اخبار محليةنافذة على كتاب

الأستاذ زيد الوزير : آراء زيد وأبي حنيفة ومالك والشافعي تحولت إلى مذاهب متبوعة وبقدر ما أثرت الفكر الإسلامي أصبحت عائقًا أمام تطور الحياة

 الأستاذ زيد الوزير : آراء زيد وأبي حنيفة ومالك والشافعي تحولت إلى مذاهب متبوعة وبقدر ما أثرت الفكر الإسلامي أصبحت عائقًا أمام تطور الحياة

 مأساة التمذهب .. للأستاذ المفكر زيد الوزير  2-2

 تقديم :وضاح عبد الباري طاهر

السبت15مارس2025_

في الفصل الثاني يستعرض الأستاذ والمفكر الكبير  زيد بن علي الوزير تعريف المذهب من الناحية اللغوية والاصطلاحية. فجذر هذا المصدر (مذهب) هو الفعل: ذهب. فذهب إلى فلان: توجه. وذهب إلى قول فلان: أخذ به. وذهب في الدين مذهبًا: رأي فيه رأيًا.

ويذكر الوزير عن بعض العلماء أنَّ المذهب مجموعة من الآراء والنظريات العلمية والفلسفية ارتبط بعضها ببعض ارتباطًا يجعلها وِحدةً مُتِّسقَة. (ص25).

ويرى الوزير أنَّ آراء زيد أو أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي تحولت إلى مذاهب متبوعة على أيدي تابعين لهم، وهي بقدر ما أثرت وأخصبت الفكر الإسلامي إلا أنَّها أصبحت عائقًا أمام تطور الحياة. فلم يحصل تجديد أو إضافة؛ بل كان الانغلاق على مفاهيم معينة سِمةً تطبع مقلديهم. (ص23).

ويذهب الوزير تحت عنوان: «المذهب والتمذهب» قائلاً: “ونحن نؤمن إيمانًا لا يخالطه شك بأنَّ المذاهب خير وبركة وعطاء وإثراء للفكر وعلاج للمستجدات، وأنَّ الاجتهاد العقلي المطلق جزء من تكوينه، فإذا فقد هذا الشرط فقد أصبح المذهب (كذا وردت. والصواب: المتمذهب) تلقائيًا خارج إطار مذهبه، وأصبح متذهبًا”.

ونتفق مع ما ذهب إليه أنَّ المذاهب -كل المذاهب الإسلامية- إثراء للفكر، إلا أنَّ قوله: إنَّ الاجتهاد العقلي جزء من تكوينها، فلا يوافق عليه.

وكيف يتيسر الاجتهاد العقلي، ويكون جزءًا داخلاً في تكوين هذه المذاهب؛ والمقلد ملزم بإتباع مذهبه الذي يقتفيه وينتسب له.

وكيف يكون المتمذهب بتمسكه بمذهبه ورفضه للاجتهاد خارجًا عن إطار مذهبه، وهو ما سِعَدَ بالنسبة لهذا المذهب إلا بتقليده إياه؟!

هذا العلامة العطار تلميذ النووي اجتهد في بضع مسائل خالف فيها مذهب إمامه الشافعي، فأقيمت عليه دعوى تقضي بسفك دمه، ولولا أنَّ القاضي الحنفي قضى بحقن دمه، وأعطاه وثيقة كان يصطحبها معه خوفًا من أن يتعرض له بعض السفهاء ويقوموا بقتله.

وإذا كانت قواعد الزيدية تقول بالاجتهاد دون بقية المذاهب التي أغلقت بابه بمرسوم خليفة عباسي، إلا أنَّ مننتسبيها الذين اجتهدوا لم يسلموا أيضًا من الاضطهاد والقمع، وإنْ بصورة أخفّ عن مجتهدي المذاهب الأخرى- كما جرى على ابن الوزير، والجلال، والمقبلي، والأمير، والشوكاني.

نعم لم يدعُ أئمة المذاهب طلابهم بالجمود على آرائهم، وكانوا يحظونهم بالأخذ من حيث أخذوا.

ويتحدث زيد الوزير عن السلفية الصالحة ليميزها عن السلفية النابتة في أيامنا. فالسلفية الأولى هم الصحابة ومن أخذ عنهم من التابعين. ولا شكَّ أنَّ الصحابة كانت لهم آراء خالفَ فيها بعضُهم بعضًا، الأمر الذي انطبق أيضًا على التابعين لهم، وما صار إليه من تعدد المدارس الفقهية في البلاد الإسلامية كالحجاز ومكة والمدينة والعراق والكوفة وغيرها من الأمصار.

أمَّا السلفية الوهابية، فهي وإنْ رفعت شعار العودة للسلف، لكنها في حقيقة الأمر لا تدعو إلا لنفسها وإتباع مذهبها.

يقول زيد الوزير: “إنَّ قومًا احتكروها- الدعوة السلفية- وظنوا جهلاً- أنَّها مدرسة واحدة، واعتقدوا – خطأً – أنهم هُمْ وحدهم الذين يمثلونها، وما سواهم في ضلالٍ مبين.

والحقيقة الناصعة أنَّ (السلفية الجديدة) تحجر واسعًا عندما تدعي أنَّ المذاهب الأخرى هلاك، وأنَّ النجاة في إتباع السلف الصالح”. (ص56)

وهذا عين ما ذهبَ إليه الشهيد الدكتور محمد رمضان البوطي في كتابه «اللامذهبية أخطر دعوة تهدد الشريعة الإسلامية»، وفي هذا الأصل يلتقيان.

ويستعرض في الفصل الثالث المذاهب والفرق في اليمن، وينقل عن صاحب «طبقات فقهاء اليمن»، ابن سمرة الجعدي أنَّ مذهب الحنفية كان هو الغالب في اليمن، وكان هناك أيضًا علماء الحديث والفقه حتى ظهور مذهب الشافعي.

وذكر الوزير المالكية مظهرًا عدم علمه بتاريخ دخولها، كما يذكر الجعفرية، وأنَّ عليًّا بن الفضل كانَ جعفريًا. ويذكر عن الباحث عبد الفتاح شايف أنَّ الجعفرية كانت تنتشر في جيشان، وعدن، ولاعة، قبل وصول الهادي إلى اليمن.

ولست متأكدًا فيما إذا كان الواو الفاصلة بين عدن ولاعة أصلية أو مقحمة؛ فيكون الصواب «عدن لاعه»؛ لأنها هي التي نزلها منصور اليمن؛ ابن حوشب، واستقر بها، وبثَّ دعوته منها.

ويذكر الإباضية ومؤسسها عبد الله بن إباض التميمي، وتاريخها ابتداءً من العصر الأموي، واستيلائهم على حضرموت، ثمَّ صنعاء، فالحجاز والمدينة على يد الناطق بالحق (كذا ورد. والمعروف أنَّ لقبه طالب الحق). وهذا سبق قلم من الأستاذ الوزير. فالناطق بالحق لقب ليحيى بن الحسين الهاروني؛ أحد أئمة الزيدية ببلاد الجيل والديلم. توفي في(424هـ).

وأنت إذا صوَّبتَ النظر بين لقب الإمام الإباضي، والإمام الزيدي بانَ لك فرقَ ما بينهما، وظهرَ لك تواضع دعوى الإباضية قياسًا بالزيديِّة. فالأول: يطلب الحق، والثاني: ينطق به! وليس من يطلب الحق كمن يَدَّعِي أنه على طرف لسانه.

ولعلَّ هذا مِنْ أهمَّ المشكلات والاختلالات التي تواجه الفكر الشيعي بشكل عام. وللأمر تعلق بمسألة العصمة، والكلام حولها يطول.

وينقل عن الدكتور نايف المعروف على أنهم لا يرون اعتراض الناس بالسيف، ولكنهم يرون إزالة أئمة الجور بكل الوسائل المتاحة بالسيف أو بغيره”. (ص 72).

وهذا كلام غريب ينبغي التوقف عنده. فأيُّ وسائل متاحة في تلك العصور لتنحي أئمة الجور غير السيف؟!

إن كان أولى الناس بهذا الوصف فهم الصحابة -وهم من هم-، ومع ذلك فقد حملوا السيف على بعضهم.

أفترى الإباضية كانوا في مجتمع مدني ديمقراطي يسمح بمعارضة الحكام، ويفسح المجال للحريات، ويسمح لأي فكر أو مذهب بأن يزدهر وينتعش؟!

مَنْ اقتضى بِسوى الهندِّيِ حاجتَهُ * أجَابَ كُلَّ سؤالٍ عن هلٍ بِلَمِ

ويذكر زيد الوزير عن صاحب «غاية الأماني» انتشار الإباضية في حضرموت، وركود ريحها على يد الأيوبيين الذين قاموا بنشر مذهب الشافعي والأشعري.

والشيء المهم هو الإتيان على ذكر الإباضية في جبال الشمال. فيذكر ادعاء الحطيط بن عبد المجيد الإباضي الخلافة في القرن الخامس 496هـ، واجتماع أهل الشرف ومَنْ يليهم إليه.

ويذكر أنَّ ذا الشرفين قد وضع حدًّا لانتشار هذا المذهب في معركة المحظور (كذا وردت. ولعل الصواب: المحطور).

ويذكر عن صاحب المستطاب يحيى بن الحسين أن نِحْلة الإباضية كانت منتشرة في شظب، وبلاد الشرف. وذكر أنَّ علامة المطرفية إبراهيم الطامي الخيواني أخرجَ أهل شظب من الإباضية إلى المطرفية، وأنَّ مطرفية الشرف (كذا وردت. والصواب: إباضية الشرف) أرادت اغتياله لذلك السبب ولم تنجح.

ويذكر عن نشوان بن سعيد الحميري أنَّ منهم طائفةً مِنْ همدان في مغارب اليمن، وأنَّ إباضية حضرموت مرجعها إلى همدان. (ص75).

وعندما يأتي على ذكر الإسماعيلية، يجعل منشأها من الجعفرية؛ وهذا ما أكده المؤرخ الدكتور حسين الهمداني. ويؤرخ بدايتها وفقًا للمؤرخين بوصول منصور اليمن، وعلي بن الفضل لليمن قبل أن ينفصل الأخير عنها ويتبنى أفكار القرامطة.

ويتتبع الانشقاقات داخل المذهب الإسماعيلي، وهو ما لم تخلُ منه فرقةٌ من فرق الإسلام المتعددة.

وفي سياق يظهر عليه أثر الاضطراب والسقط، يقول: “قبيل وفاة الحاكم [683- 411هـ] انشقت عنها الدرزية، بزعامة حمزة بن علي الزوزني، بعد وفاة الإمام المستنصر [427- 4287هـ]. (ص80).

ولا شك أن هنا سقطًا. فكيف يكون انشقاق الدرزية بزعامة حمزة الزوزني قبيل وفاة الحاكم، وبعد وفاة المستنصر؟!

وخلص إلى أنَّ الدولة الإسماعيلية كانت متسامحة مع المذاهب الأخرى فلم تحرمها من أيِّ حقٍّ آخر أو تضطهدها.

ويثني على مؤرخها الدكتور العلامة حسين فيض الله الهمداني واصفًا إياه بسعة الأفق وممتدحًا هذه الفرقة بأنها: “أقرب بتكوينها العقلي منها إلى المذاهب، وأنها أثرتْ الفكر اليمني بأصناف عدة من ألوان متألقة”. (ص81).

وقد أنصف الوزير هذه الفرقة الإسلامية في كثير من كتبه وأبحاثه، وأذكر أني قرأت له عِدَّة مقالات على حلقات في مجلة «المسار» قبل عدة سنوات عن الإسماعيلية والموحدين، وقام بزيارتهم في سوريا أو لبنان.

وكان مِمَّا أثنى عليهم في أحد مقدماته هو قوله إنَّ: “الصليحين لم يكونوا يحاربون أي مذهب. حتى أعدائهم من الحسينية لم يحاربوهم، ولا تعرضوا لعقيدتهم، بالرغم من استعار المواجهات بينهم.

ويسوق نصًا عن «سيرة الأميرين الفاضلين»، فيقول: “جاء في سيرة الأميرين حوار دار بين الأمير أحمد بن المظفر الصليحي، والأمير محمد بن جعفر ما يلي يرد على ما اتُهِمَ به من كيد الصليحيين: أمَّا قولك بحياة عمنا (الحسين بن القاسم الذي تعتقد الحسينية بأنه حي لم يقتل)، فذلك قولنا واعتقادنا، وعليه تنبت لحومنا ودماؤنا، وإذا سُئِلنا عن ذلك أخبَرنا. فإنْ أمرتنا أن نرجع عن ذلك رجعنا.

قال (الأمير أحمد): لا والله ما أنا آمرك بالرجوع عن دينك. هؤلاء تحت لهوجنا: يهود، ونصارى، ومجبرة، وزيدية ما جَبرَ أحدًا منهم أحدٌ على دينه). (ص 132).

أقول: وقول الأمير محمد بن المظفر الصليحي: (تحت لهوجنا) يقصد به تحت نوافذ قصورهم. ومن شعر العارف الولي الصالح السيد محمد بن عمر النهاري صاحب الرباط بريمة:

ألا يا صاحبَ اللهَجْ * خلِّ اللهَجْ مفتوحْ

فنظرهْ مِن حبيبي * تردَّ العقلْ والرَّوحْ

ويأتي الوزير على الزيدية الهادوية ذاكرًا انتسابها لزيد بن علي في مذهب الخروج على الظلمة، وعلاقة زيد بأبي حنيفة ونصرته له بالمال، والتقارب الكبير بين المذهبين: الحنفي، والزيدي في الفروع الفقهية. وقد أكد هذا أحد علماء الأحناف عند وقوفه على مسند الإمام زيد بحسب المؤرخ يحيى بن الحسين، وهو ما أكده أيضًا العلامة الحنفي واسع الاطلاع زاهد الكوثري عند تقريضه لشرح مسند الإمام زيد «الروض النضير»، للقاضي الحسين بن أحمد السياغي (ت: 1221هـ).

ويأتي على الثورات العلوية باليمن قبيل وصول الهادي، وصراعات الهادي السياسية مع الضحاك- زعيم تحالف همدان، ومع كبير آل يعفر- ممثل الدولة العباسية في اليمن الأعلى.

ويقول: إنَّ المذهب الهادوي لم يدخل بشكل رئيس في صراع مذهبي إلا مع الباطنية الفضلية، وأنه حظي بتعاطف كبير من بقية المذاهب في صراعه مع الباطنية. (ص84).

ويأتي على ذكر مذهب الشافعي، وينقل عن يحيى بن الحسين أنَّ دخوله عام 300 على يد عمر بن محمد السكسكي. وقيل: في المئة الرابعة. وهو الأقرب نقلاً عن صاحب «غاية الأماني».

ولعلَّ من أهم مباحث الكتاب هو كلامه عن الفرق الإسلامية التي زخر بها اليمن، فكانت عوامل ثراء وعوامل شقاء في الوقت نفسه.

فيبدأ بذكر المعتزلة، ويأتي على ذكر أخذ الهادي عن أبي القاسم البلخي في علم الكلام؛ وهو أحد أئمة المعتزلة الكبار. ويقول: إنَّ هذا المذهب تعزز بقدوم كتب المعتزلة وزيدية طبرستان إلى اليمن مع زيد بن الحسن البيهقي؛ فتأثر الفكر الهادوي البلخي بالجديد القادم، ثم تعزز مرةً أخرى بعودة القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام من العراق حاملاً معه تعاليم البهشمية (نسبةً لأبي هاشم الجبائي)، ومن ثم ظهرت المعتزلة الخالصة وانتشرت.

ثم افترقت اليمن الهادوية إلى بلخية حسينية (نسبةً لأبي الحسن البصري). (كذا ورد. والصواب: أبو الحسين البصري)، وإلى بهشمية.

ويقول: إنَّ مدرسة الظاهر أتباع عبد الله بن حمزة بهشمية، فيما كان معظم علماء أهل البيت في اليمن بلخيين”. (ص88-89).

ويأتي على ذكر معتقد فرقتي الشافعية: أشعريةً وحنابلة. ويؤرخ دخول الأيوبيين اليمن حاملين معهم مقالةَ الأشعري. وميل أكثر شافعية اليمن إليه، وبقاء الآخرين على مذهب ابن حنبل الذين -كما يقول يحيى بن الحسين- يُمِّرُّون المتشابهات من غير تأويل، مع اعتقاد أنَّ الله ليس كمثله شيء، ومنهم من تأول ذلك كالأشعري ومن تابعه. وما جرى من مناظرات بين الفريقين وتكفير.

