كتابات فكرية

في رحاب الصوم   ( ٢ – ٣)

في رحاب الصوم   ( ٢ – ٣)

  • عارف الدوش

الأحد9مارس2025_

 الصوم عند أهل الله (الصوفية ) ليس امتناعاً عن الطعام والشراب والشهوات فقط بل أنهم يرون شهر الصوم يرتقي بالروح ويجعلها شفافة مستعدة لمعرفة الله تعالى معرفة حقيقية وبما أن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لا يطلع عليها الناس فهو بذلك يدخل في لب وجوهر الإخلاص الذي هو روح الأعمال وبالتالي فهو عبادة متميزة.

 والصوم عند أهل الله ( الصوفية) هو صوم عن الذنوب و عن الغيبة والنميمة و النفاق والبهتان و الحسد و عن النظر الحرام و عن كل النواهي والمحرمات.

وفي التجربة الروحية العملية  نجد تأكيدا ملحاً على الجوارح أكثر من سواها فالباحث محمد غازي عرابي عبر عن الصوم بأنه : “فطم النفس عن شهواتها وهي حاجة ملحة لخروج النفس من قمقمها المادي بمعنى كسرها إياه لا بمعنى المفارقة” والصوم عماد الدين بعد الصلاة ، فهو توأمها ورديفها الثاني ، فمن دون الصوم لا يمكن للعبد أن يتفكر في ما اعتاده في حياته من عادات ثابتة .

ويقول الباحث محمد غازي عرابي : إن غاية الصوم الجوهرية إحداث شق كزلزلة في قلب العبد ليلتفت إلى خالقه ويتفكر في سماء الروح وأرض البدن . ( ١ )

وفيما يعتبر ” العاديون من أمثالي” شهر رمضان شهراً للطاعة وطلب للمغفرة وشهراً لغسل الذنوب وشهر مثوبة ..  ويراه العارفون بالله على انه شهر نكران الذات والتخلي عن كل ما سوى الله تعالى ومعرفة ذلك معرفة حقيقية

وصوم الجوارح يغفل عنه كثير من الناس فنراهم في رمضان يصومون عن الحلال ولكنهم لا يتورَّعون عن أخذ الرشوة وغير ذلك من ألوان وأنواع الحرام ويمارسون الأذية من خلال الغضب أو البطش بالأيدي أو القول الجارح باللسان أو النميمة وهم بذلك يجرحون صيامهم ويرتكبون الآثام في حق غيرهم وفي حق أنفسهم وحق الله تعالى عليهم ..  ويقول جابر – رضي الله عنه – كما في “مصنف ابن أبي شيبة”:

“إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأثم ودع أذى الجار وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم صومك وفطرك سواء”.

كما يقول زين العابدين بن علي رضي الله عنه وأرضاه – : “حق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك من النار” .. وهكذا جاء في الحديث : “الصوم جُنَّة من النار” . ( ٢ )

أما ابن الجوزي  فيقول : ” ما من جارحة في بدن الإنسان إلا ويلزمها الصوم في رمضان وغير رمضان فصوم اللسان : ترك الكلام إلا في ذكر الله تعالى وصوم السمع : ترك الإصغاء إلى الباطل وإلى ما لا يحل سماعه وصيام العينين : ترك النظر والغض عن محارم الله ”  ( ٣ )

وفي كلام ابن الجوزي لكل جارحة صيام وصيامها أن تكفَّ عن العصيان فاللسان يصوم عن الغيبة والنميمة والكذب والبهتان والفم يصوم عن الحرام والأذن تصوم عن سماع ما يغضب الرحمن والعين تصوم عن النظر إلى النسوان واليد تصوم عن أخذ الرشوة والسرقة والبطش والطغيان والبطن تصوم عن أكل الحرام والقلب يصوم عن الكراهية والبغضاء والشحناء والحسد والخصام .

ومَن يجهل حقيقة هذا الصوم فله حظ ونصيب من كلام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : “رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر ”  ( ٤ )

وهناك الصوم  عن ” السوى” أي عن ما سوى الله تعالى أو كما يسميه أهل الله ( الصوفية )  الصوم عن الأغيار وكل أنواع الصوم هذه تجعل حياة الإنسان المؤمن في صوم روحي دائم فليس الصوم أن تترك الطعام والشراب فقط وإنما الصوم أن تترك الذنوب والمعاصي وتصوم جوارحك كلها ويصوم قلبك عن الأغيار ..

 ويجمل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه وارضاه  الحديث عن أنواع الصوم  فيحدد ثلاثة أنواع من الصوم  وهي :

 1- صوم العموم وهو كف شهوة البطن والفرج

2- صوم الخصوص وهو كف الجوارح عن الآثام وهذا هو صوم الصالحين

 3- صوم خصوص الخصوص و هو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية عما سوى الله عز وجل بالكلية

 ومرتبة صوم خصوص الخصوص لا ينالها إلا الأنبياء والصديقين والمقربين لأنها إقبال الهمة على الله والاستغراق فيه والبعد عما سواه  ( ٥ )

ـــــــــــــــــــ يتبع

الهوامش

 ( ١ ) محمد غازي عرابي – النصوص في مصطلحات التصوف ص ٧٦- ط١٩٨٥ دار قتيبة – دمشق .

( ٢ ) زين العابدين بن علي رضي الله وأرضاه  – رسالة الحقوق ص107

 ( ٣ )  أبن الجوزي –  بستان الواعظين  ص 300

( ٤ ) رواه الإمام احمد وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – وهو في صحيح الجامع: ( 3488).

 ( ٥  ) الغزالي : إحياء علوم الدين ج1 ص241

اقرأ أيضا للكاتب:في رحاب الصوم  ( ١ – ٣ )

الصورة تعبيرية خاصة بصوت الشورى لقارئين في الجامع الكبير بصنعاء في رمضان

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى