“الدولة العميقة “والاغتيالات (الرئيس الحمدي نموذجاً)

“الدولة العميقة”، والاغتيالات (الرئيس الحمدي نموذجاً)

- قادري أحمد حيدر
الاحد 12 أكتوبر 2025-
* الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي هو القائد اليمني الوحيد الذي تآمرت عليه الدولة العميقة والدولة الرسمية معًا، بتنسيق وتحالف مع السعودية، وبتنفيذٍ من شخصيات سياسية قذرة كان هو نفسه قد منحها ثقته، ورفعها إلى أعلى المناصب والمواقع.
في مقدمة هؤلاء الضابط أحمد حسين الغشمي، والضابط الصغير والقاتل التاريخي لليمنيين علي عبدالله صالح، الذي اعتلى السلطة على أنهارٍ من الدم، دم الشهيد الحمدي نفسه، ورحل عنها بالطريقة ذاتها، دون قبرٍ يُعرف له.
الخلود والرحمة لك أيها الرئيس الشهيد الخالد إبراهيم الحمدي في قلوب فقراء الوطن، واللعنة الأبدية على القتلة والخونة.
“الدولة العميقة”، والإغتيالات (الرئيس الحمدي نموذجاً)
في حديثنا عن الدولة الشرعية العلنية، والدولة العميقة، قد يتبدى للبعض أن هناك سوراً حديدياً يفصل فيما بينهما، أو أن لا علاقة وصل جامعة توحدهما.
إن القراءة السيكولائية (المدرسية)، هي من قد تدعونا أحياناً لمثل ذلك التحديد والتمييز المدرسي، والمنهجي، وهو كذلك تمييز واقعي لدور كل منهما في مجرى العملية السياسية الاجتماعية التاريخية. ولذلك، فإنه من الصعب الحديث عن أين ومتى ينتهي دور الدولة الشرعية، ومتى يبدأ الحديث عن دور الدولة العميقة، وخاصة في مثل بلادنا، ضعيفة التطور الاقتصادي والصناعي والعلمي والمؤسساتي.
حيث تتداخل أنماط التشكيلات الاجتماعية/ الاقتصادية، مع بعضها البعض.
اعتقد أن الإجابة على هكذا سؤال، أو أسئلة، تدخل ضمن دراسة الحالة، وليس هناك حكم معياري قيمي واحد للإجابة على مثل هذا السؤال. هنا تتعدد القراءات والتأويلات والإجابات معاً، وفقاً للحالة، أو للنموذج قيد الدرس والبحث.
إن الدولة العميقة “تبرر وجودها من خلال حاجة الدولة والمجتمع إلى الوصاية. وهي تعتبر نفسها الوصي على القيم الوطنية والاجتماعية، بل وحتى الاخلاقية، ضد الأعداء الداخليين والخارجيين. بل وهي أحياناً من تصطنع وهْم الأعداء الخارجيين لتبرير وتمرير شرعيتها ومشروعيتها السياسية والاجتماعية والتاريخية.
وباختصار، فإن الدولة العميقة لا تثق بالضرورة بقدرة الحكومة والدولة “وربما حتى الجيش” أو المجتمع على الحفاظ على الوطن.. وبناء على ذلك يستطيع الفاعلون داخل الدولة العميقة أن يبرروا مجموعة من الإجراءات التي يتخذونها ضد الحكومة والمجتمع والدولة، بأنها ضرورية للدفاع عن الوطن والهوية ضد الخونة، ويرافق الطابع الهلامي للدولة العميقة الاعتقاد بأن اعضاءها هم القلب النابض للأمة”(1)، هم الأصل، والدولة الرسمية الفرع.
ذلك النمط من الوعي الأيديولوجي التاريخي هو ما يقود الدولة العميقة لممارسة العديد من أشكال العنف، الذي قد يصل حد التخلص بالقتل من رئيس الدولة لأسباب عديدة داخلية وخارجية، كما تم مع الرئيس ابراهيم الحمدي. وفي مثل هذا السلوك العنفي والتآمري، نجد دولاً عديدة تشترك فيه متقدمة (أمريكا وغيرها) حالة اغتيال جون كيندي” وعشرات من قيادات الدول خارج أمريكا: “سلفادور الليندي في تشيلي، باتريس لو ممبا في الكونغو وغيرهما كثير.
وفي مثل هذه الأعمال القذرة، تشترك أحياناً البيروقراطية المدنية والعسكرية والأمنية والميليشيات، تشترك الدولة العميقة والدولة الرسمية في هكذا أعمال.
ويمكننا القول – كما سبقت الإشارة – إن هناك سمات وخصائص جوهرية مشتركة توحد، وتجمع الدولة العميقة، والرسمية. عند لحظة معينة من تماهي أو تقاطع المصالح فيما بينهما ومنها على سبيل المثال:
الظاهرة البيروقراطية أو المؤسسة البيروقراطية العابرة لكل منهما بدرجات مختلفة، وكذلك الجيش والأمن، وحتى المليشيات خارج الجيش والأمن، وسلطة المال السياسي، والإعلام، والقضاء، مع وضعنا في الاعتبار حدود التعاطي الواقعي لكل منهما. مع مثل هذه القوى، والأدوات والوسائل، ولكنها تبقى في الإطار العام جامعة لكل منهما. كما هناك عناصر ترتبط في الغالب بالدولة العميقة، مثل شيوخ القبائل، وشيوخ الدين السياسي، والجماعات الاجتماعية التقليدية، والأعراف والتقاليد، وظاهرة التفلت من سلطة القانون، وضعف ارتباطها والتزامها بقواعده الصارمة، وسعي الدولة العميقة تشكيل تجمعاتها الأمنية الخاصة بها، كما في بعض البلدان والتجارب. كما تمتاز الدولة العميقة باتساع حالة العنف في داخلها خارج القانون، وخاصة حين تستشعر الخطر من وجهة نظرها، على ما تراه تهديداً للكيان العام للمجتمع والدولة، وتشكيل مثل هذه الأشكال الأمنية غالباً ما يتم بالتنسيق مع بعض الأطراف الرسمية النافذة والمقررة، ـ اقول بعض الأطراف ـ في الدولة الشرعية، أو من خلال غض الدولة الرسمية الطرف عنها، كما كان يتم مع اغتيالات قيادات الاشتراكي، بعد قيام الوحدة مباشرة، وتهديد حياة رموزهم القيادية في وضح النهار وفي قلب العاصمة صنعاء.
ويدخل في ذلك الدور العنفي السري للدولة العميقة في صورة اغتيالات حتى بعض رموز الدولة الشرعية للتخلص من بعض الأسماء الكبيرة والمؤثرة التي قد تجدها في بعض المراحل مزعجة لها، مثل ما جرى مع: اللواء يحيى المتوكل، مجاهد أبو شوارب، د/محمد عبدالملك المتوكل، د/عبدالكريم جدبان، د/ أحمد شرف الدين. فمثل هذه الاغتيالات وعلى هذا المستوى الرفيع من الرموز السياسية والاجتماعية المحسوبة على النظام كله، لا يمكن أن تتم إلا بتواطؤ كامل على المستويين السياسي والأمني، بين الدولة العميقة والرسمية.
أما حين يطال الاغتيال رئيس دولة، بحجم ومكانة الرئيس الشهيد أبراهيم الحمدي، فإن ذلك لا يكون إلا في سياق عملية انقلابية سياسية عسكرية / أمنية، على نظام الحكم، كما كان الحال ـ كذلك ـ في بعض دول أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا. ولم تعرف اليمن ظاهرة الانقلابات السياسية التي رافقها قتل أو اغتيال رئيس الدولة إلاَّ مع حالة الإمام يحيى حميد الدين، في المرحلة الإمامية، وفي المرحلة الجمهورية مع حالتي الرئيسين: سالم ربيع علي في جنوب البلاد، وأحمد الغشمي في شمال البلاد، في الحالة الأولى تمت تصفيته –سالمين- جسدياً بالإعدام ضمن صراع سياسي حزبي على قيادة الحزب والدولة، ولكنها قطعاً عملية قتل خارج النظم الحزبية، وبتجاوز لكل التقاليد التنظيمية، وبمخالفة لقانون الدولة الرسمي، وهو في تقديري تخلص سياسي من شخص، وليس انقلاب على نظام الحكم الذي استمر كما هو. والحالة الثانية هي اغتيال الغشمي والتي ما تزال ملابسات اغتياله يكتنفها الغموض، وهي تدخل ضمن التخلص من شخص وليس انقلابا على نظام الحكم، اغتيال يدخل ضمن نطاق تصفية حسابات داخلية، أو تمهيد الطريق لصعود الحاكم الجديد، اغتيال له صلة بترتيبات سياسية داخلية/ خارجية، قد يكون منها انتهاء صلاحية ودور الرئيس المقتول. وفي الاغتيالين، تشترك الدولة الرسمية والعميقة. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن تصفية الرئيس جمال عبدالناصر بالسم، كما أشيع لاحقاً، فان التصفية /الاغتيال تمت بدرجة أساسية عبر الدولة العميقة والأجهزة الأمنية المرتبطة بها، وبالتنسيق مع المخابرات الأجنبية. ذلك أن العديد من مؤشرات موت الرئيس جمال عبدالناصر تشير إلى ذلك، وهو ما لم يكن ممكنا الحديث عنه مع الاغتيال السياسي المشهدي الذي تم مع الرئيس أنور السادات. مع هذا، قد يرى البعض، فيما نذهب إليه حول اغتيال عبدالناصر بالسم، أنه يدخل ضمن نظرية المؤامرة.
وحين نصل إلى قراءة وتحليل ظاهرة وأبعاد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، فإننا حقيقة نكون أمام حالة اغتيال لرئيس دولة، واغتيال لمشروع سياسي وطني يتصل بقضية بناء الدولة، والوحدة، وبإعادة صياغة التحالفات على صعيد المنطقة والعالم.
على أن الأمر الجوهري هنا، يِبرز ويكشف كيف أن الدولة العميقة، ورموزها يرون في أنفسهم أوصياء على المجتمع والدولة، ومن أنهم فعلياً، فوق القانون، بل وفوق الدولة. وبذلك يبررون استخدامهم للعنف، وحتى القتل لرموز الدولة الرسمية، باعتبار ذلك حماية وحفاظاً على كيان المجتمع والدولة، من خلال علاقة دعم ومساندة سياسية وأمنية ولوجستية، من دولة خارجية، حين يجدون أن مصالحهم جميعاً عرضة للانهيار والزوال.
كانت بداية الاشتباك أو الاصطدام بين الدولة العميقة ورموزها التقليديين، وبين الدولة الرسمية الشرعية في صورة الرئيس الشهيد، إبراهيم الحمدي، مع بداية سيره في إدارة أمور المجتمع والسلطة والدولة، باتجاهات معاكسة لما تأسس تاريخياً، وبداية تحركه لعمل قطيعة مع تجربة بناء الدولة البسيطة الفاشلة والعاجزة، التي سقطت تاريخياً في صورة دويلة الإمامة، وسقطت لاحقاً –فعلياً- مع قيام الجمهورية الثانية بفشل “دولة الجمهورية القبلية” أو “دولة المشايخ”، كما تسميها بعض الكتابات.
كانت البداية في إصرار الرئيس الحمدي على ضرورة البدء بالتأسيس لمشروع دولة وطنية مركزية حديثة عوضاً عن دولة “المركز” والعصبية. كان ذلك هو العنوان السياسي الوطني المركزي الذي قامت على خلفيته حركة 13 يونيو 1974م، التصحيحية، بعد أن غابت الملامح المبشرة الأولى للدولة الوطنية الحديثة، وتراجعت نهائياً حتى عما كان قائماً في فترة الحرب الجمهورية/ الملكية. وقد تجسدت ملامح وأبعاد ومظاهر ذلك الاصطدام أو الإشتباك في جملة قضايا، أهمها: إعلان مجلس القيادة، حل “مجلس الشورى” الذي كان يمثل الإطار، والإرادة السياسية والتنظيمية والتشريعية لنفوذ زعماء المشايخ، ورجال الدين السياسي، والضباط المرتبطين بهم وبالخارج / السعودية.
إضافة إلى نجاح الرئيس الحمدي في تهدئة الأوضاع الداخلية، والتوترات الأمنية والعسكرية بين الشطرين، وإحداثه شبه انفراجه سياسية، مع قوى الحركة السياسية الديمقراطية في الداخل، ورفضه اشتغال البعض لتوتير وتدمير العلاقات بين الشمال والجنوب أمنيا وعسكريا،ً وتجميده نسبياً، إن لم يكن كلياً، حالة الصراع في المناطق الوسطى من خلال “الجبهة الإسلامية”. وذلك هو ما أزعج الجماعات المتشددة في الداخل، زعماء المشايخ، ورجال الدين السياسي، وتجار الحروب من الضباط الكبار تنفيذاً لمشيئة الخارج المستفيد الأعظم من كل ذلك.
والأهم، تحركه ـ الرئيس
الحمدي ـ وسعيه لتقليص نفوذ المشيخة القبلية على وحدات وألوية الجيش، وعلى بعض مؤسسات الدولة النافذة، والعمل لربط الجيش بالحكومة من خلال ربط وزارة الدفاع بمجلس الوزراء، وإعلانه أن شهر العسل مع قوى الفساد انتهى.
إلى ذلك، كان الإعلان عن تشكيل مؤسسات سيادية للدولة، قانونية وإدارية جديدة: “اللجنة العليا للتصحيح” و”التعاونيات”، كرديف للاقتصاد الوطني “القطاع العام”، وتوجهه الجدي لإعطاء صلاحيات سياسية وقانونية وإدارية وتنفيذية لهذه الإطارات الجديدة، كشكل من أشكال تعزيز بنى مؤسسات الدولة، من خلال أشكال من الحكم المحلي، جديدة ومختلفة كلياً عما كان معمولاً به في نظام انقلاب 5 نوفمبر 1967م. كما عمل على إعادة بناء مؤسسات النظام والدولة لتمتد إلى جميع محافظات الجمهورية، وتأكيده المستمر على ضرورة بناء الجيش الوطني الحديث، وبناء الدولة الوطنية المركزية الحديثة. وكانت قضية الوحدة اليمنية وتطبيعه للأوضاع السياسية والأمنية والعسكرية بين الجنوب والشمال، هي بداية الاحتكاك والتوتر الأعظم مع بنية الدولة العميقة ورموزها في الداخل، والقوى الداعمة لها في الخارج. إضافة إلى تأسيسه لعلاقات خارجية متوازنة ومستقلة مع دول الإقليم والعالم، خارج إرادة النظام السعودي. ولا ننسى بداية حديثه وسعيه العملي لتشكيل كتلة عربية/ اقليمية تجمع دول البحر الأحمر، والقرن الإفريقي، وربط أمن البحر الأحمر بهم، وتأكيده على القرار السياسي الوطني اليمني المستقل. كما أن حديثه عن توحيد مناهج التعليم بين الشطرين، وهي خطوة جريئة وشجاعة وطنيا، تدل على إدراك عميق بدور التعليم في بناء إنسان الوطن السليم والموحد، والذي يمس في العمق توجهات السعودية، وجماعات الإسلام السياسي “الوهابي”، الذين كانوا في بداية توسعهم في إنشاء تشكيلات التعليم الديني/ المذهبي الموازي للتعليم الرسمي، “المعاهد العلمية” (2)
إن جميع هذه الخطوات كانت كفيلة باستنفار الدولة العميقة لجميع قواها في الداخل، وبتنسيق مع تحالفاتها الخارجية لمواجهة مشروع الرئيس الحمدي بالقوة، وحتى القتل، وكانت الثغرة الأمنية، أو غياب الرؤية، والحس الأمنيين عنده هو المدخل القاتل لوقف ذلك المشروع الوطني، والذي تكلل باغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، الجانب الأضعف في معادلة القوة، والذي مهد الطريق للقتل (اغتيال الجسد)، وتصفية المشروع، أقصد مشروعه السياسي والوطني بتلك الطريقة اللاأخلاقية والبشعة، والتي تعكس مدى الحقد الدفين على الرجل، ومشروعه.
إن اغتيال الرئيس الحمدي بتلك الصورة الوحشية والمنافية لكل الأعراف والتقاليد والقيم شكل ردة فعل شعبية واجتماعية ووطنية ضده، لم تجد من يلتقطها في حينه للانقضاض على عصابة القتل.
لقد توحدت جميع عناصر وقوى رموز الدولة العميقة لاغتيال الرئيس الحمدي ومشروعه السياسي الوطني، وخاصة بعد أن أقدم الرئيس الحمدي على تطبيع العلاقات مع دولة الجنوب “المارقة” و”الماركسية”، ووصوله في ذلك التطبيع حد الإعلان عن السير في الخطوات الأولى باتجاه الوحدة اليمنية، وقراره السفر إلى عدن، من أجل إتمام ذلك، وهو خط أحمر بالنسبة للسعودية، وأعوانها في الداخل.
وكان لــِ”جهاز الأمن الوطني”، بالتعاون مع المشايخ، وأعوانهم من الضباط المرتبطين بالاستخبارات العسكرية، وبالتنسيق الأمني مع السعودية، الدور المباشر والأكبر في انجاز عملية الاغتيال. ذلك أن لا أحد يجرؤ في الداخل على القيام بمثل هكذا عمل سياسي واجرامي دون ضوء أخضر من “الشقيقة الكبرى”، فقد كان الملحق العسكري السعودي/ صالح الهديان، يداوم شبه يومي في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، وله مكتب خاص به وعلى صلة مباشرة بقيادة “جهاز الأمن الوطني”.
خاصة وأن “جهاز الأمن الوطني” تم بنائه على نفقة السعودية، والمشاركة الأمنية الخارجية كانت عبر “السعودية / الأردن”، وهو من أخطر وأبشع الأجهزة التي ارتبطت بالأعمال الاجرامية القذرة ضد المعارضين في الداخل، وفي الخارج، وله صلات سياسية وأمنية بدول الجوار، وبالاستخبارات العالمية بحكم الوظيفة. بل إن حدود دوره وصلاحياته التنفيذية على مستوى الداخل اليمني كانت فوق كل التوقعات والتقديرات.. فهو منتشر في جميع مفاصل بنى ومؤسسات السلطة والدولة والمجتمع، في الريف والمدينة، وتكرس دوره وحدود صلاحياته من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، وتعمقت وتوسعت أكثر بعد حرب “المناطق الوسطى”، بحجة الدفاع عن “النظام الوطني”، ضد جماعات المقاومة المسلحة، “الجبهة الوطنية الديمقراطية” الذي درج الإعلام الرسمي على وصفهم بـــِ “المخربين”. لقد شكل “جهاز الأمن الوطني”، أحد أهم أسوأ وأبشع مكونات الدولة العميقة، والمدافع بقوة عن مصالح القوى السياسية الاجتماعية التقليدية والطفيلية، والرجعية في الداخل والخارج، وإلى اليوم ما تزال أسماء المئات من الذين تم تصفيتهم واغتيالهم أو استشهادهم تحت التعذيب أو مفقودين، يقعون تحت مسؤوليته المباشرة، وهي قضايا، وجرائم لا تسقط بالتقادم.. جهاز لم تقف حدود مهماته عند حماية النظام، بل والتدخل في كل صغيرة كبيرة في المجتمع، والسلطة، والدولة.
جهاز أمن مهمته الوقوف ضد أي محاولة اصلاحية في نظام الحكم، ومرتبط بأكثر العناصر المريضة، “السيكوباثية”، والمتخلفة قيمياً، والرجعية وطنياً.. جهاز كان أكبر من جميع مؤسسات الدولة، موصوف بالتخلف والانحطاط والإجرام.
جهاز يخشاه الوزير، وحتى رئيس الوزراء، كان على رأسه شخصية معقدة نفسياً، حقودة/ مشبعة بروح مذهبية طائفية، وهو ما لمسه جميع المعتقلين في فترة إدارته للجهاز، جهاز كان يتدخل في أمور التوظيف في جهاز الدولة، وفي اعطاء تأشيرة اصدار “الجواز”، و”البطاقة الشخصية”، وفي إعطاء “حسن السيرة والسلوك” لجميع المواطنين. فبدون تأشيرة هذا الجهاز، فإن مواطنتك ناقصة. كان يتدخل في الشأن الاقتصادي والمالي، وفي مصالح رجال الأعمال وفي التعليم وفي الإذاعة والتلفزيون، وفي قضايا الأراضي، وفي الالتحاق بالكليات العسكرية والشرطية، والإرهاب، يستجدي رضاه الجميع في مؤسسات الدول، بما فيهم الوزير، ورئيس الوزراء، تجاوز بحدود سلطاته وبإرهابه حتى ما يشاع عن فترة صلاح نصر في مصر.
لقد جمع “جهاز الأمن الوطني” الذي كان المعبر عن حضور الدولة العميقة في أزهى فتراتها التي نجدها تمتد من سنوات 70-1979م، وإلى 1994م حتى صار دولة أكبر من الدولة، وليس دولة داخل الدولة. لقد اشتغل هذا الجهاز اللاوطني، بغسيل الأموال وبالعلاقات المشبوهة مع الجماعات الإرهابية، وهو ما كشفت عنه الوثائق والتقارير الأخيرة. “التقرير التلفزيوني لقناة الجزيرة الوثائقية”، وغيره من التقارير الأمنية الدولية.
وحين صار يوازي قوة وحجم الدولة من حيث الفعل والتأثير، وخاصة بعد قيامه باغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، الذي يجب الحفاظ على سر اغتياله، كيف، وبمن؟ وعلى سر مكان الاغتيالات وسر المئات من المخفين قسرياً. ومن هنا كانت الضرورة الأمنية للتخلص منه بعد أن رأت السلطات السياسية الجديدة، أنه قد استنفذ اغراضه، وصار يشكل عبئاً على النظام الجديد/ علي عبدالله صالح: في البداية التخلص من رئيس الجهاز في عملية اغتيال علنية في شارع عام -منطقة مناخة/ حراز- وبعدها –لاحقا- تفكيكه –الجهاز- لصالح أجهزة أخرى، بعد أن أنجز أقذر وأقبح جرائمه السياسية والوطنية عبر رموزه الحاقدة والمتخلفة في الدولة العميقة، وفي الدولة الرسمية.
فعبر هذا الجهاز وأدواته، الذي كان المجسد الأعظم لمكانة الدولة العميقة والرسمية معاً في البلاد، كان اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، الذي ما تزال بعض اللمسات لعملية تنفيذ جريمة الاغتيال مخفية أو مسكوت عنها كأسماء اجرامية منفذه. على أن المستفيد الأعظم من الاغتيال صار معلوما ومكشوفاً للجميع، الدولة العميقة في الداخل، ورموز الدولة الجديدة الصاعدة، وحلفاؤها في الخارج.
وباغتيال الرئيس الحمدي طويت صفحة رجل شجاع، وبقي حلمه ومشروعه منتصبا أمامنا في مواجهة صورة كل ما يجري اليوم من صراع وحرب.
وبذلك أطوي أو أغلق ملف – الحلقة الأخيرة من القسم الأول– من قراءتي للدولة العميقة وتجلياتها في حياتنا الذي ما نزال نرى ونعيش تفاصيله في صورة الحرب الجارية، وهو القسم الثاني من القراءة لحالة الدولة العميقة في تمظهراتها المعاصرة.
الهوامش:
1-باتريك أونيل: مصدر سابق، ص85-86.
2-والمفارقة هنا أن اصدار قانون التعليم الديني، تحت مسمى “المعاهد العلمية” كان في فترة الرئيس إبراهيم الحمدي بالقانون رقم “22” لسنة 1974م بتاريخ 19/6/1974م بعد أن بقي ذلك القانون مجمداً لأكثر من سنة في إدراج الرئيس /القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري، ولم يوقعه، وكان مقدماً من القاضي/ عبدالله الحجري رئيس الوزراء، الإشارة السالفة حول القانون، والمعاهد العلمية، مأخوذة من دراسة للأستاذ/ حسن شكري حول “الأخوان المسلمين والتعليم”، منشورة في مجلة الطليعة، الصادرة عن “حزب الوحدة الشعبية”، أنظر حول ذلك، قادري أحمد حيدر كتاب “اليمن في تحولات السياسة، والسلطة والواقع: قراءة نقدية في علاقة الدين، بالسياسة، وبالسلطة، وبالمجتمع”، ط (أولى)، 2011م، مطبعة الأفاق للطباعة والنشر ص22.
اقرأ أيضا للكاتب:ثورة 14 أكتوبر.. الخلفية المسار الاستقلال (5-2)