ويذكر الوزير أنَّ الصراع بين الفئتين بلغت (كذا ورد. والصواب: بلغ) درجةً لا تكاد تُصدَّق. فكان العلامة العمراني صاحب البيان وتلميذه البريمي (كذا ورد. والصواب: البريهي)؛ الشافعيان في الفروع حنابلة في الأصول- يكفران الأشاعرة، وكان العمراني يكفر ولده طاهرًا؛ لأنه أشعري، وكان طاهرٌ يكفر أباه لأنه حنبلي.

وأصل هذا المرجع الذي ينقل عنه الأستاذ زيد «المذاهب الدينية في اليمن»، يستقيه من «مطلع البدور»، للمؤرخ ابن أبي الرجال.

والله أعلم بصحة ذلك، وإلا فمؤرخو السنة يذكرون براءة العمراني من ابنه حتى تاب عن مقالته واعتذر من على ظهر المنبر برجوعه إلى مذهب أبيه.

لكن بما أنَّ حنابلة الشافعية كانوا يكفرون الأشاعرة، فتكفير الأب للابن لازمٌ له، إن لم يكن تورع ذلك لمكان القرابة القريبة بينهما، ويكون مؤرخو السنة تحرجوا من ذكر هذا، وتلطفوا في العبارة، وإمَّا أن يكون ابن أبي الرجال ساق هذا الكلام للتشنيع على الوالد وولده بسبب الخلافات المذهبية بين الفريقين.

وفي الفصل الرابع يتحدث عن الينابيع الواحدة: الهادوية والحنفية والشافعية، والهادوية والمالكية.

وفي الفصل الخامس بعنوان «المَصَابّ الواحدة» ينعى على ما أسماه بالسنية الغامضة، والشيعية الغامضة. ويقترح تحت عنوان «من أجل إلغاء التمذهب» إلغاء التسميتين المطاطتين: سنةً، وشيعة؛ لكسر احتكار التشيع في الإمام علي على فِئةٍ معينة، وكسر احتكار تمثيل النبي عليه الصلاة والسلام على فئةٍ أخرى، ومتى تمَّ ذلك تحطمت سدود التباعد بين الفئتين. (ص127).

وهو كلام في غاية الاتزان والمعقولية. فعلى الناس أن يقتصروا على تسمية الله لهم بـ(المسلمين).

وفي الفصل السادس تناول عوامل التقريب. فيذكر أنَّ الإمام علي بن صلاح لم يَحُلْ مذهبه الزيدي دون الاستفادة الإدارية من ذوي الكفاءات، وذلك بتعيين أبي الحسن علي بن يحيى العمراني، وهو شافعي المذهب الوزارة.

ويتحدث عن العلامة الشافعي القاضي عبد القادر النزيلي، وأخذه عن علماء الزيدية عبد الله بن علي الوزير، والحسن بن الحسين. وخطابته للمتوكل أيام خلافته، وقربه منه بحيث أنه كان نجيًّا له ومستودعًا لأسراره، وقيامه بدور سياسي حاسم بالصلح بين إمامين زيديين. (ص129).

ويذكر دور الحب الإنساني في كبح جماح العصبية بين أهل المذاهب؛ بل والأديان أيضًا؛ حيث يذكر أبياتًا كانَ يظن أنها للوالد القاضي الأديب الشاعر الكبير إبراهيم الحضراني، لكنه قال: إنه لم يجدها في ديوانه «الغصون الدواني»، وهي:

وغادةٍ سمراءَ عانقتُها * مِنْ مغربِ الشمسِ إلى الفجرِ

ألثمها في الثغرِ والنحرِ والصـ* درِ وفي النهدينِ والخصْرِ

قد نلتُ منها ما يريدُ الهوى * من دونِ ما فُحْشٍ ولا عُهْرِ

وعندما قمنا نُصلي معًا * نطلبُ عفوَ الخالقِ البرِّ

قالت: أزيديٌ؟! لقد قلت لي * قلت: نعم في النهي والأمرِ

قالت تضمُّ اليدَ في ذِلَّةٍ* وترفعُ الكفَّ إلى النَّحرِ

قلتُ لأني شافعيُّ الهوى * مذهبيَ الضمُّ إلى الصدرِ

ولا شك أنَّ صلاة هذين العاشقين التي أقاموها قد صارت إلى معنىً آخر؛ هو الاتصال الجسماني بين محبين مختلفين مذهبًا، مٌتَّحِدَيْن رُوحًا وعاطفةً.

وإذا كانت الصلاة في معناها المشهور تعني اتصال الإنسان بربه، فإنَّ الصلاة في هذا السياق تعني اتصال الإنسان بنفسه. وإذا كانت الصلاة الأولى هي العلة الغائية لخلق الإنسان، فالثانية هي التي تعيد إيجاده وخلقه وتوحده بنفسه. وما أظنُّ ابنَ الفارض يذهب إلا إلى هذا المعنى، لا الوحدة المعروفة عند أهل التصوف حين قال:

لها صلواتي في (المقامِ) أقيمُهَا * وأشهدُ فِيها أنَّها لي صلَّتِ

كِلانا مُصَلٍّ واحدٌ ساجدٌ إلى* حقيقتهِ بالجمعِ في كُلِّ سَجْدةِ

ولستُ أستبعد، بل يترجح لديَّ أنْ تكون الأبيات للقاضي الشاعر إبراهيم الحضراني -رحمه الله- لأنَّ ما جمعه وقام بإصداره الأستاذ الأديب أحمد الشامي من شعر صديقه الحضراني في ديوان «القطوف الدواني»، عام 1991- لا يشمل شعر الحضراني كله.

وقد قام الأستاذ الناقد عبد الودود سيف بإكمال ما بدأ به الشامي سنة 1999، ولم يتيسر له إلا تجميع اثنين وعشرين نصًا قام بنشرها من البريد الأدبي، ثم تلا ذلك العمل ما قام به الأستاذ الأديب علوان الجيلاني؛ حيث جمعَ الأعمال التي سبقته، وأفردَ القصائد التي عثر عليها، وتحتوي على اثنين وعشرين نصًا أفردها في القسم الثالث من الديوان الذي أصدره عام 2004، ونُشِر عن وزارة الثقافة والسياحة.

وقد ذكر الأستاذ الجيلاني في مقدمة ديوان الحضراني: “أنَّ الحضراني من أهم شعراء اليمن وأغزرهم إنتاجًا على مر العصور. فهو ليس مُقِلاًّ -كما قد يتوهم البعض-، ولكنه مهمل. وهذا أهم عيوب الحضراني”. وهذا أيضًا ما اشتكى منه الأستاذ أحمد الشامي.

ويقسم الجيلاني شعر الحضراني الضائع إلى ثلاثة أقسام:

1- ضائع ميئوس منه تمامًا.

2- ضائع في حكم الميئوس منه؛ وهو الشعر الذي يعتقد الحضراني أنه يتناثر بين كتبه القديمة أو يتوزع عند بعض أصدقائه.

3- ضائع في حكم الموجود، لكنَّ البحث عنه يحتاج إلى وقت وإمكانيات. (ديوان الحضراني، جمع وتحقيق وتقديم علوان مهدي الجيلاني، ص 43، و 49، و 50).

الأمر الثاني: هو أنَّ أصل هذا البيت للقاضي العلامة يوسف بن علي الكوكباني (ت: 1116هـ)، ومنه يُشتمَّ أنه اقُتبسَ من غيره من فقهاء السنة: شافعيًّا أو مالكيًّا. فالشافعية يضمون في صلاتهم، والمالكية يرسلون أيديهم فيها.

والبيتان هما:

عاتبني في ضمِّهِ مالكي * لمَّا غدا مُعتزلَ الهجرَ

فقلتُ أنا شافعيُّ الهوى * مذهبيَ الضمُّ إلى الصدرِ

(نفحات العنبر، لإبراهيم بن عبد الله الحوثي: 3/ 587).

وغير خافٍ أنَّ الحضراني، وإنْ كان في هذا المعنى مسبوقًا ومتبِّعًا، إلا أنه زادَ عليه وأربى وأجادَ غاية الإجادة؛ إذ لا مقارنةَ بين هذين البيتين والأبيات التي قالها.

ومِمَّا يرجح نسبتها للأستاذ إبراهيم هو ظن الأستاذ زيد نسبتها إليه أول الأمر، ولا شك أن لظنه أسبابًا وجيهة جعلته يذهب إلى هذا؛ فقد يكون حفظ هذه الأبيات عن طريق المذاكرة أيام حداثته، أو قرأها في أحد الأوراق التي كان يكتب فيها الأستاذ إبراهيم قصائده، إلا أنَّ ظنه تبددَ حين لم يجد هذه الأبيات في ديوان «القطوف الدواني». وقد سبق عدم الاعتماد والتعويل على مثل هذا الرأي، والبقاء على الأصل الأول، وهو ثبوت نسبتها له. والله أعلم.

وفي الفصل السابع، وتحت عنوان «عوامل التعرية والجفاف»، يشير إلى أنَّ منع الاجتهاد العقلي شكل مأزقًا لهذه المذاهب، واقترح حلولاً لها عن طريق ما أسماه بالقواعد.

فكما أنَّ الزيدية حلَّت العقائد الأصولية بالاجتهاد العقلي، فقد حلَّت المأزق الفقهي بالقواعد التي عبر عنها القاضي العلامة الحسين بن أحمد السياغي في كتابه «قواعد المذهب الزيدي وتطوره»، فيذكر أنَّ مذهب الزيدية مرَّ بتطورات كثيرة حتى استقرَّ فيما أطلق عليه بـ «القواعد»؛ وهي مواد ثابتة تشكل معيارًا تُقاس به أفكار المذاهب الأخرى؛ فما وافق القاعدة أخذَ به بغض النظر عن رأي المذهب الهادوي نفسه”. (ص138).

والفصل الثامن: «تمذهب لا مذاهب»، والتاسع: «جرائر التمذهب. التمذهب: هدف السياسة، وجريمة التاريخ».

والفصل العاشر: «الأسباب والدوافع» يتحدث عن الأسباب الاقتصادية والسياسية، وفي الأخير يتحدث عن دور الاستعمار البريطاني، والأتراك، والمعارضة السياسية التي تلعب بنيران التباينات المذهبية.

وفي الحقيقة أنّ كُلَّ من ذكرهم جاؤوا على أمور قد ترسخت، وعداوات قد اضطرمت بفعل عوامل كثيرة موضوعية يأتي على رأسها الحكم وفساده، فعملوا على تكريس هذه الاختلافات، وساعدوا على إثارتها.

و في الخاتمة:

يقول: “لتكن الشافعية أكثرية، والزيدية أقلية، والإسماعيلية الأقل؛ فما في ذلك من بأس. ولستُ أدري بأي عقلية أو بأي منطق أن يصبح المذهب التعبدي الذي يدعو إلى الأخوة (إنما المؤمنون أخوة). [الحجرات: 10]، قائم على التفرقة والتمزيق. ولست أدري أيضًا بأيِّ عقلية أو بأي منطق أن يصبح التفكير بالأقلية في الأسرة الواحدة موجودًا.

ما الذي يمنع أن يكون رئيسَ الدولة شافعيًّا، إذا كان كفوًا لمنصبه؟ وما الذي يمنع الإسماعيلي أن يكون كذلك إذ كان كفوًا لمنصبه؟

إنَّ الجمهورية الحقيقية لا تمنع من ذلك، بل تدعو إليه. ولا يمكن أن ينسجم وضع مذهبي مشتعل مع جمهورية حقيقية”. (207-208).

ويوصي قائلاً: “على الوحدويين الديمقراطيين بالذات أن يعملوا ما وَسِعَهُم الجهد على إقامة المؤسسات الديمقراطية، واعتماد الكفاءة منهجًا وحيدًا بلا مراعاة لمنطقة، ولا لمذهب، بل ولا واقع قُوى متجذرة”. (ص 204).

  اقرأ أيضا:مأساة التمذهب .. للأستاذ المفكر زيد الوزير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى