كتابات فكرية

أحمد عبده ناشر العريقي: المثقف التاجر والثائر المنسي في الكتابة التاريخية (2-2)

أحمد عبده ناشر العريقي: المثقف التاجر والثائر المنسي في الكتابة التاريخية                                                (2-2)

قادري أحمد حيدر

الاحد 28 ديسمبر 2025-

​يُجسد المناضل أحمد عبده ناشر العريقي صورة حية وجلية، بل وعملية للغاية، لذلك الجدل الخلّاق والتفاعل العميق الذي نشأ بين حركة الأحرار وقطاع المهاجرين اليمنيين.

 إن حركة الأحرار هي القوة التاريخية التي استطاعت تحويل هؤلاء المهاجرين من مجرد جماعات تعيش على هامش الأحداث، إلى متن فاعل وقوة حركية ضاربة في صميم الواقع الإمامي الذي كان يعيش حالة من التحجر والجمود والركود خارج سياق التاريخ.

 لقد نجحت الحركة في جعل المهاجرين قوة سياسية واجتماعية مهابة، فبعد أن كانوا فارّين بجلودهم وهاربين بأنفسهم من بطش أجهزة الإمامة وعسف عساكرها، تحولوا بفضل هذا التلاحم إلى قوة اجتماعية ومعنوية كبرى، غدت بمثابة القاعدة الصلبة والحاضنة الاجتماعية الحقيقية لحركة الأحرار. وقد تجلى هذا الدور الداعم والمساند في أبهى صوره من خلال الكفاح الذي خاضه أحمد عبده ناشر العريقي، بمعية إخوته من التجار الوطنيين.

​وفي هذا السياق ومحاولة سبر أغوار هذا المعنى، كتب الدكتور أحمد قايد الصائدي موضحاً:

 “فئتا التجار والحرفيين – وقد استقرتا بصورة رئيسية في المدن ومراكز المحافظات – فقد كانتا تعتبران قوتين اجتماعيتين غير مؤثرتين بالمقياس السياسي، ولم يبرز التجار كقوة سياسية ذات شأن إلا عند نشوء المعارضة الدستورية ضد حكم الإمام يحيى”(1).

 وهذا يشير بوضوح إلى لحظة الانتقال الحاسمة من مرحلة الأقوال المكتومة والمقموعة بالخوف، إلى مرحلة الحركة المنظمة القادرة على الفعل الحقيقي والتأثير المباشر في مجريات الأمور.

برز معها دور الصحيفة والمقابلة والبيان السياسي والكتاب.

​إن هذه الثنائية المتلازمة بين “الأحرار” وبين “المهاجرين” هي الصانع الحقيقي للفعل المادي والسياسي، والاجتماعي والتنظيمي، الذي قامت عليه حركة الأحرار تحت القيادة الحكيمة للأستاذين الكبيرين أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري، اللذين يمثلان رمزي الوحدة الوطنية اليمنية في تلك الحقبة المظلمة من ظل النظام الإمامي. وكان أحمد عبده ناشر العريقي، ومعه جازم الحروي، وعبده الدحان، وهائل سعيد أنعم، وشمسان عون الأديمي، وعبدالقادر علوان، ومحمد أحمد شعلان، وسلام علي ثابت الأديمي،، وسعيد علي الأصبحي،(السعودية), ومحمد عبدالله صالح الأديمي،( السعودية), وغيرهم الكثير، يمثلون العنوان الاجتماعي والمادي والتجاري البارز، وهم بحق الوجه الآخر والقيادي المساند لحركة الأحرار.

​وهذا يعني في جوهره, أي من الناحية الواقعية والعملية، أن حركة الأحرار كانت تتكون من جناحين: قيادة متمثلة في البعد الفكري والسياسي والثقافي، وبعد آخر يتمثل في الرأسمال التجاري الوطني في صورة أولئك المهاجرين الذين حولوا أموالهم وتجارتهم إلى قوة مادية وسياسية واجتماعية فاعلة، صبت في قلب حركة الأحرار. إنها جدلية اجتماعية وسياسية وطنية فريدة، كانت مدينة عدن هي نقطة انطلاقها الأولى، ومختبرها الذي تبلورت ونضجت فيه، كما كانت قاعدتها الجغرافية والديموغرافية التي احتضنت وحمت جدل تلك العلاقة بين الأحرار والمهاجرين، حتى تمددت في نطاقها الجغرافي لتصل إلى كافة بقاع الهجرة اليمنية في الخارج.

​لقد كانت عدن هي نقطة الارتكاز وبؤرة الانطلاق التي تشعبت لتصل إلى الحبشة، تلك الأرض التي ضمت كثافة هائلة من الهجرة اليمنية، وكذلك جيبوتي، وكينيا، والصومال، والسودان، ومصر التي كانت وجهة للهجرة التعليمية، وصولاً إلى أوروبا وأمريكا في مراحل لاحقة.

 كل هذه الجغرافيات الممتدة هي التي استوعبت الديموغرافيا اليمنية المهاجرة، وهي ذاتها التي تكفلت بدعم وتمويل حركة الأحرار، وفي كل هذه المحطات ستجد أسماء لامعة يقف على رأسها أحمد عبده ناشر العريقي وجازم الحروي، كنماذج فاعلة ومؤثرة في صلب العمل الوطني.

​إن القهر السياسي الممنهج، والظلم الاجتماعي والاقتصادي الصارخ، وسياسة “الجبايات” الجائرة، هي العوامل التي وحدت وجمعت بين أهداف حركة الأحرار وتطلعات المهاجرين. وهي ظاهرة تكاد تقتصر كخصوصية على الحالة اليمنية المرتبطة بطبيعة السياسة الإمامية، ومن الأهمية بمكان أن تخضع لدراسة بحثية مستقلة ومعمقة، مثلها مثل، حالة تمويل واشراف، أحمد عبده ناشر، بالاتفاق مع الشيخ المجاهد عبدالله الحكيمي، على شراء الأسلحة ونقلها للداخل الإمامي. وتشكيل خلايا فدائية مسلحة، وهو ما يتعارض حتى لا أقول يتناقض مع رؤية ومنطق تفكير الاستاذ، نعمان، في العمل السياسي السلمي.

فالإمامة ضيقت الخناق بصورة مخيفة ولا تطاق على الرعية( الشريحة العمالية الناشئة، والفلاحين، والفئات الحرفية، وطلائع المثقفين),  عبر عنف مركب يجمع بين القهر السياسي والاجتماعي، وبين الفيد الاقتصادي الذي يستبيح ثروات المجتمع والأفراد، مما أعاق بشكل كبير نشوء وتراكم أي حركة تجارية أو صناعية أولية نشطة، وهما تاريخياً؛ التجارة والصناعة، بوابة الدخول إلى الرأسمالية في صورتها الاولية، بسبب أولاً، العزلة المطبقة في الداخل، ومع العالم الخارجي، وثانياً بسبب،  أشكال الجبايات التي أرهقت المجتمع، وعوقت الاقتصاد، جبايات متعددة لا تستند إلى منطق أو شرع. وفي خضم هذا الواقع، وجد المهاجرون والأحرار في بعضهم البعض ما يوحدهم ويكمل نقصهم؛ ففقد أحدهما يعني توقف الآخر.

​والأستاذان التاجران أحمد عبده ناشر العريقي وجازم الحروي هما في تقديري، الصورة المثالية المعبرة عن جدل تلك العلاقة ووحدتها، حيث برز أحمد عبده ناشرالعريقي كواحد من أبرز رموز الكفاحية السياسية والوطنية. ورغم أن قاعدة المهاجرين كانت واسعة وشاملة، إلا أن شريحة التجار كانت الفئة الأكثر وعياً وإدراكاً، بل والأكثر تعليماً، وهي التي يمكن وصفها بـ “الشريحة المثقفة” ضمن القاعدة العريضة للمهاجرين. فقد كانوا الأكثر قدرة على الإحساس بمعاناة الناس لأنهم عاشوا المعاناة وتفاصيلها الاجتماعية والإنسانية، ومن هنا نبع وعيهم المضاعف بالأزمة اليمنية وقدرتهم على التعبير عن حقوقهم ومصالحهم كمهاجرين وتجار ومجتمع.

​وحول سيرة أحمد عبده ناشر، يذكر الباحث الدكتور أنور عباس أحمد الكمال في أطروحته للماجستير: أنه “انضم إلى صحيفة التعاون اليمنية التي أسسها الشيخ ناشر عبدالرحمن في عدن، ثم اشترك في نادي الإصلاح العربي الإسلامي الذي أسسه أحمد محمد سعيد الأصنج… وأنه أسس صحيفة في الحبشة أطلق عليها اسم هيئة الاتحاد والترقي العريقي – تأثراً بالاتحاد والترقي التركية – والتي عملت على لم شمل اليمنيين في الحبشة ومساعدة المحتاجين وتعليم أبناء اليمن في المهجر… كما كان له دور بارز في إقناع سيف الحق إبراهيم للانضمام إلى حركة الأحرار، وكان أحد كبار ممولي الحركة وهمزة الوصل بين المهاجرين في الحبشة والأحرار في عدن… وهو في الحقيقة من أنقذ حركة الأحرار من التوقف والانهيار بعد وقوع الخلافات وعودة العديد من الأحرار إلى مملكة الإمام”(2).

​ومن الملاحظ أن أولى خطواته العملية/ النضالية كانت في وقت مبكر جداً عبر العمل الصحفي في “التعاون”، ثم الانخراط في أكبر نادٍ فكري وثقافي إصلاحي في الجنوب وهو “نادي الإصلاح العربي”، وصولاً إلى تأسيس صحيفة وهيئة “الاتحاد والترقي العريقي” في أواخر الثلاثينيات. وهذا يكشف بوضوح عن توقه المعرفي والفكري المبكر للإصلاح والتغيير، وإيمانه بأن النهضة لن تتحقق إلا عبر التأسيس للهيئات الثقافية والمدنية والتنظيمية الحديثة.

​إننا أمام شخصية استثنائية جمعت بين أطراف متعددة: الصحافة، التعليم، التجارة، السياسة، والثقافة. واستطاع بعبقرية تحويل التجارة إلى قوة مادية مسخرة لمقاومة الاستبداد الإمامي والاحتلال الاستعماري، وليس في خدمتهما.

وقد بلغ تأثير أحمد عبده ناشر العريقي حداً جعل الإمام أحمد يرسل عدة برقيات ورسائل إلى الملك هيلا سلاسي يطالبه فيها بضرورة تسليمه، لكن الملك رفض ذلك الطلب، مما يعد دليلاً قاطعاً على انزعاج الإمام وإدراكه لخطورة الدور السياسي والاجتماعي العميق الذي كان يؤديه هذا الثائر في مختلف مناطق الهجرة اليمنية.

​نحن فعلاً أمام رمز من رموز الرأسمالية الوطنية الحالمة، وحركة الأحرار اليمنيين هي التجسيد الأعمق للوحدة بين المثقف والسياسي والتاجر الوطني في الداخل والمهاجر على حد سواء. فقد كان هؤلاء التجار هم الصوت السياسي الحقيقي للمهاجرين، وهو ما انعكس في نصوص دستور 1948م، وحتى في التحركات غير المكتوبة لعام 1955م.

​لقد تسبب العسف الإمامي في تحويل الفلاحين والحرفيين إلى مهاجرين مشردين، وحركة الأحرار هي التي أعادت صياغة وجودهم كقوة فاعلة. وكانت هجرتهم في البداية تمثل احتجاجاً تلقائياً غير واعٍ، لكن قيادة الأحرار التقطت هذا الخيط ” وعي الضرورة الذي يقود تدريجياً للحرية”, ووحدت المصالح تحت سقف “الإمامة الدستورية” كهدف فكري وسياسي مرحلي واستراتيجي، حيث الإمامة الدستورية هي سقفهم الأيديولوجي والسياسي، باستثناء فئة الشباب التي نادت بـ “الجمهورية” منذ أواخر الخمسينيات بقيادة الشهيد محمد أحمد نعمان ومحسن العيني، ومحمد عبدالله الفسيل.

​وكما أشار الدكتور أحمد القصير،

فقد أتاحت الهجرة لبعض الجماعات الهامشية أن تخرج من نطاق المهن التقليدية التي كانت تمارسها بحكم المولد. وهي مهن تفرض عليها أن تظل في قاع سلم التدرج الاجتماعي، ولهذا نقول إن الهجرة أدت إلى حدوث شرخ في الجمود الذي كان يفرض القيود على بعض الفئات حتى لا تتجاوز حركتها دائرة معينة (…) وقد وفرت الهجرة لهؤلاء فرصة التحرك الرأسي والانتقال من شريحة اجتماعية إلى أخرى، ويشير ذلك إلى تطور في مستوى تقسيم العمل وإلى درجة من درجات التغيير الاجتماعي” (3).

كانت مناطق الهجرة أساسه وقاعدته.

​ذلك أن الإمامة الحميدية المتوكلية كنظام حكم وسلطة لا شبيه لها في التاريخ السياسي العالمي؛ نظام مغلق على نفسه حد الجمود والتحجر والركود في التاريخ.. نظام فردي، فوق “توتاليتاري”، يجمع بين سلطة السماء والأرض، بين الديني والسياسي، في شكل تمييزي/ طائفي، عنصري؛ باختصار هو حالة “شبه سماوية مقدسة”.. نظام لا علاقة له بالحياة والعصر، ومعادٍ من حيث المبدأ ليس لفكرة التقدم الاجتماعي كلية، بل ولقضية الإصلاح المحدودة.

​إن الحكم بالحق الإلهي هو الذي برر وشرعن نهب أموال الناس عبر الجبايات و”الخطاط” و”التنافيذ”، وهو ما صنع ظاهرة الهجرة القهرية الواسعة. وكان أحمد عبده ناشر العريقي ورفاقه ( جازم الحروي، عبدالقوي الخرباشي، عبده الدحان، عبدالقادر علوان،محمد  شعلان، ومحمد أحمد الاحمدي، شمسان عون الأديمي، سعيد علي الأصبحي.. إلخ) هم الهوية الواعية لهذه الخلفية الأيديولوجية للهجرة. ولم يثق المهاجرون في شتاتهم بأحد كما وثقوا بالأستاذ النعمان، وكان أحمد عبده ناشر العريقي هو “الصندوق الأمين” لتلك الأسرار كأسماء، والأموال، حمايةً لأسرهم من انتقام الإمام.

كما حدث مع أسرة احمد النعمان، حين هرب إلى عدن مع الزبيري، عام ١٩٤٤م، حيث تم اعتقال العشرات من أفراد اسرته ووضعهم في السجون.

​وبعد نكسة 1948م، كان التجار في عدن والمهجر هم من حملوا الراية عبر “الاتحاد اليمني” بقيادة الشيخ عبدالله علي الحكيمي، وعبد القادر علوان، ومحمد شعلان، ومحمد الاحمدي، وأحمد عبده ناشر كممول وداعم لهذا التحرك من بعيد ، لمواصلة المسيرة.

 وتؤكد المصادر أن تمويل الحركة توقف تماماً أثناء سجن النعمان في حجة، ولم يعد إلا بخروجه، حيث لعب أحمد عبده ناشر العريقي دوراً محورياً في إعادة التمويل وتوسيع قاعدة الحركة.

​ويروي الأستاذ علي محمد عبده كيف أن أحمد عبده ناشر العريقي هو من أنقذ النعمان والزبيري من اليأس والرحيل عن عدن بسبب الضائقة المالية، حيث تكفل بنفقاتهما وأرسل لهما مبلغاً مالياً عاجلاً (300 روبية) مكنهما من البقاء ومواصلة النشاط وإصدار الصحف والكتب التوعوية التي فضحت نظام الإمامة (4)، من عدن ومن القاهرة.

​لقد كان أحمد عبده ناشر العريقي من أوائل من التفوا حول النعمان بوعي سياسي رفيع، ومع ذلك، حين انتصرت الثورة، تم تجاهل هؤلاء الرموز التجارية ولم يُنشر عنهم شيء، تماماً كما تم تجاهل أبناء الجنوب الذين ساندوا الحركة.

 ويذكر النعمان في مذكراته بحسرة “أن الثورة تجاهلت أحمد عبده ناشر العريقي رغم أنه من الأحرار القدامى”(5).

مع أن الرئيس عبدالله السلال كان من المقدرين لدوره ولاسمه ومكانته في قلب حركة الأحرار، وفي دعم ثورة ٢٦سبتمبر،١٩٦٢م.

​في الختام، تبقى صورته في ذهني كما رأيته في زياراتي الثلاث لدكانه؛ شخصية متوازنة، رصينة، ومشبعة بالثقافة الوطنية. لم يتحدث يوماً عن بطولاته أو ماله الذي بذله، بل ظل يحلم بدولة المواطنة والعدالة، رغم استمرار بعض أشكال الابتزاز والجبايات ضده في دكانه الصغير، حتى في سنواته الأخيرة، لم يسلم من الجبايات، وكأن ظل الإمامة الكئيب لا يزال يطارد الأحرار ويطاردنا حتى اليوم.

​للأستاذ الكبير أحمد عبده ناشر العريقي، ولكل التجار الأحرار، رموز الرأسمالية الوطنية، الخلود والسلام والوفاء.

​الهوامش:

1- أحمد قايد الصائدي: حركة المعارضة في عهد الإمام يحيى، إصدار مركز الدراسات والبحوث، صنعاء، 1983م، ص17.

2- د. أنور عباس أحمد الكمال: الأستاذ أحمد محمد نعمان ودوره في حركة الأحرار، ط(1)، 2022م، ص108.

3- د. أحمد القصير: التحديث في اليمن والتداخل بين الدولة والقبيلة، القاهرة، 2006م، ص70-71.

4- علي محمد عبده: لمحات من تاريخ حركة الأحرار اليمنيين، الجزء الأول، صنعاء، 2003م، ص246-247. بتصرف لايخل بالمعنى ولا بالسياق.

5- أحمد محمد نعمان: مذكرات أحمد محمد نعمان، تحرير د. علي محمد زيد، مكتبة مدبولي، 2004م، ص160

اقرأ أيضا: ​أحمد عبده ناشر العريقي: المثقف والرأسمالي الثائر المنسي في الكتابة التاريخية ​( ١-٢ )

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى