جولة سريعة في وجدان الشاعر الراحل قاسم بن علي الوزير

جولة سريعة في وجدان الشاعر الراحل قاسم بن علي الوزير

يوميات البحث عن الحرية .. جولة سريعة في وجدان الشاعر الراحل قاسم بن علي الوزير
- عبد العزيز البغدادي
الاثنين12مايو2025_
الثورة في فلسفة القانون لها مفهوم يمازج بين القانون والدين والسياسة، وهذا المفهوم لامسه الشاعر قاسم بن علي الوزير رحمه الله في كثير من أعماله الفكرية والشعرية، كما هو شأن الشعراء والمفكرين الذين تسكن وجدانياتهم قضايا الوطن والإنسان بعيدا عن كل أنواع التمييز العنصري.
ومضمونه أن الحق في الثورة له صفة العمومية تبعاً لكون الحق في السلطة والثروة حق عام لارتباطهما بلا جدال.
وقوام ذلك في عصرنا الحق في العدالة والحرية، ومعلوم أن الإخلال بواجبات العدالة إنما تقترفه السلطة الحاكمة دائما لأنها تمارس الاحتكار المشرعن للقوة كون القوة أداة إنفاذ القانون وقبل أن تولد دولة القانون أداة تنفيذ إرادة الحاكم الفرد يستوي في ذلك العادل من الحكام والظالم!.
وينتج عن الحق في الثورة في دولة المواطنة الحديثة حق كل من يمتلك الرؤية والقدرة في القيام بها بعيداً عن تجهيل العامة وتضليلهم وسعياً للخروج من حالة الظلم والاستبداد، وإزالة أسباب انحراف مسار الوظيفة العامة في الدولة.
وقد تطورت وظيفة سلطات الدولة شكلها وأسلوب إدارتها تاريخياً من حكم الفرد إلى حكم المؤسسة، ومن مفهوم الحاكم والمحكوم والسيد والمسود إلى مفهوم دولة القانون والمواطنة المتساوية بعد أن قدمت المجتمعات تضحيات جسام ، وتختلف المجتمعات في مدى وعيها والحفاظ على مكتسباتها والاستفادة من رؤى أبنائها وإبداعاتهم ويقاس الفارق بين المجتمعات التي تقدر قيمة أبنائها المبدعين من خلال حجم العقول المهاجرة ويبدوا أن اليمن من أقل البلدان استفادة من ذوي القدرات والكفاءات العلمية وهذا من أبرز عوامل إفقارها وأسباب ذلك ينبغي أن يكون محل بحث جاد للمؤسسات العامة والخاصة ! .
إن فقيدنا من القلائل الذين ترسخت قناعاتهم بضرورة أن تقترن الأقوال بالأفعال في كل عمل عام أو خاص!.
وتبعاً لرسوخ اعتقاده بأن المذهب الديني والسياسي الذي انطلق منه ليس مقدساً في ذاته وأن المقدس وفق كل الرؤى والفلسفات وفي البعد الإنساني المعاصر هو الإيمان المطلق بجوهر وقيمة العدالة وبأن ديمومة الثورة مفهوم يستوجب ضرورة التغيير المستمر نحو الأفضل.
هذا المبدأ ينطلق من ذات الإنسان ليتجه إلى أقصى مدى يصل إليه في هذا العالم.
أي أن الثورة الحقيقية القابلة للبقاء والرسوخ والانتشار هي التي تَعبُر من الإنسان وبالإنسان إلى رحاب الحب الواسعة والوئام والسلام، وهذا المعبر هو الذي يتوجب أن تجتمع فيه الصعوبة والسهولة على النحو الذي تذوب فيه ومن خلاله كل معاني الخير والتسامح!.
هذا المفهوم للثورة عند الشاعر مرهف الحس يبطل كل الثورات التي يرمز إليها بالمدفع والدبابة وكل أنواع أسلحة الدمار أياً كان مدى شموله والتي تجند خدمة لمذهب أو دين أو أي إيديولوجية انعزالية عنصرية !.
شعلة ثورة الحب باقية إلى الأبد إذا فهم الإنسان الحر كُنه هذه الثورة والواجبات التي تتطلبها لتكون قائدة له يستنير بها بالنجاة نحو الحياة التي تضمن كرامة الجميع وسعادتهم !.
وكل مذهب فكري أو ديني يؤمن بديمومة الثورة أي بما كان يعرف بمبدأ الخروج على الحاكم الظالم كواجب وحق في نفس الوقت لا يقصد بها اليوم إلا ثورة العلم الحديث بكل تفاصيله!.
وثورة 1948 أو ثورة الدستور حلقة مهمة من حلقات الثورة المستمرة في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية وهي أقوى دعائم ثورة 26/سبتمبر/1962 ليس فقط لأن ثورة 48 قامت على أساس نظري وموضوعي كان حينها تعبيراً عن أحدث ما وصل إليه الإنسان الباحث عن الحرية الاقتصادية والثقافية استوعبت أهمية قيام العلاقة بين السلطة والمواطن على نظرية العقد الاجتماعي مستفيدين من الثورة الفكرية الفرنسية كنواة وبداية لمشاركة المواطن في صنع القرار ، وإنما أيضاً لأن من قام بها كانوا نخبة من العلماء وفئات الشعب اليمني ، ويقصد بالعلماء آنذاك وإلى اليوم علماء الدين وفقهائه ولعل هذا المفهوم قد أصبح اليوم عائقاً لأنه يعطي الفقهاء نوع من الوصاية ويساعدهم على إعاقة حركة المجتمع .
في كل عصر تولد وتموت مصطلحات كما تولد وتموت الأفلاك والنجوم والكواكب وكل مفردات الطبيعة والكون الممتلئ دائما بالحياة والموت!.
المنبعثون من هذا المنطلق يدركون ما يفعلون ويفهمون أن التاريخ لا يتوقف وأن الثورة اليوم لها مبادئ وأهداف وقيم تختلف عما علموه وتعلموه في الأزمنة الغابرة ، أي أن مفهوم الثورة يتجدد باستمرار ، وهو ما يحتم بعدما عشناه ونعيشه من أحداث واضطرابات مست جميع الرؤى والمذاهب في الصميم ضرورة الابتعاد الجاد والحاسم عن الخلط بين الدين والسياسة في إدارة أعمال السلطات وجعل جميع الآراء المستنيرة في مختلف المذاهب مصدراً يقوم على الاختيار الحر لأفضل ما فيها من آراء يمكن الاستفادة منها وإعادة الاعتبار للعقل والاجتهاد ليكون العلم هو مرتكز بناء وتسيير الدولة .
ولكيلا يتوه الإنسان في التعميمات التي ينتج عنها في الغالب أحكام مطلقة جائرة يحرص الإنسان الحصيف على التمسك بالعقل والوعي والإحساس بالمسؤولية في كل الظروف والأحوال ويتشبث بالمبادئ التي تقرب طالب العدالة من مراده ولو نسبياً.
والخروج عن هذه القاعدة أياً كان مصدرها الفقهي والتاريخي وتفسيراتها يبعد الإنسان عن الصواب.
وفي هذا السياق يبقى الشعر أبرز أشكال التعبير المكثف عن وجدان الشاعر الثقافي الوطني والإنساني والسياسي والديني المتناسل والمتسلسل عبر التأريخ الطويل في البحث عن الدولة العادلة بمخزونه الإيجابي والسلبي صدق الباحثون أم كذبوا!.
وسيبقى الحال كما هو عليه كما يبدوا طويلاً إلى أن يتم استيعاب المعنى الإنساني لرفض الاستبداد والظلم كخلاصة لثورة إنسانية سلمية شاملة في عمق مشاعر وسلوكيات الثوار الحقيقيين وليس الذين يتخذون شعارات الثورة مطية لأحلامهم الذاتية المريضة.
وهذا ليس حُلماً في الفراغ لكنه نتاج إفساح المجال للإنسان الحركي ينموا داخل وجدان الفرد بما يعنيه من تنام الوعي المجتمعي المدرك لأهمية الاستفادة من كل مبدع.
من خلال مشاعره الإنسانية الفياضة نجد للجهاد والوطنية والثورة في شعر الفقيد قاسم بن علي الوزير معنىً إنسانياً ضمَّنه جل مرثياته.
ففي مرثاته الحزينة (أحزان الشفق) التي رثى بها المرحوم الراحل أحمد بن محمد عبد الله الوزير يقول الشاعر المرحوم قاسم بن علي الوزير واصفا ثورة 1948 ورجالاتها:
أرست على قيم الدستور يقظتها * فنورت وأنارت أقوم السبل
سارت على هديه الميمون وانطلقت * به الجماهير ملء السهل والجبل
هذا الفقيد المسجى من طلائعها * بلا ادعاء ومن روادها الأولُ
(مجموعات قاسم بن علي الوزير الشعرية – ص 190).
من حيث الواقع التاريخي معلوم المآل المأساوي لثورة 1948ولكن من الضروري كذلك قراءة الأحداث بصورة فيها القدر اللازم من الأنصاف والأمل وهو مالا يكون في مثل هذا الحدث الثوري البارز إلا من خلال مراجعة شجاعة من قبل جميع الأطراف ولكل تفاصيل الحدث والواقع البائس الذي قامت الثورة من أجل تغييره، وكذا دراسة أسباب فشل الثورة وعدم تمكنها من تحقيق أهدافها ورسوخها.
ورغم هذا المآل فقد سجلت حضورها في التأريخ وفي خبايا الصبح الذي بشر الشاعر الوزير بمقدمه في قصيدة (عودة الغريب) التي قالها في وداع سعيد رمضان :
(الصمت مضروبُ الجران على * جنباتها والقهر والغضبُ
وكما علمت فإن موعدهم * في الصبح .. إن الصبح يقتربُ
الشمسُ طالعة ويعجزهم * في صدها مهما طغى الطلبُ)
نفس المصدر السابق ص 347- 349)
ومن خلال مشاعره الإنسانية الفياضة نجد للجهاد والوطنية والثورة في شعره معنىً إنسانياً عميقاً ومكانة رفيعة ، يقول في قصيدة : مهداة لروح أحمد يحيى المداني – الفقيد الذي لم يفقد :
(أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البناء * وإن عاهدوا وفوا..وإن عزموا شدوا)
المصدر السابق ص 234).
وللإيمان عنده معنىً ثورياً وإنسانياً واضح المعالم:
(الله للأحرار ألَّف بينهم * حربُ الطغاة ونصرة الضعفاء)
وهذا المعنى ينبذ المذهبية والطائفية بكل صورها وأشكالها وهو مرض تعاني منه الدول الأكثر تخلفاً.
نعم هدف الأحرار نصرة الضعفاء وليس التحالف مع الفاسدين واتخاذ الكذب سياسة والتضليل منهجاً وفقاُ لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة أو ما يطلق عليه التقية عند فرق الباطنية!!.
والحرب المشروعة بنظر الشاعر هي الحرب الدفاعية وحدها ولا تدخل ضمنها بالتأكيد ما تطلق عليه الدول والجماعات التي تعشق الحروب وتؤل لمن يدعون الجهاد باسم نصرة المستضعفين وسلوكهم أبعد ما يكون عن الحرص على إحقاق الحق ونصرة المظلوم، وفي هذا السياق تقوم الشعوب والدول بالحروب بالحرص على معادلة القوة التي تتحقق من خلال الموازنة بين العلم وقد حرص الشاعر على أن يرمز إليها بالقلم مع السيف الذي لا يعتدي ولا يغتصب:
(صحت الشعوب على هدى قلمٍ * منهم وسيفٍ ليس يغتصب)
من قصيدة: عودة الغريب المصدر السابق ص 347).
أما في مرثاته الشجية التي نعى فيها أخته فقد عبر عن مشاعر مهتاجة ومنها هذا البيت:
(ليس في الموت ما يُخاف ولكن * قد خشيناه إذ جهلنا رحابه)
المصدر نفسه ص (444) من قصيدة – على قبرها.
إن من يرى رحاب الموت يدرك هموم الحياة كلها والتي يجب أن تتركز في السعي من أجل السلام الحقيقي الذي يبدأ من ذات كل فرد يهتم بالسلام ليشمل العالم، وهذا المفهوم هو غاية كل الثورات والمسكونين بهذا الهم يدركون معاني التضحية بكل غال ورخيص من أجل تحقيق هذه الغاية ليس بالمجازفة بالأرواح وإنما بالعلم والحكمة والوعي والثبات الصادق على الحق وقيم العدل والحرية، وبهذا المنهج ندرك معالم رحاب الموت التي أشار إليها الشاعر.
إن الشعر كائن له حياته التي تعكس حياة مبدعه ولكل مرحلة تاريخية شعرها المعبر عما وصل إليه الشاعر ومجتمعه والبيئة الأدبية من حيث الشكل والمضمون والمستوى الجمالي الذي يبعثه في النفوس!.
اقرأ أيضا للكاتب:صناعة الجهل والإعلام المتلاعب بالعقول!
