي. وأنه يسوغ حين يكون ضرورةً تساوي ضرورة القوة لتنفيذ القانون من أجل العدل.

ويرى أن الهدم قد طال زمنيًا، وألغت القوة دور العدل. ويرى أن الهدم منصب على الأشكال وإبدالها بأشكال أخرى، وأن العنف قد استخدم بإسرافٍ غير مبرر.

ويقرأ أن الجهل أعتى مشاكل التخلف، ويرى الخطأ الأخطر في معالجة الجهل بوسائل الجهل نفسه.

يلح الباحث كثيرًا في مباحثه على الثقافة بالمعنى العام من حيث هي منظومة القيم والمعتقدات والمعارف، ويتوسع في أثر الثقافة وأهميتها في التنمية والإصلاح والبناء الحضاري، ويقسم العمل من أجل النهضة إلى مرحلتين:

الأولى: إيقاظ الإيجابية والكرامة في الإنسان بإعطائه الحرية الكاملة،وإطلاقها فكريًّا، واجتماعيًّا، وسياسيًّا.

وثانيهما: كما يرى إيجاد الإنسان القادر على استخدام مواهبه المنبثقة عن العقيدة، واستخدام طاقاته المنبثقة عن الحرية.

ويدعو إلى الابتعاد عن التناقض في التوازن بين الحرية والتنمية وحقوق الإنسان والوحدة أو العدالة الاجتماعية والحريات السياسية. ويرى أن التوازن الجديد مرتبط بالثقافة.

وفي ندوة بعنوان: «أفكار حول الإصلاح والتغيير في البلاد العربية»، يتساءل: هل نحن بحاجة إلى إصلاح؟ وأي إصلاح هذا الذي نريده؟ وما هي مجالاته من ناحية، وطبيعته من ناحية أخرى؟

ويواصل التساؤل عن الإصلاح: هل يمكن الإصلاح بدون تغيير؟ وما طبيعة هذا التغيير؟ وما هي مواقعه المنشودة؟ وما هي وسائله؟

ويرى أهمية وضرورة الإصلاح، ويلاحظ تفاوت الإجابات بين علماء الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة. ويرجح الباحث بالبدء بالثقافة؛ فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهي شرط لحركة المجتمع وتحرره من حالة الجمود، ويرى محقًا: إننا بحاجة إلى إصلاح شامل، ونهضة تتجدد بها قوانا، وتكفل بها حقوق إنسانيتنا، وتطلق بها قدراتنا وتزدهر إبداعاتنا.

ويتناول الأولوية الحاسمة، ومن يقوم بذلك، ويضع ثلاث فرضيات:

الدول، ويستبعد هذا الافتراض لثلاثة أسباب:

الأول: قُطرية الدولة القائمة على التجزئة المفروضة بالقوة، وإرادة استعمارية؛ فلا علاقة لها بالمجتمع.

الثاني: قوى المجتمع، ويستبعد هذا الفرض مستشهدًا بثورات التسعينيات في غير بلد.

أما الثالث: فالفرض من الخارج. ويدلل على استبعاده بأنموذج العراق. ويقدم قراءة استثنائية لأنموذج اليابان؛ وهي التجربة التي لها وضعها وظروفها الخاصة.

ويعود ليؤكد على المواطن ممثلًا في تنظيماته الاجتماعية ومؤسساته المدنية، باعتباره صاحب القرار، ومصدر القوة، وإخراجه من ضيق الانتماءات العشائرية والطائفية والأسرية والمناطقية، إلى القضية الجامعة، وتكوين رأي عام يتحرك مع التاريخ. ويدعو إلى مشروع نهضوي تتفق عليه القوى والرواد.

ويرى أن الحركات الكبرى في التاريخ قد تبدأ من شخص. ويدلل بالدعوة الإسلامية، والماركسية، والنازية، والفاشية، وبدعوة جمال الدين الأفغاني، ودعوة الاستقلال في الهند، والدسترة في إيران، والرابطة القلمية في المهجر، ودعوات الحركات السلمية. ويؤكد على أهمية المنطقة التي انطلقت منها الديانات والرسالات الكبرى، والفلسفات والحضارات، وتصطرع عليها وحولها القوى الكبرى؛ فدعوات الإصلاح والتغيير لا بد أن تأخذ الخلفية والإرث بعين الاعتبار.

تحت عنوان «عوامل الانقسام والتجزئة في الأمة والمجتمع»، ألقى محاضرة بمركز الحوار العربي، يشير فيها إلى ملاحظتين:

الأولى: إن المجتمع قد استطاع الحفاظ على وحدة الأمة عبر تاريخها الطويل رغم التمزق، وتفرقها ثقافيًّا واجتماعيًّا إلى فرق ومذاهب نتيجة التطورات المختلفة.

الثانية: إن الحال قد استمر على المنوال نفسه (وحدة الأمة) حتى الحرب الكونية الأولى وما تلاها، ونشأة الدولة القطرية على أسس جغرافية فرضها المستعمر. ويربط الأسباب بالنتائج في دراسة الانقسام.

المشهد الأولحروب الردة، ويعتبرها ثورة مضادة في محاولة لنسف المجتمع الجديد بتقويض وحدته. فليست انقسامًا داخل المجتمع، وإنما ضد المجتمع.والواقع أن صاحب «الفصل في الملل والنحل» ابن حزم، يقسم أصحاب الردة إلى أقسام:

طائفة: بقيت كما عليه الحال، وهم الجمهور.

وطائفة: بقيت على الإسلام، إلا أنهم امتنعوا عن الزكاة، وهم كثر، ومنهم أهل اليمن الذين يطالبون بأخذ الزكاة من أغنيائهم وردها على فقرائهم.

والثالثة: أعلنت الردة كأصحاب مسيلمة وطليحة وسجاح.

فكان الخلاف بالأساس حول مورد الزكاة، ولم يكن ردة بحال، ورجح الدكتور أبو بكر السقاف موقف أبي بكر لعلاقة الأمر بمورد الدولة الجديدة، وحسنًا فعل الباحث في تسميتها ثورة مضادة، ولكن التمييز مهم. [الكاتب].

أما المشهد الثانيفنهاية الخلافة الراشدة، وبداية الملك العضوض، ويعتبره انقسامًا سياسيًا للاستيلاء على الحكم، وإلغاء مبدأ الشورى، وأصبحت القوة للعصبية، وليس للقانون ولا للشريعة، وامتدت القوة إلى كل مناحي الحياة السياسية والشرعية والاقتصادية والاجتماعية، وأفسدت الحياة الأدبية والثقافية والدينية.

ويرى المشهد الثالث في استمرار الثورة العباسية بكل تلكم العوامل الموروثة عن الأمويين في استبدال عائلة بعائلة؛ فظهرت فرق جديدة، وبرزت الشعوبية والعصبيات المذهبية، وانقسمت الدولة العظمى بقيام الدولة الأموية في الأندلس، وحصل الانقسام الثاني بانفصال الغرب، وقيام الدولة الفاطمية، وتتالى بروز الدويلات والإمارات حتى مجيء المغول.

ومع ذلك كله، بقيت الأمة موحدة، والواقع أن التفكك والانقسام قد طال الجسم في تفاصيل تفاصيله، وامتد الانقسام إلى مجمل تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، خصوصًا في الغزو الصليبي، ولكن تبقى روح الأمة العربية كامنة؛ وهو ما أراده الباحث وأكده ما تحقق على يد صلاح الدين الأيوبي. [الكاتب].

ويبدأ الدور الرابع بظهور الإمبراطورية العثمانية، ويربط دورها بالإمبراطورية السابقة (يقصد الأموية والعباسية). والأستاذ هنا يغلب الرابطة الإسلامية. ويرى -محقًا- أنها حمت العالم الإسلامي والعربي من قوى الاستعمار، ويصل الباحث إلى نتيجة صائبة ومهمة؛ وهي العودة بالتمزق والصراعات إلى الاستبداد.

ويتناول ما ترتب على الحرب العالمية الأولى من الاستيلاء على تركة الرجل المريض، وكانت أهم هذه التركة الأمة العربية؛ ليقوم المنتصرون الاستعماريون: فرنسا وبريطانيا، تتقاسم الأمة بالسنتي. ويدرس عميقًا التفكيك والتمزيق في الوطن العربي.

ويدرس أسباب العنف؛ وهو موضوع -كما أشار- يثير حساسية خاصة في هذه الفترة التعيسة. ويرى أن العنف أصبح ذا بعد واحد سياسي، ويعتبره -محقًّا- مأساة إنسانية وأخلاقية مروعة.ويتناول العنف والصراع في أوروبا في القرن السابع عشر؛ ملاحظًا أن العنف أضرى وأشرس، وحتى العنف في منطقتنا، وفي العالم، ليس بعيدًا عن أياديهم. [الكاتب].

ويشير إلى أن العنف لم يقتصر على مجتمع دون آخر أو أمة دون أخرى؛ فهو ظاهرة عامة مشتركة. ويقسم العنف إلى: مرفوض، ومقبول أو مبرر، أو مشروع، وعنف مفروض أو مطلوب.

«جرائر الدكتاتورية العراق أنموذجًا» يرى صادقًا أن الإنسانية لم تُمتحن في تاريخها الطويل بشيء كما امتحنت بالدكتاتورية تصيب الفرد والمجتمع ومجمل تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها، وتسرق أشواق المجتمع حيث يستأثر فرد واحد بمصادر القوة، ويقوم بالتصنيفات للأفراد والجماعات؛ فيصبح مركز الحياة، أو بالأحرى الموت. [الكاتب].

يختزل الأمة في شخصه، ويلغي إنسانية الإنسان، وتترتب على ذلك نتائج مدمرة،إذ يصبح الأمن هاجس الحاكم المستبد، ويصبح الخوف سمة المحكوم المستضام. تصيب الأفراد الأزمات النفسية، وتدفع المجتمع إلى التراجع، وتنحل القيم الأخلاقية، ويسود التزييف الشامل للوعي، ويصبح المجتمع بؤرًا مغلقة على نفسها محقونة بالغضب والحرمان، ويدلل بالصومال في حكم زياد بري.والواقع أن العراق كان الأنموذج للحالة السائدة في المنطقة كلها. [الكاتب].ويشير إلى وضع العراق قبل الثورة. والمأساة أن الحرب الثلاثينية التي قادتها أمريكا، وشاركت فيها دول عربية، دمرت العراق، ومزقت وحدته الوطنية ونسيجه المجتمعي.

«الفقه في غفوة والعقل في إجازة علينا أن نوقظ الإنسان»،تحت هذا العنوان يربط بين الحرية والإبداع؛ محذرًا من المس بالمقدسات والذات الإلهية، ولكنه يجزم بأن الرد هو الدحض بالحجة، وليس العقاب. ويتناول قصة سلمان رشدي، وإلحاد ابن الراوندي، كما يتناول في صفحة 58 و59 الحوار بين إسماعيل أدهم في كتابه «أنا ملحد»، ورد محمد فريد وجدي عليه: «لماذا هو ملحد»، أو رد أحمد زكي أبو شادي: «لماذا أنا مؤمن». ويرى -صادقًا- أن الانتصار لا يكون إلا بالحجة.

ويرى -محقًّا- أن الانشغال بالقضايا الصغيرة والجزئية يصرف الأنظار عن القضايا الأهم والكبرى. ويشنع على دعاة التكفير والتفسيق؛ مؤكدًا أن الإسلام قد جعل التكفير الباطل كفرًا، موردًا الآية: “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.

ويأتي على العولمة، ويعتبرها مصطلحً مطاطًا ومراوغًا؛ عارضًا وجهتي النظر حولها، ولكنه يميل إلى رؤية روجيه جارودي التي يراها أمركة العالم.

ويفرق بين العالمية والعولمة. ويرى أن العولمة تنطلق من إرادة الهيمنة السياسية للسيطرة الاقتصادية على الأسواق، والاستحواذ على وسائل الإنتاجالمتقدمة والمتطورة، والتحكم في قيمة المصادر الأولية، وتسيد ثقافة واحدة.

ويرى أن الشعوب النامية، ومنها شعوبنا، أكثر عرضة وأقل مناعة في مواجهة الهيمنة المتعددة الاشكال.

ويرى أن العالم يتجه إلى نوع من التوحد، وأن الخلاف على غايات العولمة ووسائلها وقيمها الأخلاقية، وأن المسلمين يمتلكون الكثير لتزويد العالم بتنويره في هذا السبيل؛ مدللًا بالقيم الإسلامية العظيمة، مشددًا على رابط العولمة بالهيمنة.

وفي الختام

في الكتاب ملامح تاريخية سياسية واقتصادية وثقافية غاية في التنوع ووضوح الرؤية وعمقها، وبالأخص قراءته للدولة القطرية، وقيام كيانات شديدة الغنى بالثروات النفطية، ودول غاية في التعاسة والفقر.

كما يدرس عميقًا مخاطر الاستبداد والتفكير وقمع الحريات ومخاطر الوجود الصهيوني في فلسطين؛ مدينًا بشدة اتفاقات كامب ديفيد.

هناك نقاش حول الموقف من الحضارة الغربية كتحية الفقيد والمفكر القاسم بن علي الوزير في نهاية الكتاب.

اقرأ أيضا:بين يدي كتاب حرث في حقول المعرفة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى