مشردو تهامة
الحروب الستة على صعدة نجم عنها نزوح وتشريد ثلاثة ملايين. كانت مزارع صعدة تزود مختلف مناطق اليمن بالفواكه: العنب، والرمان، والأترج، والحبحب (البطيخ)، وغيرها. الحروب التي خاضها صالح ظلماً وعدواناً، وربما هروباً إلى الإمام من حرب 94 ضد الجنوب، صنعت كارثةً لمنطقة حية وغنية. ظل الإعلام والمنظمات الإنسانية ووكالات الأنباء العالمية حتى اليوم تتحدث عن ثلاثة ملايين مشرد ونازح.
تلقى الإعلامي اليمني الخبر المسكوك الجاهز الناجز من الوكالات والمنظمات الدولية، وظللنا نردد مسكوكة الثلاثة مليون مشرد، رغم توالي الحروب، خصوصاً بعد انقلاب 21 سبتمبر؛ فقد أصبح المشردون ومن مختلف مناطق اليمن يتجاوزن ذلك العدد بكثير.
معروف أن الحرب التي دارت في صعدة دارت في مناطق محدودة ولعدد محدود أيضاً من السكان إذا ما قورن بسكان ومساحة تهامة.
في معركة الحديدة تتحدث الأخبار عن نزوح وتشريد عشرات الآلاف إلى صنعاء. هؤلاء الهاربون إلى صنعاء هم بالأساس مشردون في الحديدة ومحيطها، مشردون داخل أحيائهم وقراهم؛ فهم «بدون اليمن».
الكثيرون لا يمتلكون ما يقيهم نار الصيف المحرقة… يفترشون التراب، ويلتحفون السماء، فهم كوصف الشاعر الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان:
شعبٌ – بحمد الله – يمشي للورا
فَرشَ التراب وبالحصير تأزرا
لا ناقة لهم في الحرب، ولا «معزة». تدور الحرب وستدور لعقود على رؤوسهم وبطونهم الجائعة العطشانة، ونفوسهم الخائفة حد الموت. المستقرون في المدينة من أبناء الطبقة الوسطى تعطلت مصالحهم وأعمالهم وتجارتهم، ووجدوا أنفسهم على حافة الفقر.
مدينة ساحلية يُطلق عليها في الصيف بوابة جهنم تتحول إلى جهنم بانقطاع الماء والكهرباء. الحياة فيها قاسية بوجود الماء والكهرباء، ولكنها بدون الماء والكهرباء تصبح باباً من أبواب الجحيم الثمانية.
تأتي الحرب الإجرامية لتقذف بها إلى الدرك الأسفل من النار كإعجاز القرآن الكريم، أوكإبداع الكوميديا الإلهية. منذ بدايات الحرب الداخلية وتقاطر جراد مليشيات أنصار الله على الساحل، وعسكرة طيران الإمارات والسعودية في الأجواء، وقصف قوارب الصيادين أكثر من مرة، وقصف الأحياء الشعبية المبنية من القش وأعواد السدر والعشش العتيقة التي لا تستر عورة – جرى تجويع السكان وتعطيشهم، كما أدت الحرب إلى تمويت الأسواق الشعبية، وأجدب الوادي، وهلك الزرع والضرع بالجدب: انقطاع السيول، واحتباس المطر، ويأتي القصف الجوي كلي القدرة في غياب أي مقاومة أرضية أو دفاع جوي في بلد كان حاكمه يعتقد أنه بنى جيشاً يكفي لتحرير الجزيرة العربية، لتعم الكارثة اليمن كلها.
أكدت الأيام والأحداث أن جيشنا وأمننا يتفوق في ضرب المظاهرات، وقمع الاحتجاجات السلمية، وخوض الحروب الداخلية، وتدمير القرى والمدن «العاصية».
المشردون من صعدة بالأمس أصبحوا الآن مليشيات تخوض الحرب ضداً على شعبها بدعاوى أو مطالب لا يصدقها المحروبون، ولا المحاربون أنفسهم.
الجيش الذي كان بالأمس جيشاً أصبح مليشيا ممزقة موزعة على الاتجاهات المتحاربة كلها، والشرعية لا مطلب لها ولا هم غير «استعادة الشرعية» التي ذهبت مع الريح.
الحراك الجنوبي في وادٍ، ومطالب الشعب في الجنوب في وادٍ آخر. الداعمون للشرعية لهم مطامعهم الخاصة، وهم طرف في صراع إقليمي ودولي؛ فاليمن لا تعني له إلا ميدان صراع لتحقيق تفوق في مناطق أخرى.
تطمح إيران أن تعزز نفوذها الإقليمي، وأن تفك الحصار عن نفسها بالقتال على أكثر من جبهة في العراق وسوريا ولبنان والبحرين، وربما كانت اليمن الميدان الأقل كلفة، وإلى حد ما فلسطين، والمعركة في سوريا ومن حول مفاعلها النووي حاضرة بقوة.
الاهتمام بقضايا مشردي الحديدة ضعيف جداً، وأنصار الله مهوسون بالحرب وبالانتصار فيها، وبالحديدة كمورد من أهم الموارد. أما السكان ففائضون عن الحاجة. مؤسسات الإغاثة، ومؤسسات المجتمع المدني غائبة أو بالأحرى مقموعة ومغيبة. المنظمات الدولية، هي الأخرى، مقصية وضعيفة الفعل والتعاطف.
الحرب، وبالأخص في مناطق مليشيات أنصار الله، جرفت الحياة السياسية، وأضعفت التعاطف والتضامن والتعاون، ومزقت النسيج المجتمعي، وامتلكت مقدرة راعبة على تحشيد الناس ضدها بالقدر الذي فقدت التعاطف الدولي والتضامن والتأييد في أي مستوى.
ما أطال الحرب في اليمن ليس مقدرة مليشيات أنصار الله ولا الولاءات أياً كان نوعها أو شكلها؛ فهي تتآكل يومياً، وإنما خوف الشعب من القوى التي جربها في الحكم، ومثلت الظل القاتم لحكم الثلاثة والثلاثين عاماً، ومعرفة الشعب بالتحالف الملغوم بالجنجويد والبلاك ووتر، ومعرفة نوايا الثنائي: السعودي- الإماراتي، وما فعلته هذه القوى بتحالفاتها الدولية في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان والصومال ومناطق أخرى.
المشردون من أحياء الحديدة حتى الآن، وقبل بدء المعركة الحقيقية، سبعون ألفاً يلقون معاملة ليست بالطيبة، وهو ما سيترك جروحاً غائرة في وعي وذاكرة المشردين ومناطقهم، ويسهم في توسيع وتعميق التفكك والتمزق، وهو هدف رائس من أهداف الحرب الكريهة، ويعبر عن إرادة خبيثة ونوايا سوداء للضالعين في الحرب وتجار الحروب والسلاح.
في حروب 94 وقفت قيادة الحزب الاشتراكي ضد الحرب والانفصال في مواجهة «الوحدة أو الموت» الشعار والراية التي رفعها صالح والإسلام السياسي ضداً على الجنوب ملطخةً بنهج التكفير والتخوين المبرر؛ لنهب الجنوب واستباحته، وتدمير كيانه، وتمزيق نسيجه.
إدانة الحرب والانفصال كانت تتوخى البعد الوطني المجرد، ولكن الوقائع على الأرض كانت تحفر عميقاً في وجدان الجنوبيين وعقولهم معانيَ تقطر الدم ومرارات ومعاناة لا يتصورها العقل.
الجنوبيون الذين استبشروا بالوحدة ورفعوا رايتها منذ منتصف القرن الماضي وجدوا أنفسهم ضحية الوحدة. تم تدمير الجنوب ونهب ممتلكات أبنائه، وعانى الجنوبيون مرارة الاغتيالات والتكفير والتخوين. ويقيناً، فالحرب هي من غرس الانفصال في النفوس، وصاغت المزاج العام، وسوت الأرض وحرثتها للعداوة بين جنوب وشمال.
ما يجري الآن بالحرب وجرائمها عداوة بين الجنوب والجنوب، وبين الجنوب والشمال، وبين تعز والجنوب والشمال، وبين تهامة وصنعاء، وبين صعدة ومأرب. باختصار بين مختلف المناطق والجهات، وبين اليمني واليمني، وبين الإنسان ونفسه، وكأننا في مشهد من مشاهد القيامة «يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه» – [عبس:34-36].
دعاوى الحرب جلها زائفة منذ قتل قايين أخاه هابيل. الحروب المقدسة والحروب الصليبية والحروب الكونية والجهاد الطلبي مهجوس بالفيد والأسلاب. الوحدة المعمدة بالدم قتلت الوحدة؛ ليستمر سفك الدم.
غالبية أفراد المليشيات المقاتلة لا تعرف معنى الاصطفاء، ولا تؤمن بالحق الإلهي، ولا علاقة لها بولاية الفقيه، ولا بالإسلام هو الحل، ولا مبدأ الخروج على الإمام الظالم – وجل الأئمة ظلمة- وقد فند هذا المبدأ أفاضل من علماء الزيدية؛ فقد نجمت عنه وترتبت عليه جرائم مؤرقة.
المحرك الأساس لهذه الدعاوى الزائفة قرأها عميقاً أبو العلاء المعري في لزومياته، وفطن إليها باكراً عالم الفرق الشهرستاني، وكان الأحرار اليمنيون في طليعة من أدرك لعبة الخروج ونتائجها الوبيلة.
ماركس وأنجلز أعطيا للصراع البعد الأكثر عمقاً وواقعية في «البيان الشيوعي»، وفي كتاب «رأس المال»، وفي «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة».
الحرب في اليمن وعلى اليمن جريمة حولتها إلى أسوأ كارثة على وجه الأرض، أما الحرب في تهامة فكارثة مضاعفة، وهي حرب الأقوياء والأغنياء ضد الضعفاء والفقراء.
تصريح الوزير الإماراتي بتعليق الحرب مؤقتاً في الحديدة تعبير عن الرغبة الأمريكية والبريطانية أسياد الكارثة المدركين كلفتها الراعبة، والصعوبات والمخاطر الناجمة والمترتبة عليها في طول اليمن وعرضها، وهم أيضاً مساءلون أمام شعوبهم.
الأوربيون والأمريكان مدركون فشل الحرب وآثارها المدمرة على المنطقة كلها، وعلى وجه أخص اليمن. هذا البلد الأفقر على وجه الأرض، المحروب من أغنى دولتين عربيتين، وتقودان تحالفاً اثنا عشرياً ضده.