صبرا وشاتيلا المذبحة التي مرت دون عقاب
صوت الشورى/متابعات
تقرير/ فاطمة فتوني
40 عاماً على مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها أكثر من 3 آلاف شخص في 3 أيام فقط، حصلت خلالها أكبر مجزرة في تاريخ لبنان، والتي ارتكبتها ميليشيات مسلحة لبنانية بالتعاون مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.
“عمليات القتل والسحل والذبح في هذه المجزرة كانت تجري بصمت. عائلات بكاملها أبيدت. لا أحد كان يدري ماذا يدور في المخيمين”. نضال حمد، أحد الناجين من المجزرة.
قبل 40 عاماً، اكتشف العالم مذهولاً صور جثث مئات من النساء والأطفال والمسنين الذين قتلوا في صبرا وشاتيلا، ونكل بجثثهم في المخيمين الواقعين جنوب العاصمة بيروت. 3 أيام كانت كافية لارتكاب “مجزرة دموية” بحق الأبرياء في المخيمين، والتي وقعت بين يومي 16 و18 أيلول/سبتمبر 1982، أي خلال 62 ساعة فقط، وسط صمت عربي ودولي.
تسلحت الميليشيات بالرشاشات والمسدسات والسكاكين والسواطير والبلطات، وواصلوا لثلاثة أيام بلياليها قتل واغتصاب وتقطيع أوصال الأبرياء العزل من أطفال ونساء وعجائز وكهول، ورمي جثثهم في العراء، كما اقتادوا ممرضين وأطباء من مستشفى عكا إلى وجهات أخرى حيث تمت تصفيتهم.. تفاصيل كثيرة حصلت في تلك الأيام الـ3 غيّرت مصير الآلاف وأنهت حياتهم، منذ الساعة الأولى للاقتحام إلى آخر لحظة من الانسحاب.
تختلف الشهادات بشأن ساعة البدء بالمجزرة، وهذا أمر طبيعي لأن كل شاهد يروي ما رآه في شارعه أو حيه. بعض السكان رأى الميليشيات المهاجمة وهي تتجمع وتستعد للهجوم بينما فوجئ بها آخرون داخل بيوتهم. وهكذا تتراوح ساعة الدخول، وفقاً لعشرات الشهادات، ما بين الساعة الخامسة والساعة السادسة والدقيقة الثلاثين من مساء الخميس في 16 أيلول/ سبتمبر، لكنها تتفق كلها على أن الساعة الأولى “الرهيبة” تزامنت مع غروب الشمس.
اليوم الأول
في اللحظات الأولى، تقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي باتجاه مدينة بيروت لمحاصرتها من عدة محاور، والقوات الغازية حاصرت مخيمي “صبرا وشاتيلا” للاجئين الفلسطينيين من جميع الاتجاهات. دخلت 3 فرق تابعة لميليشيات القوات اللبنانية والكتائب إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في المخيم، تحت ذريعة البحث عن 1500 مسلح فلسطيني، بالرغم من علم الجميع باستحالة ذلك بعد مغادرة مقاتلي منظمة التحرير بيروت، وخلو المخيمات من قطعة سلاح واحدة.
شهود من سكان بلدة الشويفات قالوا لـ “واشنطن بوست”، إنهم في الساعة الثالثة من بعد ظهر الخميس، شاهدوا قافلة شاحنات وجيبات عليها شارات ميليشيا سعد حداد تمر في الشويفات، ثم تسلك طريقاً يسيطر عليه الاحتلال الإسرائيلي، ويؤدي إلى الطرف الجنوبي من مدرج مطار بيروت الغربي الموازي للخط الساحلي حيث توجد مواقع عسكرية إسرائيلية. كذلك كانت قافلة أخرى من ناقلات الجند تصل في الوقت نفسه من بيروت الشرقية ثم تتحول إلى الطريق نفسه المؤدي إلى المطار. وعلى طول الطريق، كانت تشاهد شارة القوات اللبنانية.
المداخل التي استُعملت في اليوم الأول متعددة تقع كلها من الجهتين الجنوبية والغربية. فمن الجهة الجنوبية، المداخل الواقعة في شارع السفارة الكويتية الممتد بين مستديرة المطار ومستديرة السفارة الكويتية، والفاصل ما بين منطقة بئر حسن والمنطقة الجنوبية من “شاتيلا الكبرى”. ومن الجهة الغربية، المداخل الواقعة في الشارع الخلفي للمدينة الرياضية والفاصل بينها وبين المنطقة الغربية من شاتيلا الكبرى، كل المداخل من هاتين الجهتين، شوارع ضيقة أو زواريب باستثناء شارع شاتيلا الرئيسي المتقاطع عمودياً مع منتصف شارع السفارة الكويتية والممتد شمالاً حتى صبرا.
ومنذ الساعات الأولى لدخول المخيم ومحاصرته، لجأت الميليشيات المسلحة إلى أسلوب التعذيب والقتل عشوائياً، من خلال إطلاق النار على السكان المدنيين الأبرياء من دون أي تمييز بين هويات السكان أو أعمارهم أو أجناسهم. إضافة إلى القصف المدفعي الذي استمر طوال نهار الخميس، بشكل تصاعدي. واستمر القنص من قبل القوات الإسرائيلية المحاصرة للمنطقة إلى أن تم التأكد من أن الشوارع باتت شبه خالية من المارة، وأن معظم السكان لجأ إلى الملاجئ، أو اختبأ داخل البيوت.
مع غروب شمس النهار، كان السكان ينتظرون بقلق عودة “وفد السلام” من رجال المخيم. منهم من كان بدأ يشعر باليأس والخوف ويتساءل: ماذا جرى حقاً لهم؟ هل وصلوا إلى مقر القيادة الإسرائيلية؟ وإن وصلوا إليه وبلغوا بأن سكان المخيم لا يريدون قتال، فلماذا يستمر القصف الوحشي إذاً؟.. ولكن، مع الأسف، كان على سكان صبرا وشاتيلا الانتظار أياماً كي يعلموا بأنه لن يعود من رجال الوفد أحد.
اليوم الثاني
في صباح يوم الجمعة الباكر، وصلت التعزيزات العسكرية للمهاجمين في المخيم، ومنذ الصباح الباكر، أخذت النداءات تسمع في كل شاتيلا: “سلّم تسلم”. لكن، لو استطاع أحد أن يمر في شوارع وزواريب منطقة شاتيلا بأسرها لاكتشف، من دون أي عناء، عدم صحة أن من “يسلّم يسلم”. فالطرقات والزواريب ملأى بالجثث.
أما الخائفون الذين غصّت الملاجئ بهم، فقد تمكن بعضهم من الهرب غير أن العدد الأكبر قُتل داخل الملجأ أو أمامه أو عند الحائط المواجه أو في نهاية الزاروب. وهذا فضلاً عن ملاجئ بقيت مملوءة بالناس حتى الجمعة، فجابهت مصائر متعددة، كاليوم السابق. وتطورت أساليب القتل، وما عادت جدران الموت وحدها تكفي فكثر استعمال حفر الموت. كذلك، تطورت أساليب اقتحام الملاجئ أيضاً، فأكثر من ملجأ في هذا اليوم قضى من فيه حرقاً بقنبلة فوسفورية أو قتلاً بالرصاص.
في هذا اليوم، تصاعدت الأحداث، حيث وصل القتلة إلى حي الدوخي في مخيم شاتيلا، ودخلوا البيوت وذبحوا بداخلها العشرات من المدنيين العزل، وأصبح الشارع الرئيسي الممتد من النقطة المعروفة اليوم باسم محطة “الرحاب” إلى مخيم شاتيلا ممتلئاً بالجثث من النساء والأطفال والشيوخ، وقام القتلة بجمع عدد من الأهالي ونقلوهم بالشاحنات إلى أماكن مجهولة، وأصبحوا بعد ذلك في عداد الشهداء والمفقودين.
إن أمكن القول إن ليلة الخميس كانت ليلة القضاء على نزلاء الملاجئ، يمكن القول إن يوم الجمعة كان يوم اقتحام مستشفى عكا التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني والقريب من مخيم شاتيلا، وكانت متمركزة فيه قوة عسكرية إسرائيلية دخلت مع القتلة إلى المستشفى وقاموا بقتل المرضى والأطباء والممرضين.
لم يهدأ الرصاص باتجاه النساء والأطفال والشيوخ والشبان يومها، في عملية أقل ما يمكن وصفها بالإبادة الجماعية الشاملة. وتعددت القصص التي تثبت إجرام المسلحين في ذلك الوقت، شهادة الصليب الأحمر الدولي، تقول إنه عندما وصل المسعفون إلى مستشفى عكا يوم الجمعة، رأوا “أطفالاً رضع، ومنهم من لم يكتمل نموهم بعد، جثثهم محروقة وممددة أرضاً”.
يمكن القول إن الكثيرين نجوا في هذا اليوم مصادفة، ولكن مشاهد الجثث جعلتهم “أحياء على قيد الموت”، هذا ما قالته إحدى الناجيات التي روت تفاصيل ما حصل عند مدخل المستشفى، إذ “تكدست جثث المرضى الذين كانوا يحاولون إنقاذ أنفسهم.. بطريقة مأساوية”.
اليوم الثالث
استمرت المجزرة بكل فظاعتها وبشاعتها، حتى صباح يوم السبت 18 أيلول/سبتمبر، حيث غادر القتلة المخيم بعد أن شعروا بأن “رائحة الجريمة قد فاحت”، فوق ركام الموت والدمار. لكن الانسحاب لم يتم من داخل صبرا وشاتيلا إلا عند الظهر، ومن المنطقة بكاملها بعد الظهر.
وقد شهدت ساعات اليوم الثالث، جميع الممارسات العدوانية التي مورست في اليومين الأولين بحق السكان. لا بل تفوّق اليوم الثالث في عمليات الخطف وفي عمليات القتل الجماعي. كما تفوّق في إذلال السكان وإهانتهم على امتداد الطريق الطويل. في ذلك “المارش الأخير” الذي قاد المسلحون فيه السكان كـ”الأغنام”.
بدأ تجميع السكان منذ فجر السبت، من زواريب صبرا وشوارعها الفرعية ومن شوارع شاتيلا الفرعية أيضاً باستثناء المخيم نفسه وزواريبه التي لم يدخلها أحد من المهاجمين لكنهم لو دخلوا فعلاً مخيم شاتيلا في ذاك اليوم لوجدوه فارغاً تماماً من السكان. أمّا أهم مركز تجمع منذ ساعات الفجر، فكان في ساحة صبرا وأمام مقر الهلال الأحمر الفلسطيني.
وبعد الساعة السابعة صباحاً، بدأ ذلك “المارش الأخير” من ساحة صبرا مروراً بشارعها نحو الجنوب، فشارع شاتيلا الرئيسي المتصل معه، ثم يميناً نحو السفارة الكويتية، ومن مستديرة السفارة يميناً نحو المدينة الرياضية. كان للإسرائيليين دور بارز في هذا اليوم، تمثل في “زعيق” مكبرات الصوت المتواصل بالتوجه نحو ملعب كرة القدم، وفي التحقيق مع المئات من سكان المنطقة. وقد عاد كثيرون من السكان إلى بيوتهم، لكن ليس الجميع.
لم يكن سكان صبرا على علم بما يجري، حتى هؤلاء الذين يسكنون على مقربة من شاتيلا أو على تماس به. وليس هذا بمستغرب ما دامت الأنباء لم تكن أعلنت، وما دام القصف الإسرائيلي المتواصل المدروس والمتقدم على تقدم الميليشيات قد أجبر الناس على البقاء في منازلهم، وما دام المهاجمون أنفسهم لم يصلوا إلى نهاية شاتيلا وإلى ساحة صبرا إلا في هذا اليوم الثالث.
واقتحم المسلحون مستشفى غزة في صبرا، في الساعة السابعة تقريباً من صباح يوم السبت. غير أن الأنباء عما جرى في مستشفى عكا يوم الجمعة السابق، كانت وصلت في اليوم نفسه. وكذلك الأنباء عن بعض ما جرى وما زال يجري في شاتيلا. لم يكن في المستشفى حين اقتحامه سوى عدد محدود من المرضى ومجموعة الأطباء والممرضين الأجانب الذين رفضوا الخروج مفضلين البقاء لحماية المرضى والمستشفى. ويعدّ مستشفى “غزة”، الأول حجماً وبناء وأهمية بين مجموعة المستشفيات التي أقامها الهلال الأحمر الفلسطيني في بيروت، ولم يكن بمنزلة المستشفى المركزي بينها فحسب، بل كان أيضاً صلة الوصل بعدد من المستشفيات اللبنانية.
في تلك الليلة الأخيرة في مستشفى غزة، لم يكن أي من الفريق الطبي العامل المسؤول يدرك أنها الليلة الأخيرة، لكن الجميع كان يدرك خطورة الموقف. كانوا يشعرون بأنهم منسيون في جزيرة نائية، لا أحد يسأل عنهم. حتى إنهم لمّا حاولوا الاستماع إلى الراديو لم يتمكنوا من معرفة حقيقة ما يجري في الخارج على بعد أمتار منهم. ولم يستطيعوا أن يعرفوا من الذي يقصف في الخارج.
المصدر:الميادين