الدولة المدنية: محاولة لمقاربة المفهوم
الدولة المدنية: محاولة لمقاربة المفهوم
*طاهر شمسان
إن تاريخ تطور الدولة منذ انبثاقها هو تاريخ تطور نضجها المدني، وعندما بان عليها هذا النضج وصار سمتها الأكثر بروزا قيل عنها: دولة سياسية، ودولة الأمة ودولة للأمة، ودولة قانونية، ودولة حرية، ودولة ديمقراطية، ودولة مواطنة، ودولة مساواة، ودولة تضامن مجتمعي حقيقي، ودولة تعددية، ودولة مؤسسات … الخ في إشارة إلى أن هذه الدولة تحديدا هي الدولة الحديثة وأن أنماط الدولة السابقة عليها في التاريخ لم تكن كذلك.
وبما أن الدولة بحسب تعريف هيجل هي “التنظيم السياسي للمجتمع” أو هي “المجتمع المنظم عبر الدولة” فإن الحديث عنها في أي مرحلة من مرحل تطورها هو إلى حد كبير حديث عن الاجتماع المدني في تلك المرحلة. وتاريخ الإنسان لم يعرف سوى ثلاثة أنماط من الاجتماع: عائلي؛ عشائري قبلي؛ ومدني. وللتعرف على الدولة في مختلف مراحل تطورها لابد أولا من التعرف على ماهية الاجتماع المدني، وأقرب الطرق إلى ذلك هي المقارنة بينه وبين الاجتماعين العائلي والعشائري القبلي السابقين على ظهور الدولة.
الاجتماع العائلي:
القرابة في الاجتماع العائلي قائمة على رابطة الدم، وهي قرابة طبيعية موروثة، غير مختارة (لأن الإنسان لا يختار أبويه) وغير مفكر بها، وهي إلى ذلك قرابة ثابتة لا تتغير. والعائلة مؤتمنة على أفرادها أخلاقيا وليس قانونيا، وهي بهذا المعنى مفهوم أخلاقي وليس مفهوما سياسيا، ولحفظ نوعها وضمان التهدئة بين أفرادها كان رهان العائلة دائما رهانا أخلاقيا. وعلى هذا الأساس فالعائلة لا تنتج الدولة ولا تحتاج إليها، وقد وجدت قبلها وعاشت بدونها.
لكن عندما ظهرت الدولة كنتاج لظهور وتبلور الاجتماع المدني بدأ تدخل القانون (التشريع الرسمي) تدريجيا في شئون الأسرة؛ وهذا ليس إلا من تأثيرات الاجتماع المدني عليها-أي على الأسرة-بحكم انتمائها إليه وحاجته إلى تكييفها على النحو الذي يستجيب لقرابته ورهانه.
الاجتماع العشائري-القبلي:
القرابة في هذا الاجتماع هي الأخرى قائمة على رابطة الدم، وهي كذلك قرابة طبيعية موروثة، غير مختارة (لأن الإنسان لا يختار عشيرته وقبيلته) وغير مفكر بها، وهي إلى ذلك قرابة ثابتة لا تعرف التغيير. والاجتماع العشائري-القبلي لا ينتج القانون وإنما ينتج الأعراف، ولا ينتج السلطة السياسية وإنما ينتج السلطة الاجتماعية لرؤساء العشائر والقبائل، ومعنى هذا أن الاجتماع العشاري-القبلي لا ينتج الدولة ولا يحتاج إليها وقد وجد قبلها وعاش بدونها، وهو من هذه الناحية مفهوم أخلاقي مثله مثل الاجتماع العائلي. ولحفظ نوعه وضمان التهدئة بين أفراده وجماعاته راهن الاجتماع العشائري-القبلي على أعرافه وعلى السلطة الاجتماعية لرؤساء العشائر والقبائل، وهذا رهان أخلاقي وليس رهانا سياسيا.
والاجتماع العشائري القبلي هو بالضرورة اجتماع عصبوي في مواجهة اجتماعات عشائرية قبلية مناظرة له. وعندما تنبثق الدولة في بيئة مكتظة بالعصبيات العشائرية القبلية-كما حصل مع دولة المسلمين الأولى في يثرب-فإنها لا تنبثق عن هذا النوع من الاجتماع وإنما عن اجتماع مدني، تشكَّل كعصبية جديدة نوعيا، غالبا ما يعتريه الضَّعف بمجرد نجاحه في تعميم مبدأ الدولة وفرض سلطتها على محيطه العشائري القبلي. فالدولة عندما تعم وتبسط نفوذها تستوعب العصبيات العشائرية القبلية في كيانها دون أن تقوى على صهرها وإذابتها كليا في العصبية الجديدة. وما يحدث بعد ذلك، في الغالب، هو أن تستأثر عصبية قبلية قوية أو تحالف عصبيات بالدولة. وعندما يحدث هذا تتعالى الدولة على المجتمع وتتحول إلى قوة قهرية. وهنا تكمن جذور عدم الاستقرار والحروب الداخلية. وإذا تمكنت عصبية طامحة من الإطاحة بعصبية حاكمة والحلول محلها فإن هذا لا يغير من نمط الدولة المتعالية والقهرية.
وخلاصة القول: إن العصبيات العشائرية القبلية لا تنتج الدولة، لكنها تهيمن عليها عندما توجد وتحولها بالضرورة من فضاء مساواتي لم تتوفر له موضوعيا شروط الثبات والاستمرار إلى فضاء عصبوي تهيمن فيه السلطة على الدولة. والهيمنة مهما كانت قبضتها فإنها، عاجلا أو آجلا، تستدعي شروط تفكك الدولة الواحدة أو انهيارها. ويحدث هذا على نحو خاص في البلدان التي لا يكون فيها التفاعل بين الجغرافيا والتاريخ قويا بما فيه الكفاية.
الاجتماع المدني:
القرابة في الاجتماع المدني تختلف عنها في الاجتماعين العائلي والعشائري-القبلي، فهي أولاً لا تقوم على رابطة الدم (غير طبيعية وغير موروثة)، وهي ثانيا قرابة متغيرة وليست ثابتة، وهي ثالثا قرابة مختارة ومفكر بها.
ورهان الاجتماع المدني على حفظ النوع وعلى التهدئة بين أفراده لم يعد هو الآخر رهانا أخلاقيا ثابتا كما هو الحال في الاجتماعين العائلي والعشائري-القبلي وإنما أصبح رهانا متغيرا (ديني أو سياسي). وعليه فإن الاجتماع المدني هو اجتماع تجاوز فيه الناس قراباتهم الطبيعية الموروثة والثابتة والغير مختارة والغير مفكر بها واندمجوا في قرابة جديدة نوعيا في إطار المدن التي نشأت بالتلازم مع نشوء هذا النوع من الاجتماع.
وتأسيسا على ما تقدم هناك علاقة ترابط سببي في الاجتماع المدني بين قرابته، ورهانه على التهدئة وحفظ النوع، ونمط الدولة المعبرة عن نظامه وانتظامه، فإذا تغير المشترك القرابي يتغير الرهان ويتغير بالتالي نمط الدولة. وخلال تاريخه الطويل عرف الإنسان أربعة أنواع من الاجتماعات المدنية المختلفة في مشتركاتها القرابية وفي رهاناتها على التهدئة وحفظ النوع، ورافق كلً منها نمط دولة مختلف، وذلك على النحو التالي:
(1) الاجتماع المدني الذي أنتج نمط الدولة العبودية في عصر الأسطورة.
(2) الاجتماع المدني الذي أنتج نمط الدولة الإقطاعية في عصر الإيمان.
(3) الاجتماع المدني الذي أنتج نمط الدولة القومية في عصر العقل.
(4) الاجتماع المدني الذي أنتج نمط الدولة الحديثة في عصر العلم.
والدولة الحديثة تحديدا هي المقصودة في عنوان هذه المقالة، وقد أطلقنا عليها تجاوزا مسمى “الدولة المدنية”، ونقول “تجاوزا” لأن هذا المسمى لا وجود له في الأدب السياسي الأوروبي. ومن الآن فصاعدا على القارئ اللبيب أن يأخذ بعين الاعتبار أن حديثنا عن الدولة المدنية هو حديث عن الدولة الحديثة كما هي قائمة حاليا في الغرب المعاصر.
إذاً أمامنا أربعة أنماط مختلفة للدولة نتجت عن أربعة اجتماعات مدنية مختلفة في مشتركاتها القرابية وفي رهاناتها على التهدئة العامة وحفظ النوع، وكل نمط من الأنماط الأربعة للدولة ينتمي إلى عصر معرفي مختلف هي على التوالي: (1) عصر الأسطورة (عصر التفكير الأسطوري) (2) عصر الإيمان (عصر التفكير الديني) (3) عصر العقل (عصر التفكير الفلسفي) (4) عصر العلم (عصر التفكير العلمي).
أولا: الاجتماع المدني الذي أنتج نمط الدولة العبودية في عصر الأسطورة.
(1) عصر الأسطورة هو العصر الذي كانت فيه السيادة كاملة لنمط التفكير الأسطوري الإحيائي كنظام معرفي قائم على اعتقاد الإنسان بأن الحياة التي تسري فيه تسري أيضا في محيطه الطبيعي مفترضا وجود آلهة وأرواح خفية وراء كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة.
والإنسان عندما اعتقد بهذه الكائنات كان من حيث لا يعلم واقعا تحت ضغط الحاجة إلى إيجاد شكل من أشكال التنظيم في فوضى الظواهر الطبيعية التي لم يكن قادرا على فهمها وتفسيرها والسيطرة عليها، وكان التفكير الأسطوري الإحيائي وسيلته إلى ذلك، مع ملاحظة أن هذا التفكير لم يحقق له السيطرة الفعلية وإنما المتوهمة التي منحته الانسجام الداخلي والأمان النفسي اللازم لمواصلة الحياة وتحمل أعبائها.
وطبقا لنمط التفكير الأسطوري كان نهر النيل في مصر لا “يفيض” عندما يغرق الأراضي الزراعية ويهلك المحاصيل والماشية ويدمر القرى وإنما كان “يغضب”، وفي هذه الحالة يجب استرضاءه بفتاة عذراء تقدم له كأضحية حتى يرضى ويخمد غضبه. وبهذه الطريقة كان إنسان عصر الأسطورة يتوهم السيطرة على فوضى محيطه الطبيعي وإضفاء النظام عليه.
والملاحظ أن عصر الأسطورة كان عصرا عالميا غير قاصر على أجزاء بعينها من العالم، غير أن عالميته لا تعني التطابق بين تجلياته في كل الأمكنة وإنما تعني الواحدية في ظل التنوع وتعدد الخصوصيات، يضاف إلى ذلك أن عصر الأسطورة استطال كثيرا في الزمن لأسباب متعلقة بالبناء التحتي للمجتمعات الزراعية القديمة الذي لم يكن يتطور إلا ببطء شديد وغير منظور بدت معه الحياة وكأنها راكدة تكرر نفسها جيلا بعد جيل. وسوف نلاحظ أن الاستطالة في الزمن تقلصت كثيرا بين عصر الإيمان وعصر العقل، وسوف تتقلص أكثر بين عصر العقل وعصر العلم.
(2) أما الاجتماع المدني في عصر الأسطورة فقد كان اجتماعا من العبيد بالمعنى الحقيقي للكلمة وليس بالمعنى القانوني، ذلك أن النظام المعرفي السائد لم يكن يسمح للإنسان أن يعي واقع عبوديته، وكانت الحرية فوق طاقة الإنسان العقلية والأخلاقية على تصورها والتفكير بها.
وإلى ذلك كان الاجتماع المدني في عصر الأسطورة اجتماعا دينيا بالمعنى الوثني للكلمة ولم يكن اجتماعا سياسيا. وفي ظل العبودية الحقيقية كان الناس لا “يتوحدون” وإنما “يتماهون” في الطقوس والشعائر الدينية، فالفرد لا وجود له وسط الجماعة المتماهية على أساس ديني وثني منضبط أخلاقيا لمفاهيم الخير والشر والحلال والحرام وفقا لمعايير ذلك العصر. وكان التماهي في الدين الوثني هو المشترك القرابي للاجتماع المدني في عصر الأسطورة، ولذلك خلا هذا العصر من البطولات الفردية، وكانت البطولة فيه لشخصيات أسطورية مارست بطولات خارقة على النحو الذي تبينه لنا الملاحم الأدبية القديمة.
ولحفظ نوعه وضمان التهدئة العامة راهن الاجتماع المدني في مصر القديمة على الملك الإله رمز التماهي الجماعي الذي بدونه لا يستقيم نسق الحياة، ومن أجله يجب اجتراح المآثر، وهذا يفسر لنا لماذا تحمل إنسان ذلك العصر أعباء تشييد العمران بوسائل بسيطة وفي ظروف شديدة القسوة على نحو ما نراه في أهرامات الجيزة ومعابد الأقصر.
(3) ومن الطبيعي أن يعكس بنيان الدولة المشيدة وتراتبيتها وقوانينها مستوى التطور العقلي والأخلاقي لهذا النوع من الاجتماع المدني الذي عاش عبودية حقيقية رأى معها في الفرعون “ربه الأعلى”، وآثار الحضارة المصرية القديمة تعبر عن هذه الحقبة من تاريخ الإنسان.
ثانيا: الاجتماع المدني الذي أنتج نمط الدولة الإقطاعية في عصر الإيمان.
(1) عصر الإيمان هو العصر الذي شكلت الأديان الكبرى نظامه المعرفي وصاغت عقله الجمعي وأنماط تفكيره وطرائق استدلاله ليرى الإنسان الكون منظما يسير إلى غاية محددة له سلفا. وقد انبثق هذا العصر تدريجيا على هامش عصر الأسطورة، وبسبب التحولات البطيئة والغير منظورة في البناء التحتي للمجتمع احتاج إلى حقب زمنية طويلة لتوسيع هامش حضوره حتى أصبح هو المتن في مطلع القرن الرابع الميلاد عندما تنصر الإمبراطور الروماني قسطنطين وتحولت الإمبراطورية الرومانية من وثنية تعيش حالة احتضار إلى “مقدسة” كتبت لها شرعية جديدة منحتها حياة جديدة كما سنرى تباعا.
وإذا كانت البطولة في عصر الأسطورة لشخصيات أسطورية فإن البطولة في عصر الإيمان أصبحت للأنبياء حتى بعد موتهم بقرون، فالأنبياء هم الذين قادوا كفاح الإنسان كوعي وضمير فردي ضد الدولة الوثنية المتعالية كمتحد قوة وقهر وبواسطتهم تعرف الإنسان على الله خالق الكون المفارق له والمتعالي عليه. وعندما تعرف الإنسان على الله اكتشف انه فرد له وحده ما يكسب وعليه وحده ما يكتسب (كل نفس بما كسبت رهينة)، وهنا بالتحديد بدأ الإنسان يغادر حالة “التماهي” مع غيره من الناس ويتشكل كذات. وتشكل الإنسان كذات هو عملية بدأت مع عصر الإيمان واكتملت في عصر العلم الذي حرر الإنسان الفرد من سلطة الجماعة ومنحه كيانية خاصة به كفرد على الدولة أن تقيم معه علاقة مباشرة دون أي وسيط.
وتتلخص ملحمة عصر الإيمان في القضاء على العبودية بمعناها الحقيقي بنقل الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وتحريرهم من كل خوف إلا الخوف من الله الخالق غير المنظور الذي يراقب أفعال الناس وتصرفاتهم ليطبق عليهم عدله المطلق في الثواب والعقاب، وهذا أهم ملمح في النظام المعرفي لعصر الإيمان الذي حل فيه الخوف من الله محل الخوف من ظواهر الطبيعة التي أصبحت هي الأخرى، مثل الإنسان، مخلوقات ضعيفة تسبح لله الواحد القهار (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) ولم يعد هناك ما يوجب الخوف منها. وطبقا للنظام المعرفي لعصر الإيمان أصبح نهر النيل “يفيض” ولم يعد “يغضب” كما كان عليه الحال في النظام المعرفي لعصر الأسطورة.
(2) إن تحول رعايا الإمبراطورية الرومانية من الوثنية إلى المسيحية إثر تنصُّر الإمبراطور قسطنطين كان ثورة عاصفة في النظام المعرفي استدعت تحولا مطابقا في نوع القرابة التي قام عليها الاجتماع المدني، فمنذ هذه اللحظة أصبح رعايا الإمبراطورية الرومانية إخوة في العقيدة. وتبعا للتحول في نوع القرابة تغير رهان الاجتماع المدني على التهدئة العامة وحفظ النوع، وأصبح الخوف من الله ومن عقابه والطمع في ثوابه هو الرهان الجديد.
(3) أدى التغير في المشترك القرابي للاجتماع المدني إلى تغير مساوق له في الرهان على التهدئة العامة وحفظ النوع، وهذا أدى بدوره إلى تغير مساوق في نمط الدولة المشيدة فأصبحت امبراطورية مقدسة بعد أن كانت وثنية.
إن “القداسة” التي أضفتها الإمبراطورية الرومانية على نفسها، بعدما تنصرت، ليست حقيقة دينية وإنما هي إجراء دولني لاكتساب الشرعية من خلال التكيف مع رهان الاجتماع المدني كي تتعالى عليه، وبدون هذا التكيف يتعذر تعالي الدولة على الاجتماع المدني. وعندما جاء عصر العقل أزاح الستار عن “قداسة الدولة” وبيَّن أنها قداسة مزعومة. وفي عصر العقل حلت الدولة القومية العلمانية محل الدولة الدينية في كل أوروبا بعد صراع مع الكنيسة أفضي إلى فصل الدين عن الدولة أو قل فصل الرابطة الوطنية عن الرابطة الدينية لتصبح الأولى هي المشترك القرابي الجديد أي الأخوة في الوطن.
تجليات المشهد الإسلامي لعصر الإيمان:
جاء الإسلام بعد حوالي ثلاثة قرون من سيادة عصر الإيمان، أي في مرحلة فتوة هذا العصر ومثَّل فيه حالة النضج بشعار “الله أكبر” الذي نزع الشرعية عن أي سلطة بما في ذلك السلطة الدينية، وعبر بهذا الشعار تعبيرا ناصعا عن روح الحرية الكامنة في رسالة التوحيد التي أسقطت العبودية الحقيقية لكل ما سوى الله.
إن الإسلام ليس نهاية التاريخ ولا هو الكلمة الأخيرة فيه، والقول بخلاف ذلك زعم باطل لا ينتمي إلى الإسلام الدين وإنما إلى الأيديولوجيا الدينية المتشبثة بدولة عصر الإيمان بتقديمها التاريخ على أنه مجرد تراكم كمي للأحداث لا يتضمن تحولات نوعية على صعيد النظام المعرفي وطرائق اشتغال العقل الإنساني ومن ثم على صعيد الدولة. والحقيقة أن الإسلام من المنظور التاريخي ليس إلا محطة كبرى في كفاح الإنسان من أجل الحرية، ومأثرته الخالدة أنه قضى على العبودية بمعناها الحقيقي، ولم يسمح حتى بعبادة الأنبياء (ما أنا إلا بشر يوحى إلي). وما تفعله الأيديولوجيا الدينية اليوم هو تكريس المؤسسة الدينية التي لا تدافع عن الإيمان، وإنما عن عصر الإيمان كنظام معرفي يكرس دولة تقبل بمرجعية رجال الدين، أو على الأقل تمنحهم مكانة متعالية على المجتمع تحجب تعاليها عليه.
كان عرب الحجاز قبل الإسلام عشائر وقبائل تتفاخر بأنسابها وأعدادها وتمارس الإغارة والفيد بعضها ضد بعض، ومع الزمن نشأ على هامش هذه العصبيات اجتماع مدني في مدينتي مكة ويثرب، وعندما اتسعت المصالح الناجمة عن تجارة الصيف والشتاء ولدت الحاجة للحد من خطر العصبيات، فكان حلف الفضول وكانت الأشهر الحرم التي لا يجوز فيها القتال والاقتتال، وقد عبر هذا عن حدوث تحولات في البنية التحتية للمجتمع أنتجت وعيا خاصا بها ومؤازرا لها، وقد تطور هذا الوعي وأنتج حالة عامة من الإحساس بالحاجة إلى بطل يزيل فوضى العصبيات وتمكين الاجتماع المدني-الذي سيقوم على الأخوة في الله-من النهوض والإقلاع. ولأن العصر من الناحية العقلية والأخلاقية هو عصر الإيمان فالبطل لا يمكن أن يكون إلا نبيا تختاره السماء. ولهذا تكاثر الحالمون بالنبوة بين الحنيفيين، وكانوا جميعا تقريبا أصحاب نزعات إصلاحية. وفي الأخير أطل النبي من مكة حاضنة الاجتماع المدني الناشئ. وبرغم أن الوعي العام كان يتوقع هذا الحدث وينتظره-بحسب ما تقوله لنا كتب السيرة النبوية-إلا أن النبي محمد بدأ نشاطه سرا، وعندما انتقل إلى العلن عارضته الزعامات العصبوية المحافظة، لا إنكارا للنبوة وإنما لأن النبوة في نظرها لا تكون ولا تستقيم إلا “لرجل من أهل القريتين عظيم” كما أشار إلى ذلك القرآن. وهذه ذهنية سلفية تحاكم نبوة النبي محمد من داخل منظومة قيمها القبائلية العصبوية دفاعا عن القرابة القديمة القائمة على الدم ضد القرابة الجديدة التي ستقوم على الأخوة في العقيدة (إنما المؤمنون إخوة).
إن القرابة الجديدة تتضمن إعادة بناء القيم على نحو مختلف يطيح بالتراتبية القديمة ويبدل تموضعات الناس وفقا لحاجات الاجتماع المدني المتجاوز للاجتماع العشائري القبلي. ففي القرابة الجديدة أصبح العبد الحبشي بلال سيدا كريما (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). وهذا يعني أن رسالة التوحيد جاءت لنصرة بلال المؤمن بالله الواحد الأحد وليس لنصرة الله القادر المقتدر الذي لا يحتاج النصرة من أحد. وحتى عندما ينتصر الاجتماع المدني الناشئ لله فإنه عمليا ينتصر لنفسه كقرابة ورهان جديدين (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). ورسالة التوحيد عندما نصرت بلال لم تنصره لأنه بلال، وإنما لما يمثله من قيمة رمزية في الاجتماع المدني الذي كان يتهيأ للانطلاق والإقلاع، وهذا ما لم تدركه الزعامات العصبوية السلفية المحافظة في مكة عندما ظلت تنظر إلى بلال كحالة ساكنة مستعبدة مجردة من حركيتها ورمزيتها الجديدة فاعتقدت أن أي مكسب يحققه بلال لابد أن تقابله خسارة بالنسبة لها، وهذا تفكير محافظ غاب عن أصحابه أن المكانة التي اكتسبها بلال في نسيج القرابة الجديدة القائمة على الإخوة في العقيدة لن تسقط عن الطرف الذي كان يستعبده إذا التحق هو الآخر بركب هذه القرابة. لذلك لم تكن ممانعة الزعامات العصبوية المحافظة رفضا للتوحيد وإنما لمضمونه الاجتماعي الثوري. وبعد فتح مكة زالت هذه الممانعة والتحق زعماء العصبيات بركب القرابة الجديدة دون أن يتخلوا عن محمولاتهم العصبوية حسبما يشير إلى ذلك حديث نسبوه إلى النبي محمد (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام).
لقد مثلت النزعة السلفية العصبوية المحافظة في مكة عامل إعاقة كبير أمام الطفرة التي كان الاجتماع المدني يتحفز لها تحت الرماد. ولتجاوز هذه الإعاقة كانت الهجرة النبوية إلى يثرب. وقد كانت هجرة من مدينة إلى مدينة وليس من مدينة إلى بادية. ولكن قبل أن يهاجر كان النبي محمد خلال ثلاثة عشر عاما مضت قد استقطب في مكة كوكبة صغيرة جدا، ولكن نوعية، من أبناء العصبيات الشباب المتحفزين للتغيير الذين شكلوا جماعة المهاجرين في يثرب وأصبحوا جزءا من نسيج اجتماعها المدني القائم على الأخوة في العقيدة بينهم وبين الأنصار.
انطلاقا من يثرب خاض الاجتماع المدني الجديد معارك عسكرية ضد الزعامات العصبوية المحافظة في مكة امتحنت خلالها الأخوة الجديدة وأثبتت صلابتها في المواجهات المفصلية الأولى في بدر وأحد والأحزاب حيث غلَّب المهاجرون قرابتهم في العقيدة مع الأوس والخزرج على قرابتهم في الدم مع قريش. ففي كل تلك المعارك ظهر أن اجتماعا مدنيا قائما على قرابة نوعية مختارة ومفكر بها قرر أن ينتصر في بيئة مكتظة بالعصبيات العشائرية القبلية. وقد انتصر بالفعل عندما كُسرت الزعامات العصبوية في فتح مكة. ومنذ تلك اللحظة اتسع مجال تكوين الاجتماع المدني الجديد الذي لم يقم على ” تماهي” الأفراد كما في مصر القديمة وإنما على ” توحدهم” في الإيمان بالله وفي الطقوس والشعائر الدينية التي عززت هذه الوحدة وعمقتها وجعلت هذا الاجتماع قادرا على تحمل أعباء الجهاد والفتوحات في ظروف صعبة.
والآن إذا أمعنا النظر في المشهد الإسلامي لعصر الإيمان سنلاحظ أن العلاقة السببية التي رأيناها في عصر الأسطورة بين القرابة والرهان والدولة قد تكررت في هذا العصر أيضا ولكن في سياق مختلف أنتج قرابة مختلفة لها رهان مختلف ونمط دولة “مطابق” له. فالقرابة قامت على الأخوة في العقيدة وليس على قرابة الدم (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا). ومن أجل التهدئة وحفظ النوع راهنت القرابة الجديدة على الإيمان بالله والخوف من عقابه والتطلع إلى ثوابه. ونمط الدولة التي شُيِّدتْ بعد فتح مكة “طابق” هذا الرهان.
ومن بديهيات الأشياء أن القرابة الجديدة (الأخوة في الله) لا تستطيع أن تبرر نفسها ما لم يعقلنها نظام معرفي يطيح بالقرابة القديمة القائمة على رابطة الدم (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). فالإسلام لم يلغ القبيلة، لاستحالة هذا الأمر من الناحية الموضوعية، لكنه غير وظيفتها ودورها بما يتسق وحاجات الاجتماع المدني الجديد. ولهذا انتزع قيمة ” الكَرَم” من سياقها القرابي القديم لصالح القرابة الجديدة. فلم يعد الكريم من ينحر إبله بسخاء كي يمجده الناس ويتسيد عليهم وإنما الكريم من يتقي الله كي يتجنب عقابه ويفوز بثوابه.
لكن ما كان بمقدور القرابة الجديدة أن تتحقق ما لم يكن الوجود الاجتماعي في الحجاز قد خضع لمتغيرات داخلية ومؤثرات خارجية تفاعلت وجعلت تحققها أمرا ممكنا. فالإسلام جاء تعبيرا عن حاجة موضوعية كانت قد تخلَّقت في الواقع وهيأت شروط انتصاره. وما لم نفهم هذا سنقع في محذور قراءة الدين بذهنية عصر الإيمان التي تنتزع الظاهرة الدينية من سياقها التاريخي وتحيل الإجابات على الأسئلة الصعبة إلى “حكمة الله”. وإذا كانت هذه الإحالة مقبولة في ذلك العصر، فإنها لم تعد كذلك في عصر العلم الذي أنتج نظاما معرفيا صار معه بمقدور الإنسان أن يتعرف على حكمة الله في نواميس الطبيعة وقوانين حركة التاريخ وتطور المعرفة.
إن انتزاع الظاهرة الدينية من سياقها التاريخي أدى إلى الخلط بين ما هو جوهري وما هو عرضي في هذه الظاهرة، بين ما هو من الإسلام الدين وما هو من المسلمين المتدينين، بين ما هو من الإيمان وبين ما هو من عصر الإيمان، بين الدين والدولة. وقد نجم عن هذا الخلط إزاحة ما هو جوهري لصالح ما هو عرضي. فالجوهري في الدين هو أن الله هو الخالق للكون المفارق له، وهو الذي ليس كمثله شيء، وهو القادر على كل شيء، وهو الذي يعلم السر وما يخفى، وهو الذي يراقب ما ظهر من أعمال العباد وما بطن، وهو الذي يبعث الناس يوم القيامة ليثيب من أحسن من عباده ويعاقب من أساء. وهذا الجوهري هو محتوى ومضمون رهان الاجتماع المدني الذي شكلت العقيدة الدينية مشتركه القرابي في عصر الإيمان. وبفضل هذا الرهان أصبح بمقدور الراعي أن يسير من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى في الطريق إلا الله (على نفسه)، والذئب على غنمه، أما البشر فلا يخشى أحدا منهم لأنهم جميعا إخوته في المشترك القرابي، ولأنهم جميعا يتوحدون معه في الرهان الذي صاغ ضمائرهم وشكل وجدانهم الجمعي. وهذا منهج تربوي وليس منهجا دولنياً. والمنهج الأول هو الذي يشكل جوهر الدين في الإسلام (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة). أما الدولة فهي من التاريخ وليس من الدين. إنها من حاجات الاجتماع المدني الذي قام على إجماع ديني، وليست أبدا حاجة من حاجات الدين. فالدين من عند الله والدولة تدبير بشري.
إن الدولة ظاهرة عامة نشأت في كل الأمكنة التي تبلورت فيها اجتماعات مدنية على اختلاف أديان الناس فيها. وفي كل مكان عبرت الدولة عن خصائص اجتماعها المدني باعتبارها تنظيمه السياسي. وفي عصر الإيمان يتعذر أن يقوم الاجتماع المدني على إجماع آخر غير الدين الذي صاغ قرابته ورهانه أيِّ كان هذا الدين. وعلى هذا الأساس لم تكن الدولة في الإسلام نتاجا مباشرا للدين ولا حاجة من حاجاته، ولا هي استثناء من القاعدة، إلا إذا كنا اليوم نضمر فتح العالم كما فعل أسلافنا في زمن امبراطوريات عصر الإيمان الذي لم يكونوا فيه بدعة من دون الناس.
إن نبي الإسلام لم يكن مؤسس دولة، ولم يبعثه الله لهذا الغرض، وإنما أسس اجتماعا مدنيا العلاقة بينه وبين الدولة كالعلاقة بين أضلاع المثلث وزواياه. ومن يرسم أضلاع المثلث لا يستطيع أن يتجنب رسم الزوايا. وقياسا على ذلك كان النبي محمد مؤسسا لاجتماع مدني قام على إجماع ديني، أما المظاهر المبكرة للدولة فقد فرضت نفسها عليه فرضا في مجتمع لم يعرف الدولة بعد. فالدولة بالنسبة لنبي الإسلام كانت عرضا. وهو في هذه الجزئية –على خلاف السيد المسيح- لم يكن بحاجة لأن “يعطي قيصر ما لقيصر”. وإذا كان التمييز الصريح بين ما هو لله وما هو لقيصر لم يمنع المسيحية من التحول إلى دولة، فإن عدم التمييز الصريح في الحالة الإسلامية لا ينهض دليلا على أن الإسلام دين ودولة. والالتحام بين الدين والدولة في الحالتين ليس من جوهر الدين، وإنما من طبيعة الاجتماع المدني الذي شيَّد قرابته في عصر الإيمان على الدين.
إن الدولة في تاريخ المسلمين هي دولة مرافقة للدين وليس ناتجة عنه. والشريعة التي طبقتها دولة المسلمين لم تكن لحفظ الدين والذود عنه، وإنما للذود عن الاجتماع المدني الذي قام على إجماع ديني وراهن على الأخوة في الدين كي يحفظ تماسك لحمته ويضمن التهدئة العامة. ومن بين الأدلة على ذلك حد الردة الذي تقدحه ضمنا مبادئ الحرية العقيدية المنصوص عليها في القرآن (أفا أنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). فهذا الحد ليس من الدين ولا من حاجاته، وإنما من حاجات الاجتماع المدني الذي قامت قرابته على رابطة دينية. فالخروج من الدين في تلك الفترة كان خروجا على أهم وشائج الاجتماع المدني وتهديدا لتماسك لحمته، وهو بمثابة الخيانة العظمى في الدولة المعاصرة. وحد الردة من منهج السلطان (دولة عصر الإيمان) وليس من منهج القرآن. ولهذا لم يرد فيه نص قرآني على خطورته، بينما وردت نصوص صريحة تمنع إكراه الناس على الإيمان. والقول بأن هذه النصوص منسوخة قول مردود عليه، لأن “الناسخ والمنسوخ في القرآن” تأويل سياسي من إخراج عصر الإيمان لا يصمد أمام محاكمات العقل المنتمي إلى عصري العقل والعلم. وعليه فالشريعة في الإسلام هي شريعة عصر الإيمان وليست شريعة كل العصور، وهي من حاجات الاجتماع المدني في ذلك العصر وليس في كل العصور. وهنا يجب التمييز بين الدين وبين الشريعة، فالدين ثابت بينما الشريعة متغيرة بتغير المجتمعات، ولا يجوز أبدا تخفيض الدين الثابت إلى شريعة متغيرة.
وما ينطبق على حد الردة ينطبق أيضا على القاعدة الفقهية الشهيرة عند “أهل السنة” التي لا تجيز الخروج على الحاكم الظالم إلا إذا ظهر منه كفر بواح. وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هذه القاعدة فإن التجاوز عن ظلم الحاكم هو إخراج سياسي. وسواء أريد بهذا الإخراج تملق الحاكم– كما يقول البعض– أو تجنب “الفتنة” التي يمكن أن تهدد سلامة الدولة واستقرار المجتمع– كما يقول البعض الآخر–فإن القاعدة المذكورة ميزت بوضوح بين فضاء الدولة وفضاء الدين وحصرت الظلم في الفضاء الأول تاركة عقاب الحاكم الظالم على الله.
أما إذا جاهر الحاكم بكفر بواح، كإنكار النبوة والبعث والحساب والعقاب، فإنه في هذه الحالة يطعن بصحة الدين من حيث هو الأساس الذي بنى عليه الاجتماع المدني قرابته ورهانه (عقده الاجتماعي)، ويقع بالتالي في محذور الصدام بين رهان الاجتماع المدني والدولة التي لا تستطيع إلا أن تكون في حالة “تطابق” مع هذا الرهان وإلا فقدت قدرتها على التعالي وفقدت بالتالي شرعيتها. لذلك من المستحيل على الدولة أن تغاير أو أن تصادم رهان الاجتماع المدني الذي أنتجها. ومن ثم لا يستطيع الحاكم في هذه الدولة أن يجاهر بشيء من هذا القبيل وإلا وقع في الخيانة العظمى وفقد حياته، وليس شرعيته فحسب. وعلى هذا الأساس لم تفعل القاعدة الفقهية المذكورة شيئا من الناحية العملية سوى أنها لم تجز الخروج على الحاكم الظالم. أما الكفر البواح فليس بمقدور الحاكم نفسه أن يأتيه.
وإذا أحسنا الظن بالفقهاء الذي صاغوا تلك القاعدة فإنهم لم يكونوا في صياغتها يدافعون عن الدين وإنما عن لحمة الاجتماع المدني الذي قام على إجماع ديني. ولو لم يكن الأمر كذلك لما ميزوا بين الظلم والكفر البواح. وهذا تمييز إجرائي لم ينفِ الكفر عن الظلم وإنما ترك عقابه على الله يوم القيامة. أما الفقهاء الذين ذهبوا مذهبا مغايرا وأجازوا الخروج على الحاكم الظالم، حتى وإن حرص على إظهار الورع الديني، فالمعروف أنهم كانوا من المعارضة الشيعية، والذي حركهم ليس فائض الدين وإنما فائض الطموح في الحكم.
إن الإخوة في العقيدة -وليس العقيدة- هي أساس انبثاق الدولة في تاريخ المسلمين. وعدم التمييز بين هذه وتلك هو المسئول عن الخلط بين الدين والدولة، ومن ثم تسييس الدين وتديين السياسة في وعي الخاصة والعامة. وقد ساعد على هذا الخلط أن انبثاق الدولة في الحالة الإسلامية كان مرافقا للدين وليس سابقا عليه كما هو الحال في الحالة المسيحية. ومع ذلك لم يستطع المسيحيون طوال عصر الإيمان أن يتجنبوا هذا الخلط لاعتقادهم حينها أن العقيدة – وليس الأخوة في العقيدة – هي أساس تحول الإمبراطورية الرومانية من وثنية إلى “مقدسة”. ولم يستطع الغرب المسيحي أن يتجاوز هذه الإشكالية إلا مع عصر العقل الذي أعاد صياغة عقله الجمعي وفقا لنظامه المعرفي.
إن الإسلام عقيدة وأمة وليس دينا ودولة. فالإسلام أنشأ أمة، أي اجتماعا مدنيا. والدولة هي نتاج طبيعي لهذا الاجتماع وليس نتاجا للدين، ولا بد أن تعبر عن اجتماع المسلمين الذي أنتجها وتعكس خصائصه إيجابا وسلبا. إنها دولة المسلمين وليست دولة الإسلام، والصراعات والحروب التي دارت حول الدولة هي صراعات وحروب المسلمين وليست صراعات وحروب الإسلام بما في ذلك حرب الجمل بين علي وعائشة وحرب صفين بين علي ومعاوية. والمعروف أن الحرب الأولى قضت على نحو عشرة آلاف مسلم وقضت الثانية على نحو سبعين ألفا، وبين من قضوا في الحربين المئات من الصحابة.
إن عدم التمييز بين ما هو من الإسلام وما هو من المسلمين يؤدي إلى تحميل الدين ما ليس من جوهر الدين. فالإسلام كدين ليس مسئولا عن مظالم الدول والحكام. وإذا كان قانون الزوال قد سرى على دولة الخلافة الإسلامية مثلما سرى على غيرها من إمبراطوريات عصر الإيمان فإنه لا يسري على الدين. فبالدين- وليس بدولة الخلافة-التقى الإنسان المسلم بربه، وسيظل ملتقيا به دون حاجة إلى دولة تحقق له هذا اللقاء. والدين بهذا المعنى حاجة روحية، وليس حاجة سياسية. لكن الاجتماع المدني الذي تأسس على رابطة الدين أضاف إليها السلطان الدولني المرافق للدين. وتلك مرحلة تاريخية يتعذر تكرارها إلا باسترجاع شروطها على صعيد عالمي، وهذا مستحيل في عصري العقل والعلم الذين تغير فيهما كل شيء بما في ذلك العقل نفسه.
الطقوس الدينية في الإسلام:
إن الأخوة في الإيمان لم تشيَّد على مجرد الإيمان النظري بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الخالق القادر على كل شيء، وإنما تعززت عمليا من خلال طقس الصلاة التي يضاعف الله أجر المؤمن الحريص على أدائها جماعة. ولنا أن نتصور أهمية هذا الطقس في شد لحمة الأخوة في العقيدة إذا علمنا أن المؤمن يصلي خمس مرات يوميا وكل صلاة مقيدة بتوقيت محدد بصرامة ابتداء من بزوغ الفجر وانتهاء بدخول الليل. والصلاة بهذا المعنى هي لصالح الإنسان كعضو في الاجتماع المدني الذي شيَّد الدين قرابته، وليس لصالح الله الذي لا تنفعه صلاة كل مخلوقاته ولا يضره شيء إن هم أجمعوا على عدم الصلاة.
لذلك نرى العقل المعاصر اليوم يميل إلى تفضيل صلاة المؤمن وحيدا بعيدا عن أعين الناس لا يرجو من صلاته إلا الله، ويميل أيضا إلى جواز الصلاة في أي وقت تستريح له نفس المؤمن. لكن وراء هذا التفضيل محاكمة عقلية صادرة عن عقل لم يعد يفكر من داخل عصر الإيمان وبتوجيه من نظامه المعرفي وإنما من داخل عصر متجاوز له معرفيا وبتوجيه من نظام معرفي مختلف يجرد العقيدة من بعدها الاجتماعي الأفقي ويختزلها في البعد الرأسي كحاجة من حاجات الإنسان كفرد يبحث عن الخلاص الفردي وليس كجماعة متآخية في العقيدة كمشترك قرابي. وعندما يحدث هذا تصبح العقيدة في بعدها الرأسي دينا خالصا لله متحررا من تدخل الدولة ومن أثر السياسة وأهواء الدنيا.
وما ينطبق على طقس الصلاة في عصر الإيمان ينطبق على كل طقوس العبادة من حيث فاعليتها في شد لحمة الأخوة في العقيدة. وهذا يؤكد أن الإسلام ” دين وأمة ” وليس ” دين ودولة”. فالإسلام هو الروح التي سرت في جسد اجتماع مدني كانت مقدماته الموضوعية قد بدأت بالتبلور. وقل مثل هذا عن كل الأديان التي غطت الخارطة الثقافية للمدنيات العالمية ولكن مع اختلافات في الدرجة وليس في النوع.
حروب الفتوحات في الإسلام:
قلنا إن الاجتماع المدني والدولة ظاهرتين متلازمتين تتعذر إحداهما بدون الأخرى. فالاجتماع المدني ينتج دولته “المطابقة” لرهانه (لعقده الاجتماعي). والدولة مستحيلة بدون اجتماع مدني تجاوز أفراده انتماءاتهم الطبيعية الموروثة وغير المفكر بها وانخرطوا في قرابة جديدة مفكر بها وتعلقوا برهان جديد (عقد اجتماعي جديد)، ومعنى هذا أن الدولة في الإسلام ليست دولة الدين وإنما دولة الاجتماع المدني الذي شيَّد الدين قرابته وقام على إجماع ديني. وتأسيسا على هذا الفهم للعلاقة بين الدولة والاجتماع المدني لم تكن حروب الفتوحات في تاريخ المسلمين حروب الإسلام الدين، وإنما حروب المسلمين الأمة. والقول بخلاف ذلك يحمِّل الدين المقدس أوزار أمته غير المقدسة التي لم تقتصر غنائم محاربيها في الأمصار المفتوحة على الصوافي والأراضي الخصبة وإنما طالت السكان الذين تحول كثير منهم إلى سبايا وعبيد وموالي. وهذا ما يعلمه جيدا خاصةُ المسلمين من مصادر معتبرة لديهم يتعذر الطعن بصحتها.
إن الدين –أي دين- لا يحتاج إلى حروب تكره الناس على اعتناقه، وقد رأينا كيف حققت المسيحية انتشارها قبل تنصُّر الإمبراطورية الرومانية واستأثرت بالقلوب والعقول مما دفع الإمبراطورية التي “صَلَبَتْ” السيد المسيح إلى الإفراط في التَّنصُّر حدَّ تأليه النبي “المصلوبْ”. وعلى هذا يجب النظر إلى حروب الفتوحات في تاريخ المسلمين على أنها حروب دولة الأمة غير المقدسة لا حروب دينها المقدس.
أما “الجهاد” –كما فهمه مسلمو زمن الفتوحات- فلم يكن سوى العقيدة القتالية التي مدت الفاتحين بروح الاقتحام ومكنتهم من تحمل أعباء الحروب في ظروف شديدة القسوة تحتاج إلى صبر وجلد وشجاعة استثنائية. وكان كل محارب قبيل كل معركة أمام أحد وعدين: إما الشهادة والجنة في الآخرة وإما نصيبه من “الغنيمة” في الدنيا. ولا أحد يستطيع أن يجزم أن دولة المسلمين كانت قادرة على التوسع الإمبراطوري لو أن الأمر اقتصر على وعد واحد هو الجنة دون الغنيمة.
إن الغنيمة في حروب الفتح كانت من بين أهم الحوافز التي وظفتها العقيدة القتالية في تجييش المحاربين. وكان هؤلاء ينحدرون من عصبيات قبلية طالما مارست الإغارة والفيد قبل الإسلام، حتى أصبحت الغنيمة مكونا مستقرا في ثقافتها. وليس صحيحا أن الإسلام المبكر محا هذه الثقافة على النحو الذي تصوره لنا الأفلام التاريخية حول حروب الفتوحات. ولكن حتى في الحالة التي تكون فيها الجنة من نصيب المحارب في جيش الفتح فإنه يذهب إليها مطمئنا على نصيب زوجه وأطفاله من بيت مال المسلمين، فضلا عن روح التكافل التي كرستها العقيدة في المجتمع.
إن “الجهاد” بالمعنى العسكري ليس فريضة دينية. والقول بخلاف ذلك يسبب حرجا كبيرا لأصحابه هذه الأيام. إننا نراهم يقدمون ويؤخرون في الكلام دون أن يقدروا على تقديم خطاب مقنع. وهم في كل ما يقولونه لا يفعلون شيئا سوى دفع تهمة الإرهاب عن أنفسهم من خلال التظاهر بدفع هذه التهمة عن الإسلام الذي لا يحتاج إلى من يدافع عنه وإنما إلى من يفهمه ولا ينسب إليه أشياء ليست من جوهره.
إن الجهاد الفريضة هو جهاد النفس باعتباره الجهاد الأكبر المعبِّر عن ماهية الدين وجوهره. وهو بحكم هذه الماهية جهاد موقَّر من كل الأمم وفي كل الثقافات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أما الجهاد الأصغر فهو في أحسن الأحوال شريعة مقيدة بعصر الإيمان. وليس من الجائز أبدا تخفيض الدين العابر للحدود إلى شريعة مقيدة بزمانها ومكانها كقطع يد السارق ورجم الزاني المحصن.
صحيح أن المسلمين الذين مارسوا حروب الفتوحات كانوا يعتقدون أنهم يفعلون ما يفعلون بهدف نشر العقيدة وكانوا في اعتقادهم هذا على حق. ونحن أيضا على حق عندما نؤكد أنهم كانوا يشيدون إمبراطورية في عصر الإيمان الذي تعذرت فيه الحدود بين التبشير الديني والتوسع الدولني. ومثلما كانت الدولة في الإسلام مرافقة للدين كان التبشير بالدين مرافقا للتوسع الدولني. وهذا ترافق عرضي وليس جوهريا. والدليل على ذلك أن المسلم اليوم يستطيع أن يمارس التبشير بالإسلام في أوروبا دون حاجة إلى قتال وفتح. وقد سبق للمهاجرين الحضارم أن فعلوا هذا في أفريقيا وشرق آسيا وأرسوا تجربة فذة وفريدة في التبشير نستريح لها كمسلمين دون أن نفكر في دروسها وعبرها.
أما ما يقال عن التضييق الذي يمارس ضد التبشير بالإسلام في أوروبا فمصدره خوف بعض الأوروبيين المبالغ فيه على الدولة العلمانية من شعار “الإسلام دين ودولة” الذي صاغه حسن البنا، وليس النبي الخاتم. وإذا كان هذا الشعار يتمتع بالجاذبية لدى أوساط واسعة في العالم الإسلامي فهذا ليس لأنه من الدين، وإنما لأن العالم الإسلامي في معظمه ما يزال واقعا تحت سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان. والأمر ليس كذلك في أوروبا التي تجاوزته إلى عصري العقل والعلم. وهذا تجاوز معرفي أسَّس لعقل جمعي أصبحت معه العودة إلى نمط دولة عصر الإيمان مستحيلة حتى وإن دخل الأوروبيون في دين الإسلام أفواجا. فعلى افتراض أن أوروبا كلها أسلمت فإن إسلامها في عصر العلم لن يتقبل شيئا من الفقه الذي أنتجه العرب والمسلمون في عصر الإيمان، كما لن يتقبل أيا من المذاهب التي تملأ الفضاءات المجتمعية في العالمين العربي والإسلامي.
نقول هذا لأن كثيرين في العالم العربي يعتقدون أنه إذا أسلمت أوروبا سيكون بمقدورنا أن نمارس عليها مركزية فقهية حتى على صعيد الدولة وقوانينها. وهذا اعتقاد خاطئ ليس له أصل في الإسلام الدين وإنما هو من مظاهر الشعور الدفين بالدونية الحضارية التي تتجلى من خلال التباهي بالإسلام كما لو كان من عناصر التفوق القومي، وليس دينا عابرا للقوميات.
والحقيقة الأولى التي يلزم لفت الانتباه إليها أن هذا التباهي موجه إلى الداخل المتأخر وليس إلى الخارج المتقدم. إنه تباهي من أجل تسكين الشعوب المقهورة وتخديرها، وعنوانه الأبرز: “الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام”. وهذه جملة طافحة بشحنة عصبوية تعبر عن خطاب قومي مشوَّه وليست من الدين الخالص. وعندما نقول “مشوَّه” فلأننا نعلم أن أصحاب هذا الخطاب يعتبرون القومية بدعة. وهي فعلا بدعة مادامت عقولنا لم تتحرر بعد من سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان.
والحقيقة الثانية التي يلزم لفت النظر إليها هي حقيقة متخيلة، لكنها لا تخلو أبدا من قيمة. وعلى هذا الأساس سنفترض أن العالم المتقدم كله اعتنق الإسلام. إن هذا–على استحالته-إذا حصل لن يكون انتصارا للمسلمين، وإنما انتصار للإسلام الدين الخالص متحررا من آثار تاريخ المسلمين عليه. وفي هذه الحالة فإن المركزية الفقهية – إذا مورست – لن يمارسها الطرف المتخلف في سلم الحضارة وإنما الطرف المتقدم. وبالتالي إذا قدر للغرب كله أن يدين بدين الإسلام خلال ال 24 الساعة القادمة فإن ما سيحدث خلال ال 24 الساعة التي تليها هو علمنة الدولة في العالمين العربي والإسلامي وليس تعميم فقه الشافعي وفتاوى ابن تيمية على الغرب باسم الشريعة الإسلامية. وفحوى هذه المعادلة أن أوروبا عندما تسلم لن تتخلى عن علمانيتها، ونحن عندما نتعلمن لن نتخلى عن إسلامنا الذي سيتضح لنا حينها أنه كدين خالص لا يتعارض مع العلمانية. وهذه معادلة صعبة على أي عقل واقع تحت سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان.
علاقة رجل الدين برجل الدولة في المشهد الإسلامي لعصر الإيمان:
إن القاعدة الفقهية التي تقول “بعدم جواز الخروج على الحاكم الظالم إلا إذا أتى منه كفر بواح” هي صياغة متحايلة على رهان الاجتماع المدني الذي قام على إجماع ديني. والصياغة الصحيحة لذلك الرهان (العقد الاجتماعي) جاءت على لسان الخليفة الأول أبو بكر الصديق عندما خاطب الاجتماع المدني قائلا: “أطيعوني ما أطعت الله فيكم”. والصياغة الأولى المتحايلة هي تعبير كثيف عن تبعية رجل الدين لرجل الدولة في المشهد الإسلامي لعصر الإسلام.
والملاحظ أن صياغة الصدِّيق لرهان الاجتماع المدني قامت على اعتبار الظلم من الحاكم خروجا على رهان الاجتماع المدني (خروج على العقد الاجتماعي). ومن الصعب علينا أن نفسر تحايل الفقهاء على صياغة الصديق تفسيرا عقلانيا ما لم ندرك أن صياغة الصدِّيق صدرت عن حاكم كان أثر العقيدة عليه أقوى من أثر الدولة التي كانت في طور تأسيسها المبكر ولم تكن حينها قد انتهت من فرض أمرها على محيطها المكتظ بالعصبيات القبلية السابقة عليها. بينما جاءت الصياغة الفقهية المتحايلة في وقت كانت فيه العصبيات العشائرية القبلية قد سطت على الدولة وصادرتها وحولتها إلى قوة قهرية متعالية على المجتمع.
لكن حتى في حال تعالي الدولة فإنها لا تستطيع أن تتجاهل رهان الاجتماع المدني الذي صاغ نمطها. والفقهاء الذين أخرجوا تلك القاعدة “المتحايلة” كانوا قد تشكلوا كطبقة وسيطة بين الاجتماع المدني والدولة (بين المحكوم والحاكم). وصار لهذه الطبقة دور مزدوج. فهي “الحارس” لرهان الاجتماع المدني والمعبر عن رهانه، من ناحية، وهي، من ناحية ثانية، تعمل على ترويض وتكييف ذلك الرهان لصالح تعالي الدولة وجنوحها إلى القهر. وهذا الدور المزدوج يعبر عن علاقة تلازم ضرورية بين نشأة هذه الطبقة وبين تعالي الدولة. فبدون تعالي الثانية يتعذر نشأة الأولى على النحو الذي ظهرت فيه لتؤدي ذلك الدور في تاريخ دولة المسلمين.
إن الدولة لا تتعالى إلا عندما تؤول سلطتها العليا إلى حاكم متغلِّب يرى في رهان الاجتماع المدني (العقد الاجتماعي) قيودا تكبله ويحتاج إلى مفاتيح لفك مغاليقها والتحلل منها. وطبقة رجال الدين هي بحكم الاختصاص من يملك هذه المفاتيح. ولهذا لم يكن لهذه الطبقة وجود في عهد الصدِّيق الذي تربى في مدرسة النبوة وصاغت العقيدة عقله وضميره فكان هو نفسه الحاكم والمعبر عن رهان الاجتماع المدني في عصر الإيمان. واجتماع هاتين الصفتين في شخصه هو أساس شرعيته. أما الحاكم المتغلب في تاريخ المسلمين فقد احتاج إلى طبقة متخصصة تضفي عليه الشرعية التي يحتاجها. وهذه الطبقة لا تستطيع أن تنهض بهذا الدور ما لم تكن قد تبوأت المكانة التي يقبل بها الاجتماع المدني في عصر الإيمان، أي ما لم تكن قد تحولت إلى إكليروس.
بعض المقارنات بين المشهد المسيحي والمشهد الإسلامي في عصر الإيمان:
في هذه المقارنات سيلاحظ القارئ وجود تشابه كبير يؤكد أن دولة المسلمين في عصر الإيمان كانت في جوهرها دولة دينية مثلها مثل دولة المسيحيين. أما الاختلافات بين نمطي الدولة في الحالتين فتنتمي إلى الشكل الذي مَوْضَعَ رجل الدين في الحالة الإسلامية لخدمة رجل الدولة، وفعل عكس ذلك في الحالة المسيحية. وعلى القارئ اللبيب أن يتأمل فيما يلي:
(1) ظهر السيد المسيح قبل أزوف عصر الأسطورة بنحو ثلاثة قرون.
(2) بشَّر السيد المسيح برسالته في ظل امبراطورية وثنية ممتدة على مساحات مترامية الأطراف.
(3) ترك السيد المسيح بعده تلاميذ (الحواريين) انتشروا في أنحاء مختلفة من أراضي الإمبراطورية الوثنية، وفي كل تلك الأنحاء ظلوا يمارسون التبشير سرا في ظروف شديدة القسوة.
(4) ترك الحواريون وراءهم جزرا كثيرة من الجماعات المسيحية التي تمارس التبشير سرا في مختلف أراضي الإمبراطورية.
(5) رغم الظروف القاسية والملاحقة والتنكيل بدا واضحا مع الزمن أن رسالة السيد المسيح تأسر القلوب والعقول وأنها إلى صعود لا يتوقف في كل مكان من أراضي الإمبراطورية الرومانية.
(6) بعد ثلاثة قرون من التبشير السري تصاعد انتشار المسيحية بين رعايا الإمبراطورية الرومانية الوثنية الأمر الذي اضطر الإمبراطور الروماني قسطنطين إلى التنصُّر وتدشين عملية تحول المسيحية إلى كنيسة – دولة.
(7) بما أن الناس في ذلك الزمان كانوا على دين ملوكهم دخل من بقي وثنيا من رعايا الإمبراطورية في المسيحية أفواجا وتحولوا إلى أمة متآخية في العقيدة كمشترك قرابي.
(8) أصبح الإيمان بالله والخوف من عقابه والتطلع إلى ثوابه رهان الأمة المسيحية على السلام والتهدئة العامة وحفظ النوع.
(9) من أجل التكيف مع رهان الاجتماع المدني (العقد الاجتماعي) تحولت الإمبراطورية الرومانية إلى “مقدسة” واكتسبت شرعية البقاء والاستمرار في عصر الإيمان بعد أن كانت وثنية تعيش حالة احتضار.
والملاحظ من هذا السرد أن السيد المسيح جاء لتأسيس أمة في ظل دولة قائمة، وفي عملية التأسيس اكتفى فقط بما هو لله، تاركا ما لقيصر-لقيصر. ولأن الأمة والدولة ظاهرتان متلازمتان تتعذر إحداهما في غياب الأخرى فقد تنصَّرت الإمبراطورية الوثنية القائمة بعد أن قطعت المسيحية أشواطا كبيرة في التبشير المؤسِّس للأمة. وما أن تنصَّرت الإمبراطورية الرومانية زالت الظروف القاسية المحيطة بالمبشرين وبالجماعات المسيحية الأولى ودخل الناس في المسيحية أفواجا.
إن تنصُّر الإمبراطورية الرومانية كان فتحا مبينا شبيها بفتح مكة في الحالة الإسلامية. وفي الحالتين كان للفتح نتائج متشابهة سلبا وإيجابا على مستوى العقيدة. وقد تمثل الجانب السلبي في فقدان العقيدة لنقائها الأول بسبب التحامها بالدولة، بينما تمثل الجانب الإيجابي في تحقيق الانتشار الواسع على المستوى الأفقي. مع ملاحظة أن هدف الانتشار في الحالتين كان التوسع الدولني الذي ما كان له أن يتم من غير غطاء عقائدي يمتلك القدرة على الحشد والتحريك والتجييش.
على عكس السيد المسيح ظهر نبي الإسلام بعد مضي ثلاثة قرون على سيادة عصر الإيمان الذي كان قد أطاح بالنظام المعرفي لعصر الأسطورة وشيَّد نظامه المعرفي الخاص. وفي ظل النظام المعرفي الجديد لم يكن نبي الإسلام بحاجة إلى معجزات كتلك التي احتاج إليها السيد المسيح. وهذا يفسر لماذا طالت معاناة الجماعات المسيحية الأولى واستمرت نحو ثلاثة قرون، قبل تنصُّر الإمبراطورية الرومانية، رغم ما نعرفه من الأناجيل ثم من القرآن عن معجزات السيد المسيح الخارقة لنواميس الكون، بينما لم تحتج طلائع المسلمين الأولى لأكثر من أربعة عقود كي تشيد إمبراطوريتها تحت راية دين خلا رسوله من أي معجزة خارقة لنظام الطبيعة.
وعلى عكس السيد المسيح أيضا ظهر نبي الإسلام في بيئة محصَّنة بقساوة ظروفها الطبيعية ولم تكن تشكل عامل إغراء لإمبراطوريات عصر الإيمان وما قبله. وهذا يفسر بقاءها في منأى عن خطر دولتي روما وفارس القويتين. وهي إلى جانب ذلك بيئة مكتظة بالعصبيات العشائرية القبلية السابقة على ظهور الدولة. ومعنى ذلك أن الإسلام – بعكس المسيحية – ظهر في بيئة خالية تماما من وجود سلطة الدولة المنظَّمة والقمعية. وهذا أهم عامل ساعد على سرعة الإقلاع.
في الحالة المسيحية تواصل انتشار العقيدة بقوة الدولة التي تنصَّرت كي “تطابق” رهان الاجتماع المدني الذي قام على إجماع ديني. أما في الحالة الإسلامية فقد ذهب الاجتماع المدني الذي قام على إجماع ديني إلى تأسيس دولة “مطابقة” لرهانه. وبما أن العصر هو عصر الإيمان فالدولة لا يمكن أن تكون إلا إمبراطورية القوة-وليس الجغرافيا-هي التي ترسم حدودها. وهذا يفسر حروب الفتوحات التي انطلقت من يثرب وغطت كامل المجال الحيوي لجزيرة العرب الممتد من العراق وبلاد الشام وفلسطين مرورا بمصر وحتى أقاصي المغرب العربي في شمال أفريقيا. والملاحظ أن هذا المجال هو المنطقة الوحيدة التي تعرَّبتْ بينما لم تفعل الفتوحات التي تجاوزته إلى مناطق أخرى خارجه شيئا أكثر من الانتشار الأفقي لعقيدة الفاتحين. لكن هذا الانتشار لم يكن أمرا هينا في زمن كان فيه الانتماء للعقيدة معيار المواطنة بالمعنى المعاصر. ولهذا السبب ظل المسيحيون الذين لم يسلموا ذميين حتى وإن تعرَّبوا. ولم يغدُ التمييز بين الناس على أساس ديني أمرا مستقبحا إلا مع النظام المعرفي لعصر العقل الذي ميز بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينة وأقام دولا قومية على أنقاض إمبراطوريات عصر الإيمان.
لقد ذهبت الإمبراطورية الرومانية الوثنية إلى المسيحية-الأمة لتحافظ على بقائها في عصر الإيمان. وفي هذا العصر نفسه ذهب الإسلام–الأمة إلى تشييد امبراطورية. في الحالة الأولى ذهبت الدولة القائمة إلى الدين ل “مطابقة” رهان الاجتماع المدني الذي تديَّن، ومع الزمن استأثر رجل الدين برجل الدولة. وفي الحالة الثانية ذهب الاجتماع المدني الذي شيَّد الدين قرابته إلى إقامة دولة، ومع الزمن استأثر رجل الدولة برجل الدين. وفي الحالتين فقد الدين نقاءه الأول بسبب التحامه بالدولة. وفي الحالتين أيضا زالت الإمبراطورية والخلافة من الوجود وبقيت المسيحية والإسلام على قيد الحياة.
لكن العلاقة بين الدين والدولة في الحالة المسيحية تأثرت في أوروبا الحديثة بعصر العقل واحتكمت لنظامه المعرفي الذي ميز بين الدولة كرمز للرابطة الوطنية وبين الكنيسة كرمز للرابطة الدينية وجعل لكل رابطة فضاء خاصا تتحرك فيه بحرية منضبطة لقانون عقلاني. وهذا إجراء ساعد الأوروبيين على الخروج من عصر الإيمان وترك لهم حرية البقاء على إيمانهم. لكن الخروج من عصر الإيمان إلى عصر العقل لم يكن سهلا وإنما عبر معارك تاريخية على أكثر من صعيد أبدى ممثلو عصر الإيمان خلالها مقاومة مستميتة دفاعا عن عصرهم كنظام معرفي وكدولة دينية.
أما العلاقة بين الدين والدولة في الحالة الإسلامية فهي اليوم علاقة فوضوية يسعى معها الحاكم – بغير حق -إلى تطويع رجال الدين، ويسعى هؤلاء – بغير حق – إلى تطويع الحاكم. وكل طرف يعتبر نفسه واجب الطاعة: الحاكم يزعم أنه “ولي الأمر”، وليس موظفا عموميا ملزما باحترام القوانين مثله مثل أي مواطن. ورجال الدين يزعمون أنهم “ورثة الأنبياء وعلماء ربَّانيون يعلمون ما ينفع الأمة وما يضرها”، وليسوا مواطنين، في زمن متغير كل مواطن فيه هو صاحب فضيلة مادام يؤدي واجبه بإخلاص. أما العلم فقد اكتسح كل مجالات الحياة وصار له مؤسسات ومراكز بحثية على امتداد الكرة الأرضية، ليس في أيِّ منها من يعترف لرجال الدين – بصفتهم رجال دين – بأي أهلية علمية، حتى على مستوى العلوم الإنسانية التي تبحث في الظاهرة الدينية كعلم اجتماع الدين وعلم الأديان المقارن.
إن العلاقة بين الدولة وطبقة رجال الدين في الحالة الإسلامية – كما تتجلى اليوم – لا يرى محتواها وشكلها الفوضويين إلا أولئك الذين تحررت عقولهم من سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان. أما غير هؤلاء فتبدو لهم هذه العلاقة على أنها امتداد طبيعي للعلاقة بين الحاكم وطبقة الفقهاء في التاريخ الإسلامي الوسيط. لكن إذا أمعنا النظر سنجد أن الأمر ليس كذلك. فالقاعدة الفقهية الشهيرة عند أهل السنة التي تقول بعدم جواز الخروج على الحاكم الظالم تنفي تماما أن تكون طبقة رجال الدين قد سعت على نحو منظم إلى تطويع الحكام لأهداف سياسية خاصة بها. وما حصل هو العكس، على نحو ما تؤكده محنة أحمد ابن حنبل. أما ما يخص فقهاء الشيعة فأمرهم مختلف لأنهم شكلوا “معارضة” صريحة ومتمردة لا تعترف بشرعية الخلفاء والسلاطين من حيث المبدأ وتعتبرهم مغتصبين لحق هم ليسوا من أهله.
إن العلاقة بين الحاكم وطبقة رجال الدين كما نراها اليوم في أقطار العالم العربي على الأقل لها تفسير مختلف تماما شديد الصلة بعصري العقل والعلم اللذين انفجرا في أوروبا ووصلت بعض شظايا انفجاريهما إلى العالم العربي الذي ما يزال يراوح في عصر الإيمان ولم يتحرر عقله الجمعي بعد من سلطة نظامه المعرفي. والدولة الوطنية عندنا هي إلى حد كبير من شظايا هذين الانفجارين. إنها دولة منقولة عن الدولة الحديثة في أوروبا. لكن النقل اقتصر فقط على الهياكل، بينما غابت تماما الرؤية التي أنشأت هذه الهياكل وبررتها. لذلك بقيت الدولة استبدادية.
والشظايا إياها أثَّرت أيضا على طبقة رجال الدين الذين يستثمرون متاحات عصري العقل والعلم، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، لتكريس عصر الإيمان كنظام معرفي ونمط دولة. لذلك أسسوا أحزابا أو انتظموا في أحزاب هي من حيث الشكل هياكل منقولة عن الظاهرة الحزبية في أوروبا، وهي من حيث المضمون عصبيات مغلقة هدفها ليس الفوز في الانتخابات لإدارة سلطة الدولة بقوانين الدولة، وإنما الاستحواذ على الدولة لنفيها بشريعة عصر الإيمان.
تختزل طبقة رجال الدين المواطن في البعد الديني وترفع شعار “كلنا مسلمون” لفرض مرجعية دينية على الدولة تمنعها من الوقوف على مسافة واحدة من كل مواطنيها حتى وإن كانوا متجانسين دينيا ومذهبيا. فشعار “كلنا مسلمون” ينفي المجال السياسي لصالح المجال الديني الذي لن يتسع في الأخير إلا لطبقة رجال الدين، نافيا المسلمين المواطنين.
صحيح أننا مسلمون، ولكن فقط من حيث موقعنا في الخريطة الدينية للمدنيات العالمية. ونحن أيضا مؤمنون من حيث علاقتنا بالله. أما من حيث علاقتنا بالدولة التي نريد فنحن مواطنون بصرف النظر عن حظنا من الإيمان الديني. فالدولة تحاسبنا على ظواهر أعمالنا، أما ضمائرنا فالله وحده من يحاسبنا عليها. ثم أن اختزال المواطن في البعد الديني هو عمليا حكمٌ عليه بالتبعية التلقائية للمؤسسة الدينية التي تريد أن تستحوذ على الشأن العام تحت شعار “الإسلام دين ودولة”. وهذا شعار يتصور الله كائنا سياسيا له أجندة لا تتحقق إلا بسلطة الدولة. وبما أن الله لن ينزل من علياه لإدارة هذه السلطة فإن طبقة رجال الدين-والإسلام السياسي عموما-هي التي ستعلو باعتبارها “المفوَّض” عن الله لإدارة الشأن العام. وهذا هو الإكليروس بألف ولام التعريف.
ثالثا: المجتمع المدني الذي أنتج نمط الدولة القومية في عصر العقل.
(1) عصر العقل هو العصر الذي دشنته العقلانية الكلاسيكية في أوروبا الحديثة ابتداء من القرن السادس عشر الميلادي. وفي هذا العصر بدأ الإنسان يفكر ليس انطلاقا من محفوظاته التي تلقاها من عصر الإيمان، وإنما على أساس المفاهيم والمقولات والمحاكمات العقلية. وأبطال عصر العقل هم الفلاسفة الذين أناروا العقول في كل أوروبا وحرروها من سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان. وإذا كان اقتصاد عصر الإيمان قد قام على الزراعة والتجارة فإن اقتصاد عصر العقل طبعهما بطابعه وأضاف إليهما التعدين والصناعة وما ترتب على ذلك من تحولات بنيوية في طبيعة المجتمع ونمط التفكير السائد وفي طبيعة الدولة ذاتها.
(2) وفي عصر العقل كفت العقيدة الدينية عن أن تكون مشتركا قرابيا وحلت محلها “المواطنة” التي بنى عليها الاجتماع المدني قرابته الجديدة.
(3) ولحفظ النوع وضمان التهدئة العامة راهن الاجتماع المدني في عصر العقل على حرية اعتقاد كل فرد مع خضوع كل الأفراد لقانون عقلاني واحد. ولهذا أصبح الاجتماع المدني لأول مرة في التاريخ اجتماعا سياسيا، وكذلك أصبحت الدولة المطابقة لرهانه دولة سياسية أبرز معالمها أولا: العلمانية، وتعني الفصل بين المجال السياسي والمجال الديني من خلال الفصل بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية، حيث الدولة هي رمز الرابطة الوطنية التي تضم كل أفراد الاجتماع المدني باعتبارهم مواطنين بغض النظر عن الجنس والعرق واللون والمعتقد، بينما أصبحت الكنيسة رمزا للرابطة الدينية. إننا إذاً أمام ثنائيتين هما: ثنائية الدولة-المواطن، وثنائية الكنيسة-المؤمن. وثانيا: سيادة القانون (حتى وإن كان جائرا)، ومعنى ذلك أن الدولة هي الطرف الوحيد الذي يحتكر امتلاك أدوات القوة وله وحده حق استخدامها وفقا للقانون.
رابعا: الاجتماع المدني الذي أنتج نمط الدولة الحديثة في عصر العلم.
(1) عندما نتحدث عن عصر العلم في السياق الذي نحن بصدده إنما نتحدث عن عصر التفكير العلمي. والتفكير العلمي المقصود هنا-كما يشرحه فؤاد زكريا-ليس تفكير العلماء المتخصصين، وإنما هو ذلك التفكير المنظم الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا.
وكل ما يشترط في التفكير العلمي هو أن يكون منظما، وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة دون أن نشعر بها شعورا واعيا، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل إن لكل شيء سببا، وأن من المحال أن يحدث شيء من لا شيء. وهذا النوع من التفكير هو الذي يتبقى في أذهاننا من حصيلة ذلك العمل الشاق الذي قام به العلماء، ومازالوا يقومون به، من أجل اكتساب المعرفة والتوصل إلى حقائق الأشياء.
والعلم، وإن كانت تفاصيله وأساليبه مجهولة لدى أغلبية البشر، قد ترك في عقول الناس آثارا لا تمحى، أعني أساليب معينة في التفكير لم تكن ميسورة للناس قبل ظهور عصر العلم، وكانت في المراحل الأولى من ذلك العصر مختلطة بأساليب أخرى مضطربة ومشوشة وقفت حائلا دون نمو العقل الإنساني وبلوغه مرحلة النضج والوعي السليم.
وهذه الأساليب التي تركها العلم في العقول يمكن أن نسميها طريقة معينة في النظر إلى الأمور، وأسلوبا خاصا في معالجة المشكلات. إنها تلك العقلية العلمية التي يمكن أن يتصف بها الإنسان العادي، حتى لو لم يكن يعرف نظرية علمية واحدة كاملة. وباختصار، هي تلك العقلية المنظمة التي تسعى إلى التحرر من مخلفات عصور الجهل والخرافة، والتي أصبحت سمة مميزة للمجتمعات التي صار للعلم فيها “تراث” له بصماته على عقول كل الناس. وما تفكير العلماء إلا الضوء الذي منه انتشرت الإشعاعات في كل الاتجاهات وإلى كل العقول.
وفي عصر العلم تقلص مجال الفلسفة وأخذ العلم يجردها من حقول تخصصها الواحد تلو الآخر حتى حولها من فاعلية عقلية فيما قبل العلم إلى فاعلية عقلية فيما بعد العلم مكتفية بالاشتغال في مجال القيم والغايات النهائية فضلا عن الأبستمولوجيا. وفي كل الأحوال أصبحت الفلسفة مرهونة بالممارسة العلمية، وغدت الثقافات المنتجة للعلم هي وحدها الثقافات المنتجة للفلسفة.
(2) هناك تداخل من نوع ما بين عصر العقل وعصر العلم، فبالإضافة إلى المسافة الزمنية القصيرة التي تفصل بينهما فإنهما يكادان أن يكونا عصرا واحدا من حيث المشترك القرابي الذي قام عليه الاجتماع المدني (الأخوة في الوطن)، ورهانه على التهدئة العامة وحفظ النوع (حرية اعتقاد كل فرد مع خضوع كل الأفراد لقانون عقلاني واحد). لكن عصر العلم قدَّم إضافات جوهرية على نمط الدولة أهمها الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان، كما وفر أدوات ومناهج البحث العلمي لكل الحقول المعرفية التي تصنف اليوم كعلوم إنسانية، وبفضل هذه الأدوات والمناهج أصبح الاجتماع المدني والدولة والعلاقة بينهما موضوعات لأبحاث تحظى نتائجها بقدر عال من الموثوقية، وبواسطة هذه المناهج وضعت تأملات ومحاكمات عصر العقل في محكات الاختبارات العلمية لإثبات صحتها أو خطئها.
(3) إن الحديث عن الدولة المدنية في عصر العلم هو حديث عن الدولة في مرحلة نضجها المدني الناجم عن نضج مدنية الاجتماع المدني الذي جاءت للتعبير عن نظامه وانتظامه. وفيما يلي عرضا لبعض تجليات هذا النضج.
التجلي الأول: الدولة المدنية دولة سياسية وليست دولة دينية أو أيديولوجية.
(1) لأول مرة في التاريخ يقوم رهان الاجتماع المدني (لحفظ النوع وضمان التهدئة العامة) على مبدأ العقد السياسي وليس الفكري. فالدستور عقد سياسي، وليس عقدا فكريا أو عقائديا. وبهذا العقد السياسي الخالص ضمن الاجتماع المدني وقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع أفراده باعتبارهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية وقناعاتهم الفكرية.
(2) في الدولة المدنية لا تقوم السياسة على علاقة روحية ولا هي مستمدة من الإيمان أو مشروطة به، وإنما تتحول إلى نظام من التوازنات بين القوى والأفراد والجماعات، أي إلى سلطة شرعية.
(3) في الدولة المدنية تقوم السياسة على تحقيق أهداف وبرامج وإنجازات عملية، معقولة وواعية وقابلة للقياس والتزمين والتنفيذ والرقابة، ولا تقوم أبدا على نشر الأفكار. ومعنى ذلك أن السياسة هنا تحولت من عملية إعلان انتماء وولاء أيديولوجي إلى عملية تأكيد حقوق ومسئوليات.
(4) تقوم المواطنة في الدولة المدنية على الاعتقاد بصلاحية العقل الإنساني كأساس للتفاهم العام، ومن ثم توجيه الجهد المدني نحو تكوين وتربية هذا العقل.
التجلي الثاني: الدولة المدنية هي دولة الأمة ودولة للأمة.
(1) ولاء المواطنين لدولة واحدة وقانون واحد مع حق التباين في الاعتقاد. فالدولة هي مركز الولاء، وليس العقيدة الدينية أو الطائفة أو الجماعة العرقية أو الحزب السياسي أو أي شيء آخر. وبغير ذلك لا تستطيع الدولة أن تكون دولة لكل مواطنيها.
(2) تقوم الدولة المدنية على الفصل بين الدين والدولة كإجراء قانوني للتخلص من الفصل الذي كان قائما بين الدولة والمجتمع في عصر الإيمان. فالفصل في الحالتين حقيقة واقعة، لكنه في عصر الإيمان كان فصلا بين المجتمع والدولة القهرية المتعالية عليه، بينما هو في عصر العلم فصل بين المجال السياسي والمجال الديني.
(3) الدولة المدنية سلطة أخلاقية ولم تعد قوة قهر وآلة عمياء متعالية على المجتمع كما كان عليه الحال في عصر الإيمان، وإلى حد ما في عصر العقل. ومعنى ذلك أنه في عصر العلم أصبح التطابق بين رهان الاجتماع المدني ونمط الدولة تطابقا حقيقيا لأول مرة في التاريخ.
(4) الدولة المدنية في عصر العلم هي دولة الرأي المدني والاجتهاد البشري. وهي بهذا المعنى هوية وماهية. بينما كانت في العصور السابقة حشدا من الناس الموحدين بالقوة القهرية.
(5) في الدولة المدنية السيادة الشعبية هي أساس قاعدة بناء القرار الإنساني الجماعي، أي لتأسيس مفهوم الدولة الجديد كدولة للأمة ودولة الأمة. والسيادة الشعبية هنا ليست مفهوما عقائديا، ولا هي نفي لسيادة الله الشاملة على الكون، وإنما هي مفهوم إجرائي.
(6) خلافا للدولة القهرية المتعالية على المجتمع لا تشعر الدولة المدنية بالقوة إلا بالخضوع للمجتمع والتفاهم معه والارتباط به. فهي تريد أن تكون، وتنطلق من مبدأ أن تكون، بمثابة التنظيم الذاتي للمجتمع، أو “المجتمع المنظم عبر الدولة” بحسب تعبير هيجل.
التجلي الثالث: الدولة المدنية دولة قانونية.
(1) في الدولة المدنية يتسم القانون بعدة خصائص جوهرية: إنه أكثر ارتباطا بالواقع الاجتماعي، وأكثر قدرة على استيعاب التجديدات النابعة من التقدم السياسي والمشاركة الاجتماعية، وأكثر موضوعية وبعدا عن التقديرات الشخصية والذاتية، وهو أيضا لا يراهن على الإيمان الفردي وخوف الفرد من الله. وهو بهذا المعنى أكثر تحديدا وقسرية. وهذا هو المقصود بالدولة القانونية وسيطرة القانون.
(2) يقوم الاجتماع المدني في الدولة المدنية على مشترك قرابي مختلف نوعيا هو أخوة الاشتراك في حقوق وواجبات واحدة وتفوقها على أخوة العقيدة المتماثلة. وهذا لا يعني إلغاء علاقة الأخوة العقيدية، وإنما يعني أن العلاقة بين المواطنين أصبحت علاقة حقوقية وقانونية.
(3) في الدولة المدنية القانون هو أداة السياسة، وليس الضمير. والقانون – على سبيل المثال – لا يشترط النزاهة فيمن يتقدم لشغل وظيفة عامة وإنما يشترط المعرفة والكفاءة. أما النزاهة فهي موجودة في بنية المؤسسة التي يعمل فيها الموظف العام. ووفقا لهذا المنطق من الممكن أن يكون الموظف العام غير نزيه، لكن وجوده في مؤسسة نزيهة يجبره على التصرف بنزاهة، وإلا وضع نفسه تحت طائلة القانون.
(4) السياسة الحديثة في عصر العلم تعطي دولة قانونية، والسياسة الدينية في عصر الإيمان تعطي شريعة دينية.
(5) الدولة المدنية يمكن اتهامها، بينما أنماط الدولة السابقة عليها لم تكن كذلك. ومعنى ذلك أن الدولة المدنية تخضع للقانون لتتطابق مع مواطنيها في هذا الخضوع، بينما أنماط الدولة السابقة عليها قامت على الغلبة والتعالي.
(6) يقوم النظام في الدولة المدنية على مشاركة الأفراد في صوغ القوانين والأطر التي تؤسس لاجتماعهم وتحدد مستقبلهم، وهذا ما لم يحدث في أنماط الدولة السابقة عليها، حيث قام النظام القديم على التسليم الأول بقوانين وقيم وقواعد وأطر جاهزة.
(7) المواطنية في الدولة المدنية تقوم على نظام يعترف بالتناقض والخلاف في المصالح الاجتماعية ويعمل على ضبط وتنظيم هذا التناقض عن طريق تطوير وسائل الحق والقانون والعلاقة التي نسميها شكلية.
التجلي الرابع: الدولة المدنية هي دولة الحرية.
(1) موضوع السياسة الحديثة في الدولة المدنية هو تنمية وإدارة الحرية. بينما كان موضوع السياسة الدينية القديمة هو تنمية وإدارة مشاعر الإيمان.
(2) مطلب الدولة الحديثة الأصلي هو الحرية. ومطلب الدولة القديمة الأصلي هو الأمن والنظام.
(3) الحرية أصل المواطنة والدفاع عنها أساس العقد السياسي الجديد الوطني.
(4) تقوم الدولة المدنية على التوظيف والاستثمار في الحرية العقيدية والسياسية، وجعل تنميتها الهدف الأول للسلطة والنظام العام. وبدون هذا التوظيف تتعذر التهدئة العامة. وذلك لأن العقد السياسي الجديد يقوم على افتراض وجود أفراد أحرار، بمعنى القدرة على التفكير الحر، دون ضغط ودون تزوير، والتمتع بإرادة حرة أيضا، أي ذات قرار فيما يتعلق بنفسها وبالمجتمع ككل.
التجلي الخامس: الدولة المدنية دولة ديمقراطية.
(1) تقوم شوكة الدولة المدنية على التنازل عن سيادتها للرأي العام وللمجتمع المدني من خلال التصويت أو الاقتراع العام.
(2) في الدولة المدنية لا تكون السياسة حقل نشاط متميز إلا بتحويل كل فرد إلى مصدر للسلطة والقرار ومرجع أخير، وذلك لأن كل النظام السياسي لا يقوم بدون الحرية.
(3) السلطة العليا في الدولة المدنية سلطة مدنية مستمدة من الرأي العام وقائمة عليه.
التجلي السادس: الدولة المدنية دولة مواطنة.
(1) الاجتماع المدني في الدولة المدنية هو مجموع المواطنين ولم يعد مجموع المؤمنين. والمشترك القرابي للاجتماع المدني هو المواطنة والخضوع لقانون واحد، وليس العقيدة الدينية. وبهذا المعنى أصبح الاجتماع المدني اجتماعا سياسيا ولم يعد اجتماعا دينيا. وتبعا لذلك أصبحت الدولة سياسية ولم تعد دولة دينية.
(2) السياسة هي الدين الخاص بالدولة المدنية، لا باعتباره بديلا للدين العقدي، ولكن كتكملة إجرائية له وضمانة لكل اعتقاد في المجتمع.
(3) المواطنة كمشترك قرابي لا ترفض الأخوة في العقيدة ولكن تحولها إلى رأسمال لعلاقة أرحب منها قائمة على المشاركة في الحقوق والواجبات الواحدة.
التجلي السابع: الدولة المدنية دولة مساواة.
(1) من فكرة المواطنية ولدت السياسة بمفهومها الجديد كتحالف وتضامن بين أناس متساوين في القيمة والدور والمكانة، بصرف النظر عن درجة إيمانهم التي لا يمكن قياسها، وبصرف النظر عن قدرتهم على استلهام المبادئ والتفسيرات الدينية.
التجلي الثامن: الدولة المدنية دولة تضامن مجتمعي حقيقي وليس شكليا.
(1) المشاركة الواعية لكل شخص- دون استثناء ودون وصاية من أي نوع- في تأسيس السلطة والشأن العام هي قاعدة التضامن والتماهي الجماعي.
(2) تعمل السياسة الحديثة في الدولة المدنية على حل مسألة التفاوت الواقعي بين المواطنين بتحويل الدولة إلى أداة لتحقيق تضامن مجتمعي حقيقي. بينما كانت السياسة في الدولة الدينية تتجاوز التفاوت الواقعي بتعميق مشاعر الرحمة والمودة بين المؤمنين.
التجلي التاسع: الدولة المدنية دولة تعددية.
(1) السياسة الحديثة تفترض التعددية والدولة المفتوحة، بينما كانت السياسة الدينية القديمة تفترض وجود العقيدة الواحدة.
التجلي العاشر: الدولة المدنية دولة مؤسسات.
(1) السياسة الحديثة تختص بتطوير الشكل كوسيلة لتنظيم المضمون، بينما تقوم السياسة الدينية على تطوير المضمون كوسيلة لتنظيم الشكل. وهذا قول قد لا يبدو واضحا بما فيه الكفاية ما لم نقم بشرح معنى “دولة مؤسسات”.
إن كلمة “مؤسسات” هي جمع “مؤسسة”. والمؤسسة هي حاصل تفاعل ثلاثة أسس هي أولا: أس البشر (الموارد البشرية) بما لديهم من معارف وخبرات ومهارات في مجال اختصاص المؤسسة التي يعملون فيها، وهي ثانيا: منظومة القيم التي اختارت الموارد البشرية أن تعمل المؤسسة من خلال الانضباط الصارم لها، ونذكر منها على سبيل المثال قيمة الشفافية؛ قيمة الإنصاف؛ قيمة الإخلاص … وغير ذلك من القيم التي يجب أن تسود في بيئة عمل المؤسسة، وهي ثالثا: قدرة الموارد البشرية أن تعمل من خلال الانضباط لمنظومة القيم التي اختارتها، أي من خلال الانضباط للنظم واللوائح التي تحتوي على تلك القيم.
إن انضباط عمل المؤسسة الصارم لمنظومة القيم المضمنة في لوائحها معناه الارتقاء بتلك القيم من مستواها الأخلاقي إلى مستواها القانوني والسياسي. فإذا أخذنا-على سبيل المثال-قيمة النظافة وحولناها إلى مادة للوعظ الديني في دور العبادة وفي وسائل الإعلام وفي المناهج الدراسية وبقينا نردد يوميا على جمهور المتلقين مقولة “النظافة من الإيمان” فإن هذا على أهميته لا يعطينا نظافة فعلية لأن “قيمة النظافة” في الوعظ الديني لم ترتقِ من مستواها الأخلاقي الاختياري إلى المستوى القانوني الإجباري، ومن أجل أن يحدث هذا الارتقاء يجب استحداث مؤسسات معنية بالنظافة في مختلف أشكالها ومستوياتها، ومع الزمن يتحول انضباط الناس لقانون النظافة الإجباري إلى ثقافة وسلوك. ولهذا قيل إن السياسة الحديثة تهتم بتطوير الشكل (البناء المؤسسي) كوسيلة لتطوير المضمون (تحويل العمل المؤسسي إلى ثقافة مجتمعية). بينما السياسة الدينية تهتم بما هو عكس ذلك.
(2) تقوم الدولة المدنية على إلغاء كل أشكال الوساطة بين المواطن الفرد والسلطة. فالقانون يجرم الوساطة ويصون الحق ويضمن الواجب. والفرد في ظل هذه الدولة يستطيع أن يحقق المكانة التي يستحقها بصرف النظر عن انتمائه الأولي.
الخلاصة: لماذا مازالت الدولة المدنية لدينا نحن اليمنيين إشكالية معرفية؟
إذا عدنا إلى العصور المعرفية الأربعة سالفة الذكر سنلاحظ أن الغرب المعاصر عبَرَ العصور الثلاثة الأولى وتجاوزها إلى العصر الرابع-عصر العلم. ومعنى ذلك أنه عرف أربعة أنماط من الدول آخرها الدولة الحديثة؛ وهذه الدولة تحديدا هي ما نطلق عليه تجاوزا الدولة المدنية. وهي وحدها، من بين أنماط الدول السابقة عليها، الدولة التي قامت فعلا على المطابقة بينها وبين رهان الاجتماع المدني. ورهان الاجتماع المدني في هذه الدولة أصبح عقدا اجتماعيا مكتوبا في صيغة دستور تعززه ثقافة مجتمعية عقلانية.
تأسيسا على ما تقدم يلاحظ أن مدنية الدولة بالمعنى المتداول اليوم هي “عملية” بدأت فعليا مع عصر العقل ولم تكتمل إلا في عصر العلم. وليس صحيحا الحديث عن دولة مدنية قبل هذين العصرين. ويترتب على ذلك أن العقل والعلم هما مرجعية الدولة المدنية الحديثة. والتفكير في الدولة المدنية في ظروف اليمن – والعالم العربي عموما – لن يستقيم ما لم يبدأ من البحث عن إجابات على الأسئلة التالية:
(1) إلى أي عصر معرفي ننتمي-نحن اليمنيين المعاصرين-من بين العصور الأربعة المذكورة (الأسطورة؛ الإيمان؛ العقل؛ العلم)؟
(2) ما نوع القرابة التي يقوم عليها اجتماعنا المدني؟ هل هي الأخوة في العقيدة أم هي الأخوة في الوطن؟ هل نحن في نظر الدولة التي نريدها “مؤمنون” أم “مواطنون”؟
(3) ما هي الرابطة التي تجمعنا في نظر الدولة التي نريدها؟ هل هي الرابطة الدينية التي تشكل المجال الديني، أم هي الرابطة الوطنية التي تشكل المجال السياسي؟ وهل الخلط بين هذين المجالين يعطي دولة مدنية؟
(4) على ماذا نراهن من أجل حفظ النوع وضمان التهدئة العامة التي بدونها تتعذر التنمية والانخراط في العمران؟ هل نراهن على “الإيمان الديني” أم على حرية اعتقاد كل فرد مع خضوع كل الأفراد لقانون واحد”؟
(5) ما هو النظام المعرفي الذي يمارس سلطته على عقولنا وطرائق تفكيرها واستدلالاتها ومحاكماتها؟ وهل هو نظام معرفي واحد أم أكثر من نظام؟
(6) هل سجالنا الراهن حول الدولة المدنية هو سجال داخل عصر معرفي واحد؟ أم هو سجال بين أكثر من عصر؟
انتهى.
كاتب ومفكر يمني