سباق الأموات على حكم المقابر!

سباق الأموات على حكم المقابر!
- عبد العزيز البغدادي
الاثنين16يونيو2025_
يكاد يكون شعار واقع حالنا: (مت تكن في عداد الأبطال !.)!
هذه ليست نظرة تهكمية ضد من يستبسل في الدفاع عن وطنه حينما يتعرض لأي خطر أو عدوان وتتوفر شروط الدفاع المقدس، وليست دعوة تشبه دعوة الداعين إلى الموت بأي ثمن!.
إنها مفتاح للتأمل في حال امة ما تزال تقدِّسُ الأصنام وتعشق الحديث عن الموتى محاولةً قلب سيئاتهم حسنات عملا بمقولة أو حديث: (اذكروا محاسن موتاكم)!.
هذه المقولة تشهر في وجه كل من ينتقد حاكما أو زعيما رحل بعد أن ارتكب من الجرائم والأخطاء ما يعلم بها من يريد العلم من القاصي والداني وينبغي وفق المسؤولية القانوني والأخلاقية أن توضع للتشريح الجاد والمنصف كي لا تتكرر استباحة الوظيفة العامة والمال العام والحق العام والخاص !.
وإذا أقر ديمقراطيا إتباع مبدأ العفو في بعض القضايا والمحاسبة في بعضها فلابد لهذا التسامح أن يكون مبنيا على أسس وقواعد لا تفرط في حقوق الناس وحق المجنى عليهم بشكل خاص في العفو أو التمسك بمقتضيات العدالة !.
هناك من يبذل قصارى جهده في محاولة طمس الكثير من حقائق ما ارتكب من الجرائم والأخطاء والإصرار على التعامل مع المجرمين والخطائين كزعماء بعد أن عاثوا ولاثوا من خلال مواقعهم الرسمية طوال حياتهم السياسية ما أدى إلى النتيجة التي نحياها الموت في ظلها أكرم من الحياة لمن يعشق الكرامة!.
ونحن هنا نفترض أنهم كانوا حكاما بالفعل والمضمون وليس بالشكل وكلا الحالين لا يشرفهم!.
في سلوك الإنسان الشخصي للمقولة والحديث الآمر بذكر محاسن الموتى مكان من الإعراب وقد أكون ممن يرى أن الالتزام بها واجب فيما يتعلق بالسلوك الشخصي للمذنبين من الحكام فإن لم نجد لهم محاسن فمن المستحسن غض الطرف عن هذه العيوب الشخصية!.
أما في أدائه للوظيفة العامة فان التستر على الأخطاء والجرائم جريمة بحق المجتمع لان مردود عمل الموظف العام يعود على الناس جميعا، وليس من حق أحد أن يعفي عن مرتكبها أو يتصرف فيها بأي تصرف لا يراعى فيه الحقوق الخاصة ولا يبت فيه إلا طبقا للقانون!.
ويجب العمل على إصدار قانون عدالة انتقالية بعد تهيئة الظروف المناسبة لتحقيق شروطه الموضوعية للبلد الذي يريد إصداره وتطبيقه!.
إنني ممن يؤيد مبدأ العفو ومحاولة دراسة كيف يتم طي صفحة الماضي المؤلم، ولكن بما يضمن حقوق الضحايا الذين ذاقوا ويلات التجاوزات والانتهاكات والظلم والحروب إنما تتم من قبل السلطة أو من قبل من يستغل أي نوع من النفوذ في حالة الانفلات والسلطة مسؤولة عن كل ذلك !.
وطبيعة قانون العدالة الانتقالية تختلف عن بقية القوانين من حيث الأبعاد السياسية والقانونية والقضائية التي تتأسس عليه!..
ومن المعروف أن مصطلح العدالة الانتقالية مصطلح حديث نسبيا وله جذور تاريخية ممتدة امتداد الحروب والصراعات بين البشر منذ وجد الإنسان الأول !.
وتحديد البداية من الناحية العلمية لا يزال غير محسوم بصورة قطعية، وان وجدت بعض الاجتهادات العلمية فهي بصوره تقريبية لكنه ما يزال موضوعاً خلافياً!.
ونظرا لطبيعتها المزدوجة فان قانون العدالة الانتقالية يختلف من دولة إلى أخرى باختلاف النظم السياسية التي سادت في ظل التجاوزات والانتهاكات التي تعرض لها مواطن هذه الدولة أو تلك ومن حيث خلفيتها الثقافية والاجتماعية والبيئية وغيرها من العوامل المؤثرة في صياغة القوانين!.
ولا خلاف جوهري في أن هذا القانون لا يمكن أن تصدره القوى السياسية المسؤولة بشكل أو بآخر عن الانتهاكات التي تمت قبل الانتقال إلى النظام الجديد أو السلطة الجديدة ، لان صدوره من هذه القوى أو المنظومة سيكون تطبيقه مستحيلا أو شبه مستحيل كون هذه القوى ما تزال مهيمنة، وكل طرف سيسعى في ظل هذه الظروف إلى صياغة القانون بما يبعده عن المسؤولية والمساءلة!.
لا يصدر قانون العدالة الانتقالية وفقاً لتجارب الدول والبرلمانات المحترمة إلا بعد الانتقال إلى النظام الجديد وانتخاب مجلس نواب (برلمان) تتوفر في أعضائه القدر المطلوب من الحياد الذي يساعدهم على مناقشه وإصدار القانون بالشكل المناسب، كما ينبغي انتخاب رئيس جمهورية جديد أو مجلس رئاسي تتوفر في كل منهم الشروط التي تتحقق من خلالها سلطه قوية مؤهله لتمثيل مصالح المجتمع ، وقادرة على ربط علاقات إيجابية مع الدول الإقليمية والعالم!.
إن الأحداث والوقائع تؤكد اليوم وباستمرار بأن التفكير الجاد في بناء الدولة القوية العادلة لا يمكن أن يتحقق لبلدان المنطقة ما لم تمتلك شعوبها ونخبها القدرة على التفكير العلمي للبحث الجاد عن الطريق الأمثل لحل مشكلة الصراع على السلطة المستمر منذ أكثر من 1400 عام لتصبح دولاً قوية قادرة على تحقيق العدالة والتقدم والرفاة لأبنائها وحماية وجودها من أي اعتداء!.
ولقد أصبح واضحا أن من تشغله الرغبة في توارث الحكم ويتمسك بنظريات عفا عليها الزمن ولا تؤدي إلا إلى مزيد من الصراعات والكوارث لا يمكن أن يستوعب متطلبات العصر يكلما يحتويه من تعدد أو تناقض وتحديات والعيب ليس في الحال وإنما فيمن لا يستوعبه ويسعى لاستيعابه!.
والتاريخ مليء بالأمثلة والعبر من الفتنة الكبرى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم عصر ما يسمى بالخلفاء الراشدين،ومعلوم انه قتل من الخلفاء الراشدين ثلاثة(اغتيال سياسي)، ثم العصر الأموي الذي بدأ بتحويل نظام الحكم إلى نظام وراثي ثم العباسيين فالسلاجقة والعثمانيين والقائمة تطول حول الحكام الذين شغلتهم خرافة الخلاف حول من الأحق بالحكم وجميعهم حولوا نظام الحكم في الإسلام إلى نظام وراثي استبدادي متخلف!.
لقد تخلصت معظم الدول والقوميات من النظريات القديمة، واستوعبت الدروس والعبر وخلصت إلى أقصر النظريات المعاصرة لاستبدال الصراع الدموي على السلطة بالتنافس المدني من خلال الانتخابات الديمقراطية النزيهة والتداول السلمي للسلطة..
أما الذين ينظِّرون للعودة لحكم الفرد باعتباره بنظرهم نعمة فأنهم دعاة للعبودية وأعداء لأنفسهم وللفرد الذي ينظرون له وللمجتمع ونظريتهم هي جوهر النقمة!.
لا بقاء اليوم إلا للشعوب الحرة في اختيار حكامها ومساءلتهم وتغييرهم طبقا للدستور وسيادة القانون والسلام، وللدول التي يحكمها الحرص على العدل والعلم لا الجهل والخرافة !!.
(يئست من الإنصاف بيني وبينه * ومن ليَ بالإنصافِ والخصمُ يحكمُ).
