كتابات فكرية

قراءة مُعاضدة لمقالة (محاولة لفهم الديمقراطية) للقاضي عبد العزيز البغدادي

قراءة مُعاضدة لمقالة (محاولة لفهم الديمقراطية) للقاضي عبد العزيز البغدادي

  •  حسن الدولة

الثلاثاء 26 نوفمبر 2025-

في هذه القراءة المغايرة لمقالة القاضي عبدالعزيز البغدادي الموسومة ب: ” محاولة لفهم الديمقراطية” المنشور في صحيفة الشورى الإلكترونية وعلى صفحة القاضي عبدالعزيز البغدادي في الفيسبوك يوم الثلاثاء الموافق 25 نوفمبر 2025م.

ومن خلال العنوان يتضح لنا ان القاضي عبدالعزيز يقدم في هذه المقالة مقاربة مبسّطة وواعية لفكرة الديمقراطية، حيث يشير العنوان منذ البداية إلى أن الكاتب لا يتعالى على القارئ بنظرية مكتملة، بل يسعى إلى تفكيك الالتباسات المتراكمة حول مفهوم الديمقراطية في الوعي العربي، وتحديدا في البيئات التي عاشت طويلا في ظل أنظمة الاستبداد والعنف السياسي والتوظيف الديني والصراعات الهوياتية. والمقال يقدّم قراءة نقدية لواقع الوعي، وللحالة السياسية التي عطّلت أي إمكانية لبناء تجربة ديمقراطية حقيقية.

وقد أحسن قاضينا الجليل حين انطلق من أساس المسألة: الوعي. فالديمقراطية ـ كما أوضح انها ليست صندوقا ولا انتخابات شكلية، بل تبدأ من لحظة التربية الأولى في البيت، ومن المدرسة، ومن العلاقة بين الإنسان والسلطة والمعرفة. والديمقراطية لا يمكن أن تُمارس في مجتمع تغذّيه العصبيات، وتعبّئه ثقافة الكراهية، ويقاد بخطاب التحريض، وتُرهب فيه العقول بحجج جاهزة تصنعها السلطة وتسوّقها القوى المتضررة من الوعي.

ولعلّ من النماذج التاريخية التي تجسّد ما تحدث عنه بدقة، ما جرى في مصر خلال عهد الملك فاروق في تجربة المفكر الكبير أحمد لطفي السيد. فقد رشّح الرجل نفسه لعضوية البرلمان، مستندا إلى برنامج عقلاني قائم على ثقافة الحوار، لكن منافسه عرف من أين تُؤكل كتف الجماهير. فجال في الدائرة بمكبّر صوت وهو يقسم أيمانا مغلظة بأنه سمع بإذنيه “أحمد لطفي السيد وهو يعترف انه ديمقراطي”! مستغلًا جهل الناس بمعنى الديمقراطية التي تجسدها الانتخابات البرلمانية التي صورها المنافس للجماهير خروجا على الدين أو على التقاليد. وحين حضر أحمد لطفي إلى السرداق المعدّ لعرض برنامجه، سأله الناخبون مباشرة: “هل أنت ديمقراطي؟” فأجاب بكل صدق: “نعم، ولذلك جئتكم ببرنامجي.” وما إن نطق بتلك الكلمات حتى انقلب السرداق رأسا على عقب، وكسرت الكراسي، وأُحرق المكان، ليخرج منهزما لا لعيب في فكره، بل لغياب الوعي لدى الناخبين. غير أن التاريخ أنصفه لاحقا، فبقي فكرُه حاضرا في المكتبات، وبقي خصمه مجهولا. وهذه الحادثة تختصر ببلاغة ما أشار إليه القاضي في مقالته موضوع هذه القراءة، ويجب ان نؤسس لترسخ مفهوم ديني للديمقراطية كمبدا من مبادئ الشورة وبالتالي فالديمقراطية لا تهزم بالقوة، بل بالجهل، وأن خصوم الحرية لا يحتاجون إلى السلاح بقدر حاجتهم إلى جمهور لا يفهم معنى الحرية.

ويمضي مقال القاضي عبدالعزيز إلى القول بأن الديمقراطية هي ساحة الممارسة السياسية للحرية، لكنها لا يمكن أن تزدهر دون بيئة عقلانية تنظّم العلاقة بين الدين والسياسة. وهنا تبرز أهمية العلمانية السياسية، لا كعداء للدين بل كضمانة لعدم توظيفه في الصراع على السلطة. وهي الإطار الذي يضع السياسة في موضعها الطبيعي: مجال بشري تحكمه القوانين والخبرة والتجربة، لا المزاج المذهبي ولا التفويض الغيبي. وهذا الانتقال من الالتباس إلى الوضوح هو الذي يسمح للديمقراطية بأن تمارَس كحق لا كهبة، وكعقد اجتماعي لا كمنّة من الحاكم.

وفي قراءته العميقة لدور “الدولة العميقة”، يشير بوضوح إلى أنّ الاستبداد في العالم العربي لم ينتهِ، بل أعاد إنتاج نفسه عبر شبكات النفوذ والقوة والمال والتحالفات الإقليمية والدولية. وهذه الشبكات  كما بيّنت المقالة لا ترى في المواطن شريكا، بل تابعا، كما لا ترى في الحرية قيمة، بل تهديدا مباشرا لبقائها. لذلك تعمل بلا كلل على تخريب الوعي، ومحاصرة التعليم، وإغراق المجتمعات في العنف والانقسامات، كي تظل الديمقراطية فكرة مؤجلة دائمًا، أو “ترفا” غير مناسب للواقع، كما يردّد المتنفّذون.

وفي ضوء ذلك، تصبح الديمقراطية ـ كما في المقالة مشروعا ثقافيا قبل أن تكون مشروعا سياسيا. فهي تُبنى بالعلم، والوعي، والإعلام الحر، والمجتمع المدني، والمؤسسات التي تُحاسِب لا تلك التي تُجمّل وجه السلطة. وصندوق الاقتراع ليس البداية بل النهاية، ونتيجته ليست معيار النجاح، بل انعكاس لمدى وعي الناس ودورهم في صياغة مستقبلهم.

إن مقالة القاضي عبدالعزيز، تؤكّد حقيقة لا ينبغي أن تغفل: أن الاستبداد لا ينهزم بالشعارات، وأن الشعوب لا تُخرج من الظلمات إلى النور إلا بالعلم. وأن من يعشقون الظلام ويغذّون الخرافة ويخافون من وعي الناس، إنما يدافعون عن مصالحهم لا عن أوطانهم. ولذلك، فإن قوله “نعم للسلام، نعم للوئام، ولا للنفاق والظلم والارتهان” ليس شعارا، بل صياغة مختصرة لكل ما يجب أن تقوم عليه الدولة الحديثة.

بهذه القراءة، يتضح أن المقالة ليست مجرد “محاولة لفهم الديمقراطية”، بل هو دعوة لفهم الذات، ولتفكيك بنيات القهر، ولتحرير العقل من كل ما يجعله تابعا لا فاعلا. وهي قراءة يحتاجها مجتمعنا اليوم أكثر من أي وقت مضى.

اقرأ أيضا: الأستاذ عبدالعزيز البغدادي ومحاوله لفهم الديمقراطية!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى