إبراهيم بن على الوزيرالكل

في ذكراك سيدي الحبيب

الذكرى السادسة لرحيل العلامة المفكر ابراهيم بن علي الوزير

 

 من أهم ما تحتاج إليه السّاحة الإسلاميَّة في هذه الأيام، هو العالم المفكِّر المجدِّد الذي يعيش بين الناس ويشاركهم همومهم وأحلامهم وتطلعاتهم. تحتاج إلى العالم الّذي يفهم الإسلام، ويدرك أنَّه منهج حياة، لا مجرّد نظريات ومفاهيم مجردة لا علاقة لها بالواقع المعاش.

هكذا كان العالم المجاهد، المجدِّد، والمفكر الاسلامي الكبير، العلامة السيد ابراهيم بن علي الوزير(رض)، والذي فُجِع برحيله قبل ستة أعوام، كلُّ مسلم أدرك القيم السامية التي جاء بها الإسلام، وكان واعياً لمقاصده وأهدافه في هذه الحياة.

ولمناسبة الذكرى السادسة لوفاته، والَّتي تصادف اليوم 1 رمضان أحببتُ أن أستعرض ـ وإن بإيجازٍ ـ بعضاً من صفات ذلك العالم القدير، ولا سيما وقد منَّ الله عليّ بأن اكونَ قريباً منه، الأمر الَّذي أعتقد أنه يعطيني الحقَّ في أنَّ أتحدث عنه دون الوقوع فيما نهى الله تعالى عنه بقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء: 36].

وكان لا بدَّ من وقفةٍ عند هذه الذكرى، لما كان يمثِّله ذلك الفقيد الكبير في نفوس كثير من المسلمين وغيرهم، على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وبخاصة أولئك الذين كانوا قريبين منه، وشاءت لهم الأقدار أن يعرفوه معرفة مباشرة.. فقد كان لفقده عظيم الأثر في النفوس والعقول والقلوب، الأمر الذي كان واضحاً جليّاً لكل من تابع وسائل الإعلام، باختلافها وتنوِّعها، منذ لحظة إعلان الوفاة، وحتى انتهاء مراسم التشييع والدفن.

في الذكرى السادسة لرحيل المفكرالعلامة السيد ابراهيم بن علي الوزير هبّت لواعج النفس، وهاج الفؤاد بالحنين إليك، فكانت هذه الكلمات من القلب والعقل، اعترافاً بالجميل، وشوقاً بالحنين إلى كلماتك الرسالية، ومواعظك الإيمانية، وأسلوبك الممتلئ حباً وحناناً وعطفاً وصدقاً، وحرصاً على نجاة محبيك وفوزهم في الدنيا والآخرة.

“كنت بنا رحيماً رؤوفاً” و”أباً روحياً ومرشداً عطوفاً”

سكنت في القلب والعقل والوجدان…

لقد زرعت في أعماقنا كل الحب، وكل الخير، وكل الطهر…

رسّخت فينا قيم التسامح والانفتاح وتقبل الآخر واحترام الأديان.

دعوتنا إلى الوعي وحذّرتنا من التخلف، والجهل، والضعف، والخرافة والغلو، والتعصب.

علّمتنا أن لا مقدّسات في الحوار.

علمتنا كيف نكون ربانيين حقاً، وأقوياء حقاً بتكامل الطاقات.

كنت حصناً حصيناً للمرأة بشكل عام، وللمسلمة بشكل خاصّ،

حذّرتنا من الوجوه المزيَّفة التي تحمل قداسة الدين في المجتمع.

علمتنا أن الإسلام عقيدة وعمل، فلا قيمة للإيمان بلا عمل، ولا قيمة للعمل بلا إيمان.

{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.

قلت لنا: تزوّدوا بالعبادة والدعاء لتنطلقواً في حياتكم.

لقد تعلّمنا منك أن نكون أحراراً أعزاء ولا نسجد لغير الله.

سيدي، كنت عملاقاً من عمالقة الفكر في زمن تتخبّط الأمة بين الحقيقة والضياع، فأخذت بيدها إلى حيث يجب أن تكون في زمن التعقيدات، فكنت صمام الأمان لها.

كنت رجل القرآن أولاً وأخيراً، رجل االفكر المستنير والانفتاح، رجل التحديات، رجل الساحة الإسلامية، ورجل الجرأة والشجاعة، ورجل السياسة.

كنت رجل الأسلوب في الدعوة إلى الله، بل كنت بوصلة الأمّة التي توجِّه مسارها ورجل الأدب والفكر.

بل كنت أمّة في رجل.

كنت رمزاً لصياغة الإسلام المحمدي الأصيل، رمزاً للنضال ورمزاً للحوار.

كما دعوت الأنظمة العربية لتحسين سجلّها في مجال حقوق الإنسان، انطلاقاً من القيم الإنسانية.

سيدي، اطمئن وأنت في عليائك، فقد أصبح كلّ منا بفكرك ونهجك.

سنظلّ نردّد إلى نهاية العمر، أننا عاصرناك وعرفناك وسرنا على نهجك.

كنت فينا كأحدنا، كنت مع الناس ومن الناس، في آلامهم وأحزانهم وأوجاعهم،.

لقد نذر ذلك العالم الجليل كلّ حياته خدمةً لرسالة الإسلام، وفي سبيل تحقيق أهدافها، ولم يكن اسمه وموقعه يمثلان عنده شيئاً، فلم يُعِر ـ في يوم من الأيام ـ أيَّ اهتمام لذاته ولمصالحه الشخصيّة. ولأنه لم يفعل، فقد عاش صراعات مريرة، وخاض ـ مع الغلاة والمتخلِّفين والطغاة خاصة ـ معاركَ لم يكن من الصعب عليه أن يتفاداها لو أراد ذلك، لكن حساباته كانت مع الله، لا مع خلقه، وقد كان يشعر أنه مسؤول أمام الله عن التصريح بكلّ الحقائق التي يعتقد بها، لأنها أمانة الله عنده.

كان يؤمن بحقيقة أنَّ على الإنسان أن يحبَّ الَّذين يتفق معهم ليتعاون معهم على البر والتقوى وتأكيد الرسالة، وأن يحبَّ الذين يختلف معهم ـ وإن خاصموه وعادوه ـ لكي يحاول أن يفتح قلوبهم على الحوار من أجل فهم الحقيقة. وقد كان يردِّد دائماً أن الحياة لا تتحمَّل الحقد، لأن الحقد موتٌ، والمحبَّة حياة.وكان من نتائج ذاك الحب الذي كان يملأ قلبَه، أنه عاش حياته من رواد الوحدة الإسلاميَّة بالقول والعمل، ولم يحدث أن صدر عنه في يوم من الأيام ما يخدش مصداقيةَ سعيه في سبيل تحقيق ذلك الهدف النبيل.

أراد رضوان الله عليه الإسلام موحِداً وموَحَّداً جامعاً لبني البشر بمُختلف مذاهبهم وعقائدهم على أساس إنسانيّة الإنسان ومواكباً لكلّ الأزمنة لديه الحلّ لجميع المشاكل الاجتماعية والسياسية التي تعيشها المجتمعات وأرادوه إسلاماً متقوقعاً مُنفّراً يهرب منه الناس.

أراده إسلاماً متجدّداً محرّضاً ضد الظلم والطغيان والشخصانية وأرادوه إسلاماً صنميّاً يُعبَد فيه الفرد وكأنّه الإله.

ولأنَّه كان صريحاً وجريئاً، إضافةً إلى اتصافه بالصّدق والإخلاص، فإنه لم يسلم من محاولات الاغتيال الجسدي، ولكن الذي كان يحُزُّ في نفسه حقاً هو محاولات الاغتيال المعنوي، والتي شاركت فيها أطرافٌ عديدةٌ ذات أسباب ودواعٍ متباينة، كان بعضُها لا يتجاوز إطار الجهل والمرض والتخلّف والغلو. ورغم تعدُّد الأسباب واختلافها، إلا أنَّ هدف جميع تلك الأطراف كان واحداً، وهو إسقاط ذلك الجبل الشامخ الذي بقي راسخاً في مكانه، واثقاً بربِّه، فهو وحده الذي يدافع عن الذين آمنوا، وما كان يطلبُه منه هو أن يرزقَه الإخلاصَ في عمله.

أما ما كان يواجهه من عنت وتعسُّف وظلم، فقد هوَّنه على قلبه أنه كان بعين الله، وما دام ربُّه يحبُّه، وهو يحبُّ ربَّه، فلم تكن لديه أية مشكلة أمام كل الحاقدين المغرضين في كل ما كانوا يقومون به، بل كان يحاول أن يدرس نقاط الضعف فيهم، والتي ألجأتهم إلى ما كانوا عليه، وكان يحاول أن يدرس الجهلَ والتخلَّفَ الذي كانوا يعيشون فيه، والذاتيَّات التي كانوا يدورون في فلكها. ولذلك، فإنه كان يشفق عليهم من أنفسهم أكثر مما كان يشفق على نفسه منهم، وكان يتمثّل ـ في صراعه معهم ـ قول النبي(ص): “الَّلهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُوْنَ”.

لقد كان ذلك العالم المحمدي الجليل – بحق – أحد أعلام هذا العصر، ولذا فقد كانت خسارة الإسلام والأمة الإسلامية بفقده خسارةً كبيرةً ليس من السهل تعويضه.

ومن الصعوبة أن تجد تعريفاً للعلامة والمفكر الإسلامي، السيد ابراهيم بن علي الوزير، فهو ليس طرف معادلة ولا طرفي معادلة، بل هو المعادلة نفسها، ومن الصعوبة أن تغوص في محيطه، فهو ذو باعٍ طويل في المعارف الإسلامية، وقارىء دقيق للماضي والراهن، ومستكشف بارع لمنحنيات السياسة وتفرعاتها، ويترافق هذا الاهتمام مع صياغته لمشروع إسلامي نهضوي قوامه الموروث الإسلامي ورؤى العصر التي لا تعارض الشريعة الإسلامية، والوحدة الإسلامية.

 فقد إرتقى بنتاجه المعرفي والنهضوي والفكري إلى مصاف من رسموا مسارات النهضة لهذه الأمة الباحثة عن أسباب النهوض الحضاري وأسباب التراجع في كل المحالات.. وبالإضافة إلى ذلك فالمفكر ابراهيم الوزير ينتمي إلى نخبة الموسوعيين المجددين الذين قرروا أن يبنوا عقلاً متكاملاً يلامس ليس فقط مناطق الفراغ في الفكر الإسلامي, بل يلامس كل ما يبتلى به الإنسان في المجال النفسي والجسدي والعلمي والإقتصادي والثقافي والسياسي, ولذلك كانت رؤاه الإجتهادية من وحي العصر ومن دائرة الواقع والعرف, فقدم للمسلم المقيم في بلاد الإسلام, والمهاجر إلى بلاد الإغتراب فكراً ميسراً واضحاً ومفهوماً, و حطم قوالب اللغة المحنطّة, وإستعاض عنها بلغة مفهومة وراقية في آن واحد.

وليس المطلوب على الإطلاق التخلّي عن التراث, بل المطلوب إعمال العقل ومحاولة الإبداع في كل المجالات, ولعلّ تقصيرنا في مجال الإبداع وصياغة خطاب إسلامي عصري أدّى إلى إرتماء النخب العربية والإسلامية في أحضان مدارس فكريّة لا تمّت بصلة إلى واقعنا العربي والإسلامي.

ونحن نقف على أعتاب ذكراه السادسة، لا نملك إلا أن نشتاق إليه، ونبحث عنه لينير لنا دروبنا الموحشة في مرحلة تحتاح إلى قراءة نقدية جريئة واعية، قراءة اعتدنا أن يكون ابراهيم بن علي الوزير رائدها ورمزها، فاليوم نحن نعيش مرحلة تختزن في داخلها الكثير من المشاكل والصراعات والحروب التي أكلت الأخضر واليابس، حاملة عناوين عدّة ولعل أبرزها التطرف والتعصب الفكري والديني، لذا نحن بحاجة إليه لأنه رَجُل المرحلة الذي لا يتجمد عند دور معين ولا تقيّده المفاهيم والعناوين، فكان فارس الموقف في كل ميدان يستغيث به.

في ذكراك.. يا سيِّدنا الحبيب.. نجدِّد العهد، ونقول لك إنَّا على العهد باقون في خطِّ الإسلام الحركيِّ المجاهد، المقاوم للاستكبار والظُّلم، والمواجه للتخلُّف والجهل.. باذلين غاية جهدنا في إكمال مسيرتك الَّتي هي مسيرة الأنبياء والأولياء والصدِّيقين والشهداء والصالحين، الذين رحلت إليهم وصرت برفقتهم بإذن الله تعالى.. وحسُنَ أولئك رفيقاً.

صنعاء 26/4/2020

https://telegram.me/Ebrahimalwazir

م.م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى