صنع في اليمن الحلقة (17) إلى معتقل قاهرة حجة
صنع في اليمن الحلقة (17) إلى معتقل قاهرة حجة
الأستاذ زيد بن علي الوزير
استرخت قبضة الإمام قليلاً فسمح بخروج “المعتقلين” للنزهة اليومية مع “المحافظين” وبشرط عدم الاختلاط بالناس، استجابة منه لبعض المراجعين، ولكنه لم يسمح بخروج ثلاثة من “بني الوزير”.
وفي 5 رجب1370/11 أبريل 1951م يقول “المعلمي” (ذهبنا “للدورة” إلى “السوائل” وكنا أربعة الأديب الشاعر “إبراهيم الحضراني” والسيد “أحمد بن مُحمد بن علي الوزير” والسيد “أحمد بن محمد بن عبد الله الوزير”، وأنا، وما كدنا نستقر حتى وصل فضيلة “النائب” بـ “حجة” فكانت هذه أول مرة، أفاجأ به في “الدورة” ولم أجد بداً من مقابلته، فقمت وسلمت عليه، وأما رفقائي، فإنهم كانوا قد قابلوه، فقابلني مقابلة حسنة، وسألني عن حالة السيد “عباس الوزير” فأفدته بمرضه، فأذن له بالخروج للدورة مع السيد “إبراهيم بن علي” فعرفت أنه لا يريد “إبراهيم بن علي” لأنه مأذون له بـ “الدورة” فقلت: إن المتأخرين عن “الدورة” الذين لم يؤذن لهم من “آل الوزير” ثلاثة وهم الذين وصلوا أخير للدراسة: السيد “عبد الصمد” والسيد “عباس بن علي” والسيد “عبد الرحمن بن عبد الله،” فقال لا بأس بخروجهم “للدورة” بشرط إبقاء الذين يخرجون، أي أنهم يخرجون بالمناوبة، وتقدم رفقائي فسلموا عليه وأخبرهم بهذا وألزم المحافظين الذين معنا فعدنا فرحين بهذه الإذن) . ثم يقول: (كان من “النائب” حفظه الله الأذن لـ “بني الوزير” بـ “الدورة” بدون مناوبة، وإنما اشترط ألا يخرجوا دفعة واحدة، وإنما يفترقون فرقتين كل فرقة تيمم جهة) .
وكان أخي “عباس” مريضاً يشتد مرضه يوما بعد يوم، فبعث أخي “إـبراهيم” في 4 رجب 1370/10 أبريل 1951م برقية إلى الإمام يطلب منه نقل أخي “عباس” إلى “مستشفى الحديدة” بعد أن عانى من المرض. ويقول الأستاذ “أحمد المعلمي”: (أشتد مرض السيد “عباس الوزير” وصار في حالة يرثى لها، ورفع أخوه السيد “إبراهيم” برقية يطلب نقله إلى “مستشفى الحديدة” أو “تعز” وهي برقية مؤثرة) ولم يأت بها على غير عادته.
عاد الجواب من الإمام بالأذن بسفر أخي “عباس” مادام أخي “إبراهيم” “رهينة” عنه، فغادرها يوم 17 رجب 1370/24 أبريل1951 ” إلى “مستشفى الحديدة” على إحدى “السيارات” التي حملت مليون ريال إلى “تعز” وكان الشيخ المرحوم “عبد الولي الذهب”- أحد أبطال المقاومة عن صنعاء أثناء “الثورة الدستورية”- قد أطلقه الإمام وطلبه إلى “تعز” فترافقا معاً.
وبقي أخي “عباس” في “مستشفى الحديدة” فترة لم أعرف، أطالت أم قصرت، ولكنه وصل إلى “صنعاء” في تاريخ لم أتبينه ولكنه في اليوم الذي عدنا فيه من “هجرة السر” وبينما كنا نهبط من “المطلع” وكانت “صنعاء” تشاهد على بعد، نادتنا سيدة من “الهجرة” كانت في زيارة لـ “والدتي” وكانت في طريقها إلى “الهجرة” تخبرنا بصوت عال أن أخي “عباس” قد وصل من “الحديدة” فكانت فرحة جعلتنا نسرع أكثر على “دراجتينا” ولما وصلنا سلمنا عليه وفرحنا به، وسعد بنا، وكانت الفرحة تتلألأ على وجه أمنا وأختينا “أمة الخالق” المريضة “أمة الخالق” -الذي سبق أن أفردت مأساتها بحديث مستقل- وأختي “حورية”.
نشط أخي “عباس” بسرية وحذر في التواصل مع “عصبة الحق والعدالة” وكان معه استأذنا “عبد الله البردوني” الذي كان يدرسنا الأدب” و “النحو”، لكن أخونا “العباس” رأى أن نذهب إلى “قاهرة حجة” لندرس عند أولئك النخبة فيها ” فكتب للسيف “الحسن” يطلب منه الأذن لذهابنا لزيارة أخينا المعتقل “إبراهيم” فأذن لنا بالزيارة وأضاف من عنده وللدراسة عند القاضي “عبد الرحمن الأرياني” ويبدو أن الأمر بـ “الدراسة” هو بقاؤنا في “قاهرة حجة” حتى لا نعود بسرعة، ولعل دافعه إلى ذلك هو ابتعادنا عن “صنعاء” حتى لا يتعاطف الناس معنا ونحن في حالة من البؤس والفقر، وكان في ذلك الخير لنا، فقد ذهبنا إلى “حجة وتعلمنا وأشتد إيماننا بـ النظام الدستوري” وبمقاومة الحكم على بصيرة ومعرفة. وترسخ أيماننا بأن علينا العمل بكل ما نملك من جهد لنعمل استعادة “النظام الدستوري” وتغيير الحكم الفردي المنغلق.
وهكذا كان، وعندما كنا في حالة التأهب للسفر قال لي أخي “عباس” أنك ستذهب إلى قوم هم نخبة اليمن علماً وأدباً، وقد يسألونك ماهي “الطبيعة” فماذا سترد؟ فاحترت في الجواب، فما كنت قد قرأت “الفلسفة” ولم أسمع بـ “الطبيعة” ولا بما “وراء الطبيعة” وكان جل معرفتي بها أنها هي هذا المناخ المنظور الذي نعيشه من شمس وقمر، ورياح ومطر، وزرع ذي ثمر، وهواء نتنفسه، وماء نشربه، ولم أكن قد سمعت عن “الطبيعة” وما “وراء الطبيعة” الخ فقال لي ستعرف الجواب هناك.
وهكذا ذهبنا الثلاثة إلى “المعتقل” بأنفسنا، ورغبة منا في الابتعاد عن شعور “الغربة” و “الاغتراب” بين الناس فغادرنا «صنعاء» إلى السجن في1 ربيع الأول1371/ 29 نوفمبر 1951 طوعاً لكنا بقينا فيه بعد ذلك غصباً.
ارتحلنا على ثلاثة “بهائم” استؤجرت لهذا الغرض، وشُدّت على ظهورها أدواتنا، بطريقة تجعل ركوبنا عليها سهلاً، وكان يرافقنا ويهتم بنا الصديق الوفي “علي الجرادي” وكان هذا الرجل البار قد سبق أن تحدثت عنه في فصل سابق أول رسول سري من أخي “إبراهيم” إلى زعماء “الثورة الدستوري” قبل استشهاد الإمام “عبد الله بن أحمد الوزير” و”زيد بن علي الموشكي” رضوان الله عليهما- والذي تتابع إرساله إليها ولخطورة مغامراته اسماه “المعتقلون” باسم “رسول القيصر” تشبها بقصة “جول فرن” الأديب الفرنسي المشهور ( 18 محرم 1323ه/ 24 مارس 1905م) فيما لاقاه في سفره من محن ومصائب.
وضمن موكب من المسافرين العائدين من “صنعاء” بما اشتروه منها، ليبيعوها في “الأسواق الأسبوعية الشعبية “سوق الخميس” أو “سوق الثلوث” أو “سوق الربوع” حيث يتجمع الناس من أماكن قريبة وبعيدة في هذه المنطقة أو تلك، بعد أن يحتفظوا بما يلزمهم منها.
توجهنا شمالاً مع هؤلاء تحت شمس حارقة وهم يتكلمون في مواضيع شتى في “المطر” و”القحط” وما يخصهم من شؤون وشجون، ونحن تستمع إليهم ولا نشاركهم، وكان البعض منهم يفترقون عن مداخل هذه القرية أو تلك وينضاف إلينا آخرون من تلك القرية أو تلك، ويقل العدد حيناً ويكثر حيناً، وتتولى أحاديثهم عن نفس المواضيع، وعن أخبار من جاء من “صنعاء” وماذا وجدوا فيها وما استصحبوا منها.
ومن الطبيعي أن تؤلف الطريق بين الناس، فيتحدثون إلى بعضهم بعضاً بأخبارهم، وبما يسمعون من أخبار، وكان نصيبنا أن انضممنا إلى ركب مسافرين بينهم جندي من “الجنات” قرب “عمران” كان خير رفيق.
وبينما كان الركب يخب في طريقه،-بعد خروجنا- بدأت ثرثرة المسافرين تتعالى، وسمعناهم يتحدثون عن هذه الصخور السوداء المنتشرة على الطريق، بأنها كانت بيضاء، ولكنها لما عصى أهلها الإمام “القاسم بن محمد” سلط الله عليهم النار، فأحرق هذه الأرض، وحولها إلى هذا السواد، عبرة لمن يعصي الإمام، فأدركنا أننا مع فئة شديدة الولاء لـ “آل القاسم” الذين منهم الإمام المنصور “محمد بن يحيى” والمتوكل “يحيى بن محمد” والناصر “أحمد بن يحيى حميد الدين” فسكتنا على مضض، بعد أن كنا ننوي أن نشرح لهم مظالم العهد، ولكنا فضلنا الصمت لا لعجز في النطق ولكن لصمم في آذانهم؟. مع أن حقيقة هذه الحجارة السوداء وتحول ألوانها كان نتيجة “بركان” تفجر ذات يوم موغل في التاريخ، ولكنها تحولت بفعل فاعل إلى “كرامة” “للإمام القاسم” الذي حظي بكرامات كثيرة وعديدة وخيالية لا يحتاج إليها.
واصلنا سيرنا حتى الظهر حيث حطينا الرحال في “ضروان” لتناول “الغداء” وانضم إلينا ذلك “الجندي” وكان يساعد العم “علي الجرادي في حط الرحال وشدها من جديد، وأصبح جزءاً خامسا منا. وتقع “ضروان” على مسافة 25 كيلو من صنعاء تحت “جبل ضين” التي أمر النبي- صلى الله عليه- “أهل صنعاء” أن يتوجهوا “للقبلة” نحوه لأنه على سمت “مكة”.
بعد تناولنا “غدائنا” وتناول بقية الركب غدائهم توجهنا نحو “عمران” فوصلناها بعد المغرب، فنزلنا في إحدى “المقاهي” وهي عبارة عن غرف تستأجر للنوم، ولا يقدم فيها أي طعام، وعلى النازل بها أن يشتري أكله من صاحبها الذي يشتريها له من “السوق” أما إذا كان مزودًا بـ “الكعك” أو “الخبز” أو “الملوج” أو “القفوع” فلا يحتاج إلى طعام إلا القهوة، وكنا مزودين بمثل هذه الأطعمة .
وفي الصباح ساعدنا ذلك الجندي الكريم في شد أحمالنا على “بهائمنا” ثم ودعناه شاكرين رفقته، وإذ توجه إلى أهله في “الجنات” واصلنا نحن طريقنا إلى “المعتقل” فتوجهنا غربا نحو “كحلان” وكان المسافرون إليها قلة فلم نترافق مع أحد، وبدأنا نصعد في الجبل إلى “المصانع” فأنخنا ساعة من الزمن فيها، تناولنا بعض “القهوة” ولم تشرب “الماء” لأن الاعتقاد آنذاك -وربما كان صوابا بحكم التجربة أن “القهوة” هي التي تطفئ الظماء، بينما لا يزيد “الماء” الظماء ولا يطفئه.
وتابعنا طريقنا صعداً نحو مدينة “كحلان” الرابضة على ذروته، ولم تكن المسافة بين عمران” و”كحلان” طويلة، ولذلك وصلناها بعد الظهر، وقضينا بقية يومنا وليلتنا فيها، وكانت لنا بمثابة استراحة بعد أن قطعنا بالأمس خمسين كيلو.
وفي اليوم الثالث هبطنا من أعلى الجبل إلى سفحه إلى “وادي شرس” حيث تناولنا القهوة في “مقهاية” تكاد تلامس مجرى نهر صغير يهبط من “جبال مسور” فيملأ بعض “الحفر” الصغيرة بالماء عند إذن يتكاثر فتعيش فيه “البعوض” و”الهوام” ويخشى الناس أن يناموا فيه حتى لا يصبهم مرض “السدم” .ولم نقعد فيه إلا وفق طائر حط عل نهر وشرب منه وطار، فصعدنا بعد أن قطعنا الوادي الضيق جبلاً مرتفعاً حتى بلغنا بعض قممه واخبرنا هناك، بأن “اليمنيين” أثناء قتالهم “العثمانيين” كانوا يدحرجون الحجارة الكبار التي يفجرونها بـ “الباروت” فتتحرج فتقتل كل من تلقاه من “الند العثماني” وكان الجبل شديد الانحدار، فاقشعر جسدي مما سمعت.
بعد أن تجاوزنا القمة دخلنا في طريق مستقيمة مشينا عليها، وإذا بنا نجد أبناء عمومتنا “إبراهيم بن محمد” و “عباس بن محمد” و “محمد ابن عبد الله” – رحمهم الله -وكانوا قد جاءوا لزيارة أهلهم، وللدراسة عندهم- في طريقهم لاستقبالنا فتعانقنا، ورحبوا بنا، وأبلغونا أننا سنذهب إلى “النائب” أولا، ثم إلى “قاهرة حجة” وذهبنا جميعاً إلى “بيت النائب” فوجدناه كهلاً متكئا على “مدكا” وأمامه طاولة عليها أقلام وأوراق، وحوله رجال كهول معممون، فسلمنا عليه وسلمناه التصدور” من السيف “الحسن” فرحب بنا، وأذن لنا بالطلوع إلى “قاهرة حجة” فصعدنا إليها.
دخلنا من بوابة كبيرة ذات بضعة درج وإذا بكل المعتقلين في انتظارنا، فتسالمنا وغمرونا بعواطفهم، وحسن استقبالهم، وكريم حنانهم، فكأننا فعلا دخلنا بين أهلنا وأحبابنا، وهمسوا في أذهاننا إذا كان لدينا رسائل سرية فنحذر أن يعرف بها “حسن العمري” -رئيس وزراء فيما بعد- لأنه ثرثار ويجالس “حرس السجن”. ولم يكن لدينا أي رسالة مكتوبة فحذر أخي “عباس” جعلنا لا نحمل شيئا إلا ما كان شفاهاً.
في طريقنا إلى أعلى دور في البناية حيث ستستقر توقفنا في الطابق الثالث لنسلم على الوالد “محمد بن أحمد الوزير”-شقيق إمام الدستور عبد الله بن أحمد الوزير فسلمنا عليه واحتضننا بحنان وكان رحمه رغم ما به من محن قويا صابرا ممتحنا إذ فقد أخاه الإمام وابنه عبد الله بن محمد” الشاب الشجاع وكان يسكن في المكان الذي تحت غرفتنا مع ولده “إبراهيم رحمهم الله جميعاً
صعدنا إلى الطابق الرابع إلى مكان طويل كان قد سبقنا إليه أخونا “إبراهيم” وابن عمنا “أحمد بن محمد الوزير” وكان بين المكان حجرة ضيقة اقتطع من شرقها مرحاض صغير، ومن شمالها غرفة صغيرة يحل بها “أحمد بن محمد الوزير” لابد أننا أوينا إلى النوم بعد أن أدينا صلاة المغرب والعشاء جمعا بعد سفر شاق؟
في اليوم التالي جاء إلى غرفتنا الأخ «أحمد بن محمد الشامي» معتمراً شبه عمامة بيضاءـ لم نكن نعرفه من قبل، فتعرفنا عليه الآن وقعد معنا يتحدث مع الأخوين «أحمد بن محمد الوزير» و«إبراهيم» عن دراستنا وتدريسنا، وعندما ودعنا كان مسئولية دراستنا قد ألقيت على عاتقه، فكان بحق الأستاذ الحاني، بينما تولى الأخ «أحمد بن محمد الوزير» الاهتمام بحياتنا اليومية من مأكل ومشرب. وكان أخي «إبراهيم» أبا حنونا، يرعانا بحب أخ أرغمته الأيام أن يصير أبا.
خرجنا من الغرفة لتستكشف هذه القلعة التي استقبلت معارضي الحكم من قبل، وثوار الدستور من بعدهم. وكان دليلنا الأخ “عبد الرحمن بن الإمام عبد الله بن أحمد”-رحمه الله- فهبطنا إلى الدور الثالث حيث كان يحل فيه القاضي “عبد الرحمن الارياني” والقاضي “محمد السياغي” والقاضي “محمد الأكوع” والقاضي “أحمد المعلمي”، فسلمنا عليهم، ثم هبطنا إلى خارج البناية، ومررنا بجانب غرفة الحرس، ومنه إلى “المفرج: الذي كان يحتله الوالد حسين الحوثي، ثم القاضي “عبد الله الشماحي” وهو يطل على بعض مدينة حجة، ومن باب مفتوح نفذنا منه إلى ساحة يقع في وسطها “الجامع” وخلفه “بركة مياه تتجمع فيها المياه من الأمطار، وخلفها ساحة يقع في أحد جوانبها نوبة عسكرية، وفي الجانب الأخر نوبة حراسة أخليت ليحل فيها القاضي “محمد الإرياني” المصاب ب”مرض السل” وفي هذه الساحة كان “المعتقلون” فيها يلعبون “رياضة كرة القدم،” و”القيود” بأرجلهم فلا تسمع وقع خطوات، بل صرير حديد. وعلى بعد خطوات من المسجد يقع مدفن كان للحبوب، لقد همل منذ زمن، وامتلأ بالتراب وبما يرمي في المساجين من بقايا حاجاتهم، ولم يبق منه إلا قامة رجل متوسط القامة.
فإذا ما نزلنا من الساحة عبر درجات قليلة يكون على يسارنا، مكان يدعى “حر البقرة” كان محلا “للبقر” و “الغنم” و”الكباش” لتُؤكل إذا ما وقع حصار، لكنه الآن أصح مكانا يحتله الأخوة “عبد الله السلال” ولده و”حسين العمري” ومحمد الغفاري” و”محمد الفسيل” و”محمد صبرة الأبي” وعبد السلام صبرة” و بجانب الباب الكبير وعلى بعد غير قليل من “البوابة” كان “الصفي محبوب” يسكن في مكان صعير وليت أدري من كان يسكن معه
أما المدخل الرئيس فيتكون من فناء واسع بعض الشيء حيث تقع غرف الحرس من اليمين وغرفة فاضية من الشمال تستخدم للزوار أن سمح لهم، ويمتد فوقهما مكان يحل فيه “أحمد بن محمد الشامي” و”حمود الجايفي” و “علي الغفري”
كانت تلك هي الصورة لقلعة القاهرة وما فيها من بقية مساجين الثورة الدستورية على أن ساكني الغرف كانوا يبدلون أمكنتهم بمجرد إطلاق فرد من أي عرفة أو أفراد فينتقل أو ينتقل أكثر من واحد إلى تلك الغرفة
*
وإذ انتهيت من وصف “القلعة” كما بقيت مطبوعة في ذهني، علي أن أتحدث عن ساكنيها كما عرفتهم. كان المعتقل يضم ثلاث فئات إنسان منفرد؛ وفئة العلماء، وفئة الشعراء والأدباء وفئة العسكريين.
فأما الإنسان المنفرد فالأستاذ “علي ناصر العنسي” خريج الأزهر والمتبني “للنظام لديمقراطي” و”الحكم المدني”
وأما فئة “العلماء” فعلى رأسهم القاضي “عبد الرحمن الإرياني” الذي تحلى بميزة سعة الصدر، وعدم الغصب فلا تراه إلا مبتسماً وهي مؤهلات جعلته المرجع في حالة اختلاف بين “المعتقلين” يرجعون إليه ويسرع عليهم، وكان منفتحاً على الثقافة الحديثة وعلى المذاهب الأخرى شأن “الزيدي” المتفتح من أتباع الإمام “المقبلي” والإمام “نشوان الحميري” ومن هذه الفئة كل من القاضي “محمد الأكوع” العالم النحوي والعلامة “محمد السياغي” وتوصف هذه الفئة بالانفتاح على تفاوت بينهم فيه. ويلحق بهم وإن لم يكن عالما إلا انه من نفس تفكيرهم السياسي القاضي” عبد السلام صبره” ذي الوجه المبتسم والصبر والجلد والوحيد الذي لم يراجع الإمام في أطلاق سراحه وكان يعتبر أنما ينزل بهم سعادة خالدة فسماه “المعتقلون”: “السعادة الخالدة”. وإلى جانب تلك الفئة كان ثم ثمة فئة أخرى كالوالد العلامة “محمد بن أحمد الوزير” والعلامة الحافظ “الصفي محبوب” والعلامة الأديب “عبد الواهب المطاع” يمثلون الخط المحافظ، فلا يرون في تدريس “الفلسفة” أو كتب “إسماعيل بن الأمير” وغيره نفعا، ويدعون إلى التمسك بـ “المذهب الهادوي؟
أما فئة الشعراء والمؤرخين والأدباء فإن “أحمد بن محمد الشامي” كان أبرزهم قامة، وأشعرهم وأنثرهم وأكثرهم اطلاعا ومسايرة لكل جديد، فهو إلى جانب كونه الشاعر والمؤرخ المنصف واسع الاطلاع على الثقافة الإسلامية والثقافة المعاصرة، ومن هذه الفئة كان الشعراء الأدباء الشاعر النابع “أحمد المروني” و والشاعر الجيد “احمد المعلمي” والشاعر الرقيق المهذب “محمد أحمد صبرة” والشاعر المشاغب “محمد الفسيل”.
وأما فئة “العسكريين” فعلى رأسهم يقف “عبد الله السلال”-أول رئيس جمهورية في “اليمن”- وكان أحد المقربين إلى الرئيس الشهيد “جمال جميل العراقي” وخريج “كلية بغداد العسكرية” وكان يتحلى بالصبر والمرح والنكت اللاذعة، بينما كان “حمود الجايفي”-رئيس وزراء فيما بعد- منطوياً على نفسه، مبتعدا عن أي تجمع مداوماً على الرياضة في غرفته، أنيقا في ملبسه، كثير الصمت، كثير الابتعاد عن اللقاءات مع “المعتقلين” الآخرين وكان “حسن العمري” -رئيس وزراء ونائب رئس الجمهورية فيما بعد- يكثر من معايشة “الحرس”، فيقيل معهم، ويختلط بهم. ولا يشارك في كثير من لقاء الآخرين أيضا، ويبدو أن بعض “المعتقلين” كان يشكك في مستواه “الثقافي” و “السياسي” ولا يطمأن إلى آرائه والدليل على ذلك أنه لما بعث الأستاذ “محمد أحمد نعمان” إلى بعض المعتقلين رسالة يسأل فيها عن: ماذا نريد في7 الحجة 1372ه /16 أغسطس 1953م في كتاب نشر فيما بعد سماه “من وراء الأسوار” حول مستقبل اليمن لم يكن بينهم صحيح أن هذه الرسالة لم تعرض على آخرين كـ “أحمد الشامي” و”إبراهيم الوزير” و”احمد بن محمد الوزير” ولكن لسبب آخر هو وجود عنصرية. وقد سبق أن شرحتها سابقا.
كان ذلك هو انطباعنا الأول عندما وصلنا إلى هذه القلعة وعن أولئك “الأساتذة” و”العلماء” الذين درسنا على أيديهم.
فماذا تعلمنا، وماذا درسنا ومن كان أساتذتنا…يتبع