ثورة الدستور…سؤال على بوابة الذكرى
قبل أيام التقيت بالمناضل الكبير الشاعر الأستاذ محمد عبدالله الفسيل، الذي يعد ــ فيما أعلم ــ آخر المدنيين من رجال ثورة الأحرار الدستورية 1948م، وخلال اللقاء حدثني عن ظروف الثورة، وتطلعات الأحرار، وأحلامهم في الانتقال بالشعب اليمني إلى حياة يعيش فيها اليمنيون كسائر عباد الله في هذا الكون…حدثني عن الظروف العصيبة التي مرت بها الثورة في أسابيعها الثلاثة، حتى سقوطها، عن أسباب الفشل، عن الأثر الذي تركته في مسار الحركة الثورية، وعن ظروف اعتقاله في ذمار، وعن (الدردحة) التي قال أن الذماريين مارسوا طقوسها على أصولها مع الثوار، وهم مكبلون بالقيود في الطريق إلى حجة، وحدثني عن السجن والاعتقال بعد الثورة وعن قضايا أخرى لا مجال لذكرها أو حتى الإشارة إليها في هذا المقام.
وكنت قبل هذا قد وقفت على النسخة المجهزة للطبع من كتاب “غيوم حول الثورة الدستورية، حوار مع أساتذتي” للمفكر الكبير الأستاذ زيد بن علي الوزير، رئيس مركز البحوث والتراث اليمني الذي أتوقع صدوره قريبا، وفي الكتاب أعاد المؤلف جمع مقالاته التي سبق نشرها في مطلع تسعينيات القرن الماضي في صحيفة الشورى كردود على ما ورد في المقابلة التي نشرتها ذات الصحيفة مع أستاذه الشاعر الكبير عبدالله البردوني عن الثورة الدستورية، كما حاور في الكتاب أستاذيه الشامي والأكوع.
ومع أهمية ما ورد في الكتاب من وثائق ومعلومات جديدة، عن ثورة الدستور أعطت وفراً من معلومات إضافية، وفتحت مسارب جديدة صححتْ مسيل الوديان المنهمرة بمائها وغثها، فإن المؤلف يقول في مقدمته لكتابه:”وأنا لا أزعم لنفسي أنني – من خلال هذا الكتاب– قد استخرجتُ كل الحقائق المطمورة، بل ولا أؤهل نفسي بالقدرة على جلاء كل غامض، ولكني أحاول بهذه الأحاديث توضيح ما أمكن توضيحه عن الوقائع الغائبة، بما أعرفه، وإعطاء صورة مختصرة لحقيقة ما كان يضطرب على الأرض اليمنية من صراع عنصري ومذهبي، وأعترف أن وقائع كثيرة ما تزال بحاجة إلى تنظيف، وشرح، وتوضيح، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يضطلع بها جهد فردي مهما أُعطي من علم، ولكن لا بد من تضافر جهود علمية محضة، بعد أن بدأ يتوالى ظهور أضواء جديدة تلقي أنوارها على ذلك الحدث العظيم، وخاصة بعد أن كُشِف النقاب عن «الميثاق الوطني المقدس» بعد قيام “الجمهورية”، وبوجه خاص بعد أن أطلقت الحريات عند قيام الوحدة، وقد آن الأوان أن تخرج حقائق التاريخ من سباتها الشتوي الطويل. وعليه فهذا الكتاب يشكل محاولة لتصويب الأخطاء التي ارتكبت في حق «الثورة الدستورية» على ضوء وقائع، لا على غبش تهويمات عابرة”.
ولعل أهم ما خلصت إليه من لقائي بالأستاذ الفسيل، وقراءتي لكتاب الأستاذ زيد الوزير هو أن الثورة الدستورية على الرغم من مرور تسعة وستين عاما على قيامها، فإنها ما تزال كغيرها من القضايا التي يعج بها تاريخنا اليمني القديم والمعاصر بحاجة إلى كشف النقاب عن كل ما يحيط بها من خفايا وأسرار، وتناولها بالقراءة الموضوعية التي تتعاطى مع الأحداث بمنهجية علمية لا تراعي سوى المعطيات والبراهين، ولا تعترف بغير الحقائق التي تشير إليها الأدلة بعيدا عن القراءات الموجهة التي تعاطت مع الثورة الدستورية بحسب أمزجة النظام القائم، أو عواطف الكتاب يمنيين وأجانب التي قرأت الأحداث من مواقع أكثر بعدا.
لقد آن الأوان أن نقيم تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في اليمن منذ نشوئها في شكل حركة إصلاحية تستهدف إصلاح النظام الحاكم في ثلاثينيات القرن الماضي، مرورا بتحولها في منتصف الأربعينيات إلى حركة معارضة تستهدف إسقاط نظام الإمام مطلق الصلاحيات، وبناء نظام الإمام الدستوري، محدود الصلاحيات، وتشكيل مجلس الشورى وصياغة الميثاق المقدس، والفصل بين السلطات، مرورا بما تلا ذلك من أحداث وثورات قدم الشعب اليمني في سبيلها كثيرا من التضحيات..
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في مقام الذكرى هو ، لماذا تخلفت هذه الينابيع المدنية (الشورى، الدستور، الميثاق المقدس، الفصل بين السلطات وسواها) التي بدأت تتشكل مع ثورة 1948م ولم تأخذ طريقها في النمو وتواصل مسيرها في الاكتمال في ما تلاها من أحداث وثورات ؟