تجليات .. من مراتب الكمال في صيام رمضان


تجليات .. من مراتب الكمال في صيام رمضان
عارف الدوش
الخميس13مارس 2025 _
تتوالى أيام شهر رمضان في انقضائها وتهرع ساعات نهارها وليلها .. لكنها تبقى متفردة في أثرها عظيمة في أسرارها ومشرقة بأنوارها على القلوب والأرواح والعقول فهي موسم لا يُشبه غيره تتجلى فيه معاني الروح وألقها وتُختبر فيه النفوس بين لذة الصبر وحلاوة الإيمان والإحسان .. كما تُختبر قدرات الإنسان على كبح جماح الشهوات خصوصاً شهوتي البطن والفرج والسيطرة على الأهواء وتحقيق معاني وجوهر التقوى والورع من خلال صوم الجوارح جميعها .
ومن مراتب الكمال في صيام شهر رمضان أن الصيام ليس مجرد الامتناع عن تلبية شهوتي البطن والفرج في نهار أيام شهر رمضان .. بل هو فرصة ذهبية لإعادة بناء علاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى والعمل على زيادة الإيمان والإحسان لتحقيق جوهر التقوى والورع وتدريب النفس على الصبر والإتباع والإقتداء بالنبي صل الله عليه وسلم في كل جوانب العبادة من خلال الإخلاص الذي هو أساس كل عبادة وهو الذي يرفع العمل عند الله أو يسقطه لذلك ينبغي أن يحرص الصائم على أن يكون قلبه خالصاً لله ولا يبتغي بصيامه مدح الناس ولا يُراد بصيامه سوى القرب من الله تعالى ورضاه وامتثالاً لأمره لعباده بالصيام …
والصيام ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة عظيمة لتحقيق التقوى كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
( سورة البقرة : 183) ..
والتقوى لا تتحقق بمجرد الامتناع عن الطعام والشراب بل تمتد إلى ضبط الجوارح وحفظ اللسان وغض البصر والبعد عن كل ما يضعف أثر الصيام .. لأن الصيام الحقيقي هو الذي يترك أثراً في قلب الصائم فيجعله أكثر تقوى وورعاً وأشد خشية لله مسارعاً في الخيرات ذاكراً الله كثيراً وأبعد عن المعاصي والذنوب …
وقد عرف شهر رمضان انه شهر الصبر والصبر من أعظم الفضائل التي وعد الله عليها بالأجر العظيم يقول تعالى: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)
( سورة الزمر: 10) . ويظهر الصبر في رمضان في ثلاث صور رئيسية وهي :
الصبر على الطاعة: بتحمل الجوع والعطش وأداء العبادات بإخلاص .
والصبر عن المعصية: بكبح الشهوات وضبط النفس عن المحرمات.
والصبر على الأقدار: بقبول المشقة التي تصاحب الصيام برضا وقناعة وتسليم ولذة .. فمن صبر في رمضان سهُل عليه الصبر في غيره وأصبح أكثر ثباتاً على الطاعات ..
وفي رمضان يجدد القلب الإيمان وتتهذب فيه الجوارح فتصفو الروح وتعلو النفس إلى معارج الطاعة . ورمضان هو دورة روحية متكاملة تمنح الإنسان فرصة للعودة إلى فطرته النقية وتغرس فيه معاني التقوى والعبودية الخالصة فمن أدرك حقيقته وأغتنمه بحق ظفر فيه بروح متجددة وقلب مضيء بنور الإيمان والإحسان وبعزيمة تمضي به في طريق الطاعة بعده ولتحقيق هذا الأثر لا بد للصائم من حفظ جوارحه عن الآثام وتسخيرها في الطاعات وهو ما يتحقق من خلال إصلاح القلب الذي هو منبع الصلاح ومركز التأثير والمحرك الأساسي لسلوك الإنسان وهو مستودع الإيمان والإحسان ومحل نظر الله فإن صلح صلحت سائر الجوارح وإن فسد فسد العمل كله.
وفي رمضان يخوض القلب تجربة فريدة حيث تصفو الروح بالصيام وتلين النفس بذكر الله فتزداد قابليته للتأثر والتغيير، ففي رمضان يتاح للقلب فرصة للتطهر من أدران الغفلة ،إذ يعيش الإنسان في أجواء الإيمان والإحسان والروحانية التي تسهم في إصلاحه ولذا فإن الصيام لا يكون تاماً إلا إذا صاحبته نية صادقة ،وإقبال خالص على الله فيتحقق بذلك أثره في تزكية النفس وإصلاح القلب وتطهيره من أدران الغفلات فيربح العبد ويتحقق فيه قوله تعالى: ( إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلب سليم ) ( الشعراء: 89 )
ولا تتحقق تزكية النفس وإصلاح القلب وتطهيره إلا من خلال السمع والبصر واللسان باعتبارهم أبواب القلب التي تحتاج إلى صيام فإذا كان القلب هو مركز التأثير فإن السمع والبصر واللسان هي منافذه وما يدخل إليه منها يحدد حاله وصفاءه .. وضبط السمع والبصر واللسان جوهري وأساسي حتى لا يكون الامتناع عن المفطرات مجرد عادة فارغة من روحها ودل على ذلك قوله تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ( سورة الإسراء: 36).
فيُحفظ السمع والبصر واللسان عن كل ما يضر القلب فمن سمع الخير كان قلبه أكثر قرباً من الله ومن أطلق أذنه لكل ما يفسد الطبع فقد أفسد قلبه بيده .. وكذلك تدرب العين على الترفع عن النظر إلى الحرام والاشتغال بما يُزكي القلب.. والبصر إن لم يُضبط كان وسيلة لإفساد الصيام وإشغال القلب بالشهوات.. أما عن ضبط اللسان فالصائم الحقيقي هو من يمسك لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة ويستخدمه في الخير والذكر والتسبيح والتهليل والحمد والصلاة على النبي المختار …
ويعد رمضان فرصة عظيمة لإحياء القلب بذكر الله فالتسبيح والتحميد والتهليل والصلاة على النبي المختار تضاعف الأجر وهي وقاية للقلب من الغفلة.. والذكر في رمضان يأخذ بعداً أعمق حيث تكون الروح أكثر استعداداً للتأثر والنفس أقرب إلى الإخلاص والقلب مهيأ لاستقبال التجليات والأنوار ..فكل تسبيحة وتهليلة وحمد وشكر لله وكل استغفار وكل تكبيرة وكل صلاة على النبي المختار هي رصيد للقلب ووسيلة لتنقيته من شوائب المعاصي التي هي صغار الذنوب وكبارها وتحقيق التقوى التي هي ليست فقط تجنب الحرام ، بل هي ارتقاء بالنفس إلى مقام المراقبة لله فيصبح الامتناع عن الذنوب سلوكاً راسخاً في حياة المسلم .
وفي رمضان هناك فرصة حقيقية للإنسان للانتصار على خصومه وأعدائه الحقيقيين الذين يتربصون به ليل نهار وفي الأنفاس فإنْ أحسن قتالهم حقق في رمضان النصر المبين وخرج بقلب طاهر سليم ونفس زكية وإرادة صلبة تُعينه على مواصلة دروب الطاعات حتى بعد انقضاء الشهر الكريم وأعداء الإنسان في رمضان ثلاثة هم :
الشيطان : الذي لا يفتأ يوسوس للإنسان ويغويه لكنه في رمضان يُغلّ قيده وتُصفَّد مردته فيضعف كيده وتخبو وساوسه فهذه فرصة الإنسان الذهبية ليحرر قلبه من أسر الغواية ويثبت قدميه على دروب الطاعات.
النفس الأمّارة بالسوء : وهي العدو القابع داخل الإنسان ويكون أشد خطراً من الشيطان ذاته، فلا عجب أن النبي صل الله عليه وسلم استعاذ منها قبل استعاذته من الشيطان قائلاً : ( اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه) ) جامع الترمذي: 3529) وإن كان الشيطان مغلولاً في رمضان فإن هذه النفس تبقى حرة تحتاج إلى ترويض وتأديب ولا دواء لها أعظم من الصيام الذي يطفئ نيران شهواتها ويهذب رغباتها.
الهوى : وهو العدو الخفي الذي يستهوي القلوب ويقودها حيث تشتهي ما لم يكن للعقل سلطان عليها. فهوى النفس إن تُرِك بلا كبح كان أعظم أسباب الانحراف وإن قُيِّد بزمام العقل والتقوى والورع أصبح مطية إلى الخير.
وختاماً : رمضان هو ميدان سباق للمتنافسين وساحة جهاد للنفس وترويضها وفرصة ذهبية لإصلاح القلوب ولزيادة الإيمان والإحسان وتحقيق التقوى فمن غلب أهواءه في هذا الشهر غلبها فيما بعده ومن ملك زمام شهواته سهل عليه قيادة حياته إلى معارج الكمال .. فمن حقق في رمضان الفوز العظيم كان رمضان له نقطة تحول في حياته …
اقرأ أيضا للكاتب:في رحاب الصوم ( ١ – ٣ )
الصورة للجامع الكبير بصنعاء خاصة بصوت الشورى
