اخبار محليةحوارات

الجرموزي يكتب عن الجحملية التي ذهبت ..قائلا : ليتها تعود

الجرموزي يكتب عن الجحملية التي ذهبت ..قائلا : ليتها تعود

  • عبدالملك الجرموزي

 الثلاثاء28يناير2025_ حالما دشنت الحرب أحداثها الكارثية في اليمن ربيع العام 2015، وجدت “الجحملية” نفسها هدفًا لكل المتقاتلين، وسريعًا تم صلبها على مذبح المذهبية. حدث هذا في المنطقة التي شكلت منذ أكثر من نصف قرن نموذجًا للتعايش بين يمنيين جاؤوا إليها من كل اليمن، وأصبحوا جزءًا أصيلًا من مدينة تعز التي لم تقفل أبوابها في وجه أحد.

منتصف أبريل 2015، اندلعت الاشتباكات بين القوات الحكومية وجماعة أنصار الله  وحليفهم صالح، في أغلب مناطق ومديريات مدينة تعز (جنوب غربي اليمن)، ومن بينها الجحملية الواقعة على سفوح جبل صبر بمديرية صالة (شرقي المدينة). تعطلت الحياة العامة تمامًا، فيما استمرت المعارك على حدود حارات الجحملية بضعة أشهر، ثم لاحقًا، نهاية سبتمبر، استطاع المقاتلون الموالون للحكومة الشرعية، الوصول إلى عدد من أحيائها.

مبنى صحيفة الجمهورية بالجحملية- تعز

بعد نحو سنة ونصف، بسطت القوات الحكومية، سيطرتها على كامل “الجحملية”، عقب قتالٍ ضارٍ استخدم طرفاه كل أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة والمتوسطة، وتدخلت فيه طائرات تحالف العدوان الحربية، وبعدما انقشع غبار تلك المعارك، انكشف حجم الدمار الهائل الذي طال المنطقة.

حين غادرت الجحملية نهاية 2016، كانت رقعة الدمار قد اتسعت هناك، وكذلك الأوجاع، وتزايدت أعداد النازحين قسرًا، والقتلى. قادت رحلة النزوح الإجبارية المريرة عائلات كثيرة -عائلتي من بينها- إلى مناطق ومدن آمنة، فيما عجزت بعض الأسر عن المغادرة وقد دفعت ثمن بقائها فادحًا. أتذكر كم كنا مرعوبين من القصف المدفعي، وقد رأينا كثيرين لم تخطئهم آلة الحرب المسعورة وصادرت أرواحهم بقسوة، ولم تفرق بين كونهم مقاتلين أو نسوة وأطفال.

كنا خائفين من أن نصبح وجيراننا وأصدقاءنا أرقامًا لحرب مؤذية كغيرنا ممن لا تزال صورهم معلقة على جدران بعض البيوت، وداخل قلوب أمهاتهم المحروقة. أصبحت الأحياء التي كانت ممتلئة بالحياة خاوية لا شيء فيها غير صوت ريح مخيفة، وصدى قصف هستيري. دمرت الحرب الكثير من المباني الحكومية في المنطقة، ولا تزال مبانٍ عديدة منتصبة في مواقعها، لكنها عارية بعد أن تم تشليحها تمامًا، فيما سويت الكثير من المنازل بالأرض.

أصبحت أكثر المناطق اليمنية تميزًا بالتنوع والتعايش السلمي، الأكثر تضررًا من الحرب التي ضربت نسيجها الاجتماعي، وشردت عائلاتها، وجعلت بعض أبنائها ينصبون المتارس لبعضهم ويوجهون بندقياتهم لصدور إخوة وأصدقاء وجيران وأحبة.

ومن المفارقات التي لا تحدث إلا في اليمن، تحولت “الجحملية” بعد ثلاث سنوات من نزوح أهلها وسكانها الأصليين، إلى ملجأ لعائلات وأسر كثيرة هربت من الحرب التي امتدت إلى قراها الواقعة أسفل جبل صبر من الجهة الشرقية، ووجدت فيها ملاذًا آمنًا.

ذكريات وحنين

يحرص عددٌ من نازحي الجحملية منذ نحو تسع سنوات، على الحضور صباح كل يوم إلى ميدان التحرير في العاصمة صنعاء، حرصًا منهم على الالتقاء بـ”جيران الزمن الجميل”. هناك يقضون بضع ساعات أشبه بالدوام الرسمي في الحديث عن حياتهم السابقة، ويبدو بعضهم يائسًا من العودة، بينما آخرون لا يزالون متمسكين بحلم العودة. ليس ميدان التحرير وحده من يحتضن ذكرياتهم، فمجموعات في الواتساب والفيسبوك، تفعل ذلك أيضًا.

مباني متضررة في الجحملية – تعز

وفي مدينتي صنعاء وإب -أكبر تجمع لنازحي الجحملية- لا يمكن تفويت فرصة التجمع في أي مناسبة اجتماعية تخص أحدهم، أو أماكن صرف المساعدات الإغاثية للنازحين، وعند اللقاء يحتضنون بعضهم بشوق ولهفة وحب، وفي عيونهم حنين لأيام جميلة مضت، ليتها تعود.

نهاية العام 2021، بدأت الجحملية بالتعافي، وعديد من العائلات رجعت إلى منازلها هناك، وفتحت محلاتٌ تجارية شهيرة أبوابَها من جديد، فيما تتهيأ الكثير من العائلات للرجوع، وقد حفزها فتح طريق “جولة القصر” في 13 يونيو من العام الفائت بعد 9 سنوات من إغلاقها.

تعايش مدهش

الجحملية، من أقدم وأشهر أحياء مدينة تعز، كانت مقرًّا لأعيان وعمال الدولة العثمانية في القرن الـ19 الميلادي، وهم الذين أطلقوا عليها هذه التسمية “جاه مالية” أي الإدارة المالية، حسب روايات غير معروفة المصدر، ثم صارت مقرًّا لكبار رجالات الدولة ووزرائها والقادة العسكريين في زمن حكم الإمام يحيى ونجله أحمد حميد الدين بين 1918 و1962.

في القرن الـ 18 الهجري، قرر الملك المجاهد علي بن المؤيد داؤود ابن المظفر الرسولي عمارة الجحملية، فأحاطها بسور لم يعد له أثر بفعل التوسع العمراني والتمدد الهائل الذي شهدته المنطقة خلال أزيد من قرنين.

قبل سنوات الحرب، احتضنت كل من قدموا إليها من بلاد الأتراك البعيدة، والذين غادروا في ليل كالح قراهم أقصى شمال البلاد، وهبطوا إليها ليواجهوا إشراقة الصبح الحانية فيها، ومن لجؤوا إليها هربًا من الموت في الجنوب.

وفي حين كانت مناطق يمنية عديدة، ترفض التنوع الاجتماعي خوفًا على خصوصيتها المذهبية أو المناطقية وعاداتها القبلية، اجتمع في هذا الحي الكبير، الشماليون والجنوبيون، الشوافع والزيود. كان المشهد الاجتماعي ذا خصوصية متفردة، واليمن التي توحدت (في 22 مايو 1990)، كانت قد توحدت في الجحملية التي علّمت ساكنيها أن الحياة لا تستقيم إلا بالتعايش.

شهدت المنطقة في سبعينيات القرن الفائت حركة تجارية رائجة ومنتعشة، وتتوفر فيها كل الخدمات ومتطلبات الناس الشرائية، وتستقر وسطها مبانٍ حكومية بارزة؛ كالبنك المركزي، المستشفى العسكري، المستشفى اليمني السويدي للطفولة والأمومة (النقطة الرابعة)، ملعب “ميدان الشهداء”، نادٍ للضباط، سينما ومركز ثقافي، ومؤسسة إعلامية (الجمهورية) وإذاعة، ومدارس لمختلف المراحل الدراسية.

لم تستمر الجحملية على حالها الاقتصادي، ورغم أن البؤس كان قد ضربها، فإنها حافظت على تنوعها الاجتماعي، وراحت تُهدي اليمن قامات في مختلف المجالات، وحياة جميلة على بساطتها.

عن خيوط

اقرأ أيضا:تعرف على الحصن الذي بنته الجن بحراز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى