ثقافة وسياحةكتابات فكرية

صرخة الضاد

صرخة الضاد

عصام الخولاني

الثلاثاء 16 ديسمبر 2025-

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهمّ إنّا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلّف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن، ونعوذ بك من السّلاطة والهَذَرِ، كما نعوذ بك من العِيِّ والحَصَرِ،

أَعِذني رَبِّ مِن حَصَرٍ وَعيٍ

وَمِن نَفسٍ أُعالِجُها عِلاجا

وَمِن حاجاتِ نَفسي فَاِعصِمَنّي

فَإِنَّ لِمُضمَراتِ النَفسِ حاجا،

* أما بعد، فإن العربية عالمية بذاتها وحقيقة بذلك بنفسها، وليست بحاجة لاعتراف جمعيةٍ لولاياتٍ تجعل منها عالمية، وإن العربية عندي عالمية كل يوم أحتفل بها كل حين وأشنف أذني بسماعها وأُلذ عيني بقراءتها وأديم حفظها وتردادها، وأرى كل شيء بها بل أراها بكل شيء، وإن كان لا بد من يوم نحتفل فيه بعالميتها فأرى أن يكون اليوم الذي أنزل فيه القرآن الكريم إلى السماء الدنيا جملةً قبل نزوله منجّما في الأول بعد العشرين من رمضان الكريم، إذ صارت فيه العربية عالمية بعالمية الدعوة الإسلامية، وصارت لغة العرب لازمةً لزوم الدين لكل مسلم في كل زمان ومكان

* أقول إني لما نظرت في عنوان الدعوة لهذا النادي الكريم، عند قوله: نستحضر فيه بهاء الضاد ونبحر في عوالم البيان وسحر اللسان، قلت في نفسي لو أنه قيل بدلا من ذلك: نستحضر فيه هموم العربية، ونعمل الجهد في مباشرة قضاياها بالمعالجة وإيجاد الحلول لها!

نعم لو يكون موقفا مع النفس، موقفا لم يعد منه بد، ولا لتأجيله متسع!

أعلم أن الوضع الراهن صعب، وأن الهموم كثيرة مقلقة، يحاول المرء تناسيها، وتجاهل الهاتف المزعج الذي لا يزال يتردد منها، ولكن ذلك إلى حد معين، ثم ينقلب التجاهل مصيبة بذاتها، ويساعد في توسع المشكلة!

لو أن عضوا منك اعتلّ، فلا ينفكُّ يؤلمك أو ورمًا لا يبرح يضرك ويؤذيك فأيٌ أفضل، التغاضي عنه، أم مباشرته بالاستئصال؟

تُرى هل لنا من الجرأة ما نحدق به بأمهات عيوننا في الحقائق ولو كانت قاسية!

ولا يقولن لي قائل: دع عنك هذا التشاؤم والتلهي بجلد الذات!

* إن اللغات تموت وتنقرض، وإن علماء اللسانيات ينصون بصيحة فزع أنه تموت في العام الواحد خمس وعشرون لغة!

ثم يضيفون باستشراف علمي ورصد وتتبع للظواهر:

أنه إن استمر الوضع الحالي للعربية، ولم تحصل ثورة جذرية عميقة للعربية وعلى كل المستويات وأهمها القرار والإدارة السياسية القطرية والقومية فستلتحق العربية باللغات الميتة بعد ثلاثة أجيال على أكثر تقدير، فلا تعود صالحة إلا للمراسم الدينية والأعياد وما إلى ذلك، وستتشظى إلى لغات عامية تستبد كل بنفسها، كما حصل للاتينية!

إن العربية تتلقى أشرس هجمة عرفتها أي لغة، لو كانت لغة غيرها لما قاومت حتى الآن

أفمنا من لا يعرف التحديات التي تواجه العربية، وهل فينا من لا يرى ببصيرة اليقين كيف يتهافت صرحها، ويتداعى يوما بعد يوم؟

أفترُانا نلتقي لنكرر المشي معا على ممرات معبدة تتصادى أصواتنا نبارك بعضُنا بعضا ونغرُّر بعضُنا بعضا متخففين من جراح التاريخ وأعباء الألم؟

* إن العربية تواجه هيمنة للأعجمية في شتى مجالاتها وبخاصة العلمية والفكرية

* وتواجه اكتساحا عارما للهجات العامية خاصة في وسائل التواصل والإعلام والفضائيات بل حتى على المستوى الديني عند الخطباء وأئمة المساجد، كأن لم يكفهم الضعف في الفصحى حتى يستسيغوا العامية لغة لهم!

* إن العربية تواجه معضلات عويصة في طرق تقديمِها ومناهج تعليمِها منذ أن يولد الطفل مرورا بكل المراحل التعليمية!

فيفترض ويجدر بالآباء والأمهات تعاهد أبنائهم بتحفيظهم القرآن الكريم، وتعويدهم سماع الشعر وحفظه ومخاطبتهم بالعربية ولو الشيء القليل فإن الطفل يتعلم بالمحاكاة والتقليد لا سيما اللغة التي هي علم شفهي تطبيقي يُتعلم بالمحاكاة والتقليد أكثر منه بالتنظير والتقعيد ولا سيما في أهم مرحلة مهيإٍ فيها الطفلُ للنمو اللغوي والمعرفي، وما تجربة د. عبد الله الدنان منكم ببعيد، حيث التزم العربية في حديثه مع ولده باسل منذ ولد، فما بلغ الثلاث سنوات إلا وهو يتكلم الفصحى سليقةً!

* كذلك لا بد من رجع النظر في المنهج التعليمي فيجدر تكثير حصص العربية وجعل جل هذه الحصص في التطبيق من القراءة إلى السماع إلى الحديث، وأهم من ذلك أن يلتزم المعلمون أنفسهم الشرح بالعربية حتى في غير حصص اللغة.

* وأما الجامعة فتواجهنا معضلات أكبر كالتعريب، هذا وليست المشكلة في التعريب نفسه بل في الإدارة التي تمنعه وتجهض كل محاولة للتعريب بتوجيه دولي أو عجز عربي أو حتى رفض من المشتغلين بالطب نفسه أو غيره من العلوم وقد شاهدت ذلك بنفسي منذ انتظمت في سلك الطب، وكثير من أساتذته مصابون بعقدة الخواجة لا ينفكون يتغزلون بالعلوج ويتفننون في الثناء على الأعجمية، بل يتعرضون للعربية بما يسيئها، ويزعمون بُعدَها الشديد عن العلم والثقافة عجزَها عن مواكبةِ العصر في شتى المجالات، بل زعم بعضهم أن الطب خواجة أي أعجميّ المنشأ ولا يد للعرب فيه لا في الماضي البعيد ولا في الحاضر العتيد!

ثم يلتقف منهم الطلاب ذلك فيزيدون كرها للعربية ولا يألون جهدا في غمصها والنقص منها!

* وقد نعلم جميعا أن اللغة وعاء الثقافة وعماد الهوية والانتماء، وقد نعلم جيدا أنه لا كبير تفاضل بين اللغات في التعليم بها، وإلا فكيف نهضت اليابان والصين وكوريا، وهي لغاتها صعبة ومحدودة ومنطوية على نفسها!

* وأما بالنسبة للمشتغلين بالعربية المختصين بها، من أدكاديميين وغيرهم، فسنجد معضلات كبيرة لديهم وضعفا باديًا عند كثير منهم في شتى جوانبها لا أرى الوقت يسعف ببسطها وتفصيلها، ولكن أقول إنه لا بد من إعادة النظر في تأهيل المشتغلين بالعربية، فلو أنك اخترت واحدا منهم خبط عشواء فسألته شرحا مرتجلا لقطعة من قصيدة جاهلية أو حتى إسلامية، أو لو سألته أن يشنف أذنك بإلقاء قصيدة واحدة بتمامها من حفظه، فأزعم أنه لن يقدر إلى شيء من ذلك سبيلا بل أزعم أنه ربما لا يكاد يقيم جملتين أو ثلاثا ارتجالا دون لحن ولا لجوء للعامية، وهذا قد تعلمون خطير!

* وأضرب مثالا من الواقع لامرئ منسوب إلى العربية متخصص في اللسانيات له أكثر من شهادة دكتوراه، غير أن إذا أتى يتحدث قال: “القواعد النَحَوية”! ،بفتح الحاء، بل يزيد الأمر سوءا أنه في مجادلته عن مفاضلة العربية لغيرها يقول إننا نزعم فضل العربية تحت تأثير عاطفي لا بإثبات علمي مجرد، ثم يردف زعمه بسؤاله عن معنى “reachable” في متناول اليد، فيقول: ثلاث كلمات في إزاء كلمة واحدة!

هذا وإن العبارة “في متناول اليد” هي المعنى المجرد الذي يتشكل في بعض التراكيب في لفظة واحدة فيقع مرة “مُتاح” ومرة “يسير” ومرة “متيسر” ومرة “متداول” ومرة “مبذول” ومرة “سهل، ولكن شيئا يسيرا مثل هذا قد غاب عنه!

* ولقد تتألب على العربية عوائق سياسية كثيرة مرد أكثر المشكلات إليها، منها:

١-فشل الإرادات العربية

٢- تنفذ الإرادات الدولية

٣- وتواطؤ بعض النخب السياسية والفكرية والاقتصيادية!

* كأني بالعربية كلمى جريحةً، تنادي وتستصرخ من بقي من أبنائها ممن لا يزال له قلب ينبض بحبها فيلقي السمع لندائها ويغذ في السير في إصراخها، كأني بها تقول له:

أي بني!

إنه قد بلغ السيلُ الزبى، وجاوز الحزامُ الطُبيينِ، ﻭﺗﺠﺎﻭﺯ ﺍﻷﻣﺮ ﺑﻲ قدرَه وطمع فيّ من لا يدفع عن نفسِه!

وإنَّك لم يفخر عليكَ كفاخرٍ

ضعيفٍ، ولم يغلبكَ مثلُ مُغلَّبِ!

ولم يبق إلا نهوضك في أمري وقيامك بحق بري، أو تذهبَ ما تبقت من حشاشة ادخرتها لك، وعالجت الصعب والسهل لأحفظها لك، ﻭقد ﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﻘﻮﻡ ﻻ ﻳﻘﺼِّﺮﻭﻥ ﺩﻭﻥ ﺩﻣﻲ

فإن كنتُ مأكولًا فكُن أنت آكِلي

وإلَّا فأدرِكني ولمَّا أُمَزَّقِ!

أي بني:

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ

فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني

وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي

فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني

أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحينَ وَفاتي

أي بني:

قد كُشف عن ساقٍ، وجدّ الأمر، فاشدُد حيازيمك، وأقم صدر مطيِّك؛ فلم يعد بدٌّ مما ليس منه بد!

— ختاما أهيب بي وبكم إلى الاستجابة لنداء العربية والقيام ببرها كل باستطاعته عسى أن يأتي يوم يعود لها مجدها فترأس العالم كما كانت وكما هي حقيقة به!

نغار عن أحسابنا أن تمتهَنْ             

     والحر عن مجد الجدود مؤتمَنْ

ولغة العُرْب لسانُ ممتحَنْ             

     إن لم يَذُدْ أبناؤه عنه، فمنْ؟!

اقرأ أيضا: لغتنا العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى