نحو «حلف فضول» عصري
د. يوسف الحسن } في عالم اليوم، ما يثير القلق، ويهدد بالانزلاق نحو الفوضى والعنف والكراهية، ويزداد العالم، وبخاصة مجتمعات الأديان والمعتقدات، تعقيدًا واضطرابًا وتنابذًا وخوفًا متبادلاً، لا القوي بقادر على وقف التدهور، حتى ولو كان راغباً، ولا الضعيف بقابل لتهميشه، أو معترف بفشله، ولا المارق مستعد للتنازل عن غطرسته، وعن هدم المعبد فوق رأسه ورؤوس الجميع. } دول ونظم وعقائد وديانات وثقافات ومصالح، تتصارع ولا تتحاور، وتضيق أمكنة ومساحات التفاهم، إخفاقات وتصدعات، وإفراط في عسكرة الحلول. والصراع هو القاعدة السائدة، وهدر الإمكانيات والموارد وتخريب البيئة، هو السلوك الحياتي، حتى التحالفات صارت لا تعرف المرونة، وثورة الاتصالات عطلت أثر المسافات، وتجاوزت العلاقات التقليدية، وانتشرت ثقافة «تويترية» خالية من المضمون النافع والتأمل والبحث الجاد، ثقافة الانفعال السطحية والتعصب. } نحن الآن، في عالم جديد بقيمه وأعرافه وثقافته وآلياته وتفاعلاته، أنماط جديدة في السلوك السياسي لدول متزايدة في العالم، تمرد على النظام الدولي الراهن، وتمرد على عولمة متوحشة خرجت على كل المعايير «وزرعت ألغاماً» قابلة للانفجار، في كل مكان مرت به كما يقول جميل مطر. } وبرزت أيضاً سلطة «شبكات التواصل الاجتماعي» ومؤشرات تدل على ميل نحو الولاءات الضيقة، وساهم في ذلك، هذا المد الهائل غير المسبوق من اللاجئين والمهاجرين، والخوف من الآخر المختلف ديناً أو ثقافة أو عرقاً..الخ. } كان هذا المشهد، يسيطر على تفكيري، وأنا أشارك في مؤتمر عقد مؤخراً في أبوظبي، وضيوفه والمتحدثون فيه هم أعضاء «القافلة الأمريكية للسلام». والتي تسعى إلى نشر «رسالة السلام من خلال بناء الثقة والتعاون بين الأديان». } تحتضن الإمارات، مثل هذه المبادرات الإنسانية، وتدعمها في نشر رسالتها، وبناء الثقة والتفاهم والاحترام المتبادل بين أتباع الديانات السماوية والمعتقدات المعتبرة الأخرى. } وقد أجريت خلال هذا المؤتمر، حوارات مع بعض أعضاء هذه القافلة، من مسلمين ومسيحيين ويهود وحرصت على التأكيد على أن الحوار لابد أن ينطلق من احترام حق الآخر في اعتقاده، كما أن الحوار لا يستقيم، بغير احترام الخصوصيات والمشاعر والرموز والمقدسات لكل دين ومعتقد، ووقوف أطراف الحوار معاً ضد أي امتهان أو ظلم يلحق بأي طرف، أياً كان مصدره. } وتذكرت، أثناء حواري مع أحد قادة هذه القافلة من القياديين المسلمين، وثيقة «حلف الفضول»، ببعدها الإنساني والتاريخي، والتي أقرها الملأ في مكة، في نهاية القرن السادس الميلادي، حينما تعاهدت قبائلها على «أن لا يدعوا ببطن مكة، مظلوماً من أهلها، أو من دخلها من غير أهلها من سائر الناس، إلا كانوا معه على ظالمه حتى ترد مظلمته». } وشملت هذه الوثيقة جملة من القيم الإنسانية مثل (إغاثة الملهوف، وكفالة المستجير وحمايته، وحفظ حقوقه، ورد المظلمات، وضمان الأمن والأمان، وحماية الحقوق التجارية.. الخ). } وقد استحق هؤلاء، من أهل مكة وما حولها، عن جدارة حمل راية الإسلام في أنحاء العالم. } وقد جاءت هذه الوثيقة، وما فيها من قيم إنسانية، في زمن كان فيه (الغزو) هو لغة الناس في العالم. } وقد اتخذ الإسلام من هذا الحلف، موقفاً إيجابياً، وسئل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأشار: «شهدت مع أعمامي في دار عبدالله بن جدعان، حلفاً، لو أني دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت». } قلت لمحاوري، يفتخر البريطانيون، بوثيقة (الماغنا كارتا) أي (العهد العظيم) الصادرة عام 1215، كما يفتخر الأمريكيون بدستورهم عام 1776، وكذلك يفعل الفرنسيون، بوثيقة (حقوق الإنسان والمواطن) بعد الثورة الفرنسية عام 1789. وتعتبر شعوب هذه البلدان، أن هذه الوثائق هي النواة الأساسية لحقوق الإنسان، والتي تبلورت في عام 1948 على هيئة (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان). وهو الإعلان الذي يلقى تبجيل واحترام عالم اليوم. } وتساءلت: لماذا لا نعتبر أن «حلف الفضول» وما تبعه من عهود ومواثيق في صدر الإسلام. هي أول جمعية لحقوق الإنسان في العالم؟ ولماذا لا نعمل على تطوير وثيقة «حلف فضول عصري» بين أهل الأديان والمعتقدات، كعمل مشترك. يسهم في تعميم ثقافة الحوار وقيم التسامح، ويعالج التوترات الدينية وأسبابها، ويبطل مناخات الخوف والاحتقان والعنف والتطرف والكراهية والمظالم، وتصويب الصور المشوهة أو الخاطئة التي تؤدي إلى التفاضل والمخاوف المتبادلة؟ } إن الاختلاف والتنوع حقيقة إنسانية، وآية من آيات الله في الإنسان والكون. } يستطيع هذا الحلف المنشود، إذا وعى أطرافه أخطار منطق «الحدود الدامية» بين الأديان – والمؤسس على فكرة صراع الحضارات – وإذا قام هذا الحلف على الفهم والتفاهم والتواصل والمصارحة البعيدة عن الإثارة والتجريح، والتزام مبدأ العدل والإنصاف، فإنه يستطيع أن يبني الثقة ويقيم علاقات تحترم حدود المغايرة، وقواعد العيش المشترك، ويجسر الفجوة ما بين أتباع الديانات. }} الحلف يلزمه التوازن والاعتدال.