الدكتور محمد عبدالملك ورفضه الرد على اتصال رئيس الجمهورية
الدكتور محمد عبد الملك المتوكل ..وذكريات تلميذ
بالنسبة لي، كان الدكتور محمد عبدالملك المتوكل هو المعلم الذي ساهم بسخاء وحب في تكوين جوانب عديدة من قناعاتي السياسية والمدنية.
في السنة الثانية في كلية التجارة والاقتصاد تخصص علوم سياسية، كان أول لقاء بيننا.
سمعت كل أنواع الكلام من زملائي وأصدقائي عن الدكتور محمد عبدالملك، لكن الرؤية غير السماع. حدث موقف أمامي مع الدكتور في إحدى محاضراته ترك في نفسي إرباكًا واحتراماً في نفس الوقت.
طرق سكرتير العميد الباب وخاطب الدكتور محمد قائلاً إن لديه اتصال من الرئاسة. رد الدكتور محمد بهدوء كامل: ” قول لهم لما أكمل المحاضرة سأتصل بهم”، ثم واصل محاضرته.
عاد السكرتير المسكين وقال له: “رئيس الجمهورية على الخط الآن ويريد يكلمك ضروري”. غضب الدكتور وقال: “قلت لك تقول لهم إني الآن مشغول وسأتصل به حالما أنتهى من المحاضرة”، ثم وجه كلامه لنا بملامح المتعجب قائلاً: ” مش ظاهر لي ما هو هذا الأمر الذي ما يصبرش”.
ما الذي يجعل هذا الرجل النحيل بسيط الثياب حاد الذكاء، مختلفاً عن كل من حوله من أساتذة الجامعة؟ كيف يرفض دكتور جامعة أن يرد على اتصال رئيس الجمهورية بهذا الحزم وبمبرر لن يستخدمه غيره؟! ما مصدر قوه هذا الرجل؟
هذا السؤال أخذ مني عقد من الزمان حتى اقتربت من الإجابة عنه.
في جامعة صنعاء، تتلمذت على يد الكثيرين من الأساتذة الفضلاء – مصريين ويمنيين– معظمهم اختفوا من ذاكرتي الفكرية إلا صاحب المقام هنا. هو الوحيد الذي لديه الحضور الكبير في عقلي بأفكاره، وفي ضميري بمبادئه. حضور أحتفي به دائماً.
استمرت صداقتنا إلى أن استشهد. كان كثير المشاركة في منتداي الأسبوعي حيث كان الأكثر استماعاً، الأقل كلاماً والأكثر تأثيراً.
خلال معرفتي به لا أتذكر إلا وأنا في حالة معارضة دائمة له، وكان في حالة قبول دائم لتلك المعارضة.
تتعدد مصادر قوة الدكتور محمد، لكن أهم تلك المصادر هي المصداقية والقضية.
هو سياسي مخضرم وداعية مدني وحقوقي، ونصير كبير للعمل السياسي الديمقراطي، وما انفك حاملاً أميناً وشجاعاً لكل قضاياه. في البعد السياسي من شخصيته، أدار الدكتور معادلة بقائه السياسي بمهنية كبيرة وبميزان ذهب دقيق دون أن تتشابك عليه مواقفه السياسية مع موقفه الوطني، واستطاع في كل المراحل أن يجنب مبادئه أي اهتزازات.
كان من بين القلائل الذين واجهوا التغول الديني في الحياة السياسية في زمن تحالفت فيه السلطة الحاكمة مع الدين السياسي. اتُّهم باتهامات كثيرة من ضمنها “السلالية” و”العنصرية”. ومن باب قول الحق، لم أسمع أو أقرأ ولم أشهد شيئاً من هذا. فيستحيل على داعية حريات مدنية وسياسية في مقام الدكتور محمد عبدالملك أن تنال منه هذه الأمراض الخبيثة.
عندما نويت العزم على القيام برحلة الدراسات العليا في أمريكا، ذهبت إليه للوداع. قال لي: “مبروك، الحق نفسك”. وبمبادرة ذاتية، اتصل بي بعدها بيومين وقال: تعال يا جلال، خذ رسالة التوصية التي كتبتها لك. كانت رسالة مكتوبة بحب الأستاذ لتلميذه وبلغة انجليزية جيدة ومعمدة من الكلية.
ظل الدكتور محمد على ارتباط سياسي وفكري دائم مع تلاميذه بمختلف أعمارهم حتى وفاته، وكان معظمنا أنداداً له في مواقفه السياسية، واستمرينا في معارضته واستمر في حبنا.
من أهم القضايا التي دافع عنها بشغف كبير، هي تمكين وحرية المرأة. وتتجلى في هذه القضية تحديداً، درجة المصداقية العالية والشغف الكبير في شخصية الدكتور في إيمانه بقدرات المرأة. وما نجاح وتميز جميع بناته الكريمات إلا دليل دامغ على صوابية القضية وعلى صدقية الرجل.
أخشى ما أخشاه أن يحاول البعض من الذين ارتبطوا معه بعلاقة عاطفة أن يعملوا على أسطرته (خلق أسطورة منه) مستفيدين من الأثر العاطفي الذي سببه طريقة استشهاده، كما يتم مع الشهيد إبراهيم الحمدي.
وهنا أنبه بناته الكريمات وابنه العزيز من الوقوع في هذا المحذور. قيمة الدكتور محمد تكمن في أفكاره وقضاياه وسيرة حياته المنسجمة مع مبادئه، ومكانته تسكن في حقيقته وليس في المصبوغ من الوهم حوله.
قبل استشهاده بأيام، ذهبت إلى منزله بسيارتي لكي أحضره إلى بيتي للمقيل، وخلال الطريق قلت له: “دكتور أنت تهمل أمنك بشكل غير منطقي وتعلم أنك صيد كبير لأكثر من مغامر قاتل وخصم سياسي فاجر”، ورجوته أن يقلل من خروجه من البيت. قال لي: ” يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة”.
انتهى الحوار وانتقلنا لموضوع آخر.
كان اغتياله آخر مقالاته؛ آخر محاضراته، وأقوى قصائده.
أقرأ أيضا:زيد الوزير: مازال صوت محمد عبدالملك المتوكل ينادي من وراء الأفق
أقرأ أيضا:صوت الشورى يحيى الذكرى الثامنة لاستشهاد الدولة المدنية
*جلال محمد الحلالي
نشر المقال على موقع خيوط.
“صوت الشورى يحيى الذكرى الثامنة لاستشهاد الدكتور المتوكل”