تدخل أمريكي لوأد ثورة شعبية ضد نظام آل سعود
في سبتمبر/أيلول عام 1950، أرسلت وزارة الخارجية الأمريكية إلى إدارة الرئيس الأمريكي هاري ترومان دراسة سرية جاء فيها: ” إن نفط الشرق الأوسط مهم بالنسبة للولايات المتحدة؛ لأن استخدامه يحافظ على الموارد الغربية ذات الأهمية الحيوية في الحالات الطارئة، ويضمن نفط الشرق الأوسط مشاريع ربحية للشركات التجارية الأمريكية والمستثمرين الأمريكيين”.
اليوم، تسيطر الشركات التجارية الأمريكية على ما يقارب نصف حقول البترول في الشرق الأوسط، فالسيطرة على مصادر الطاقة هذه مهمة في أزمنة الحرب والسلام، وهكذا فإن شركات البترول تساعد على بلوغ أهداف الولايات المتحدة السياسية في هذه المنطقة، وفي الوقت نفسه، قد تكون تفجر وضعًا ثوريًا، خلافُا لما يريده الحكام.
النفط والدولار.. زواج ولَّد الاحتجاجات
لم يكن اهتمام الولايات المتحدة بالمملكة النفطية منزَّهًا عن فوائد شخصية، فبعض السياسيين الأمريكين الكبار كانوا يتلقون رواتب إضافية كبيرة من شركة “أرامكو”، فمثلاً مدير الإمدادات النفطية رالف ديفيس كان يتلقى راتبًا حكوميًا قدره 10 الآف دولار سنويًا، بينما حصل من “أرامكو” على 47 ألف دولار؛ أي راتب أكبر بـ 5 أضعاف.
أما مستشار قسم الشؤون النفطية ماكس برومبوك فكان راتبه 8 الآف دولار من الحكومة و 29 ألفًا من الشركة؛ أي أكبر بـ3 مرات ونصف من مرتبه الأصلي. وفي السنوات ما بين عامي 1946 – 1949، كان للشركة في الكونغرس الأمريكي 4 شخصيات مسجلين رسميًا لممارسة الضغط.
هذا فضلاً عن أن الشركات المساهمة في “أرامكو” كانت ترشح ممثليها إلى المناصب الأعلى في الدولة، فجون فوستر دالاس، الذي شغل منصب وزير الخارجية في الفترة ما بين عامي 1953 حتى 1959، في عهد الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، وصل إلى منصبه بعد أن ترك كرسي رئيس مجلس صندوق “ركفلور” الوصائي؛ أي أن هؤلاء كانوا موظفين رسميين لدى الدولة وغير رسميين لدى “أرامكو”.
أما بخصوص “أرامكو” نفسها، فقد جاء في تقرير لجنة مجلس الشيوخ لدى الكونغرس الأمريكي عام 1948 أن شركة “أرامكو” حثت الحكومة الأمريكية على تقديم قرض للملكة السعودية قدره 99 مليون دولار، مقابل تعهد السعودية ببيع “المازوت” للقوات البحرية الأمريكية – التي تعهدت بأمن وبقاء حلفائهم السعوديين- بسعر 40 سنتًا للبرميل الواحد، وكان سعره في السوق العالمي أنذاك دولار و5 سنتات.
وبالفعل قُدمت للمملكة الأموال التي طلبتها، إلا أن البحرية الأمريكية واصلت دفع ثمن برميل “المازوت” دولارًا و5 سنتات، وبهذه الصورة حصلت شركة “أرامكو” من الحكومة الأمريكية في هذه الصفقة فقط على فارق سعر زاد مقداره عن 38 مليون دولار، علمًا وأن ممثلي وزارة الخارجية الأمريكية صوروا شركة أرامكو” في كل الوثائق بأنها شركة وطنية، على الرغم من حصولها على أموال كبيرة من الميزانية الأمريكية لمنافعها الخاصة.
استخدمت الحكومة الأمريكية كل الفرص للتغلغل في المملكة السعودية وتوسيع نفوذها فيها
ومن أجل تعويض هذه الغنائم الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى، استخدمت الحكومة الأمريكية كل الفرص للتغلغل في المملكة السعودية وتوسيع نفوذها فيها، فمنذ عام 1944، كانت تعمل هناك بعثة عسكرية أمريكية مهمتها إعادة تنيظم الجيش السعودي، وفي عام 1936 دخلت حيز العمل قاعدة للقوات الجوية الأمريكية.
وفي حين فقدت بريطانيا مكانتها بعد الحرب العالمية التي كان قيامها إيذانًا بدخول العالم عصر النفط، عززت الولايات المتحدة مكانتها في المجال الاقتصادي هناك، فقد كانت تشرف معظم المشاريع الكبرى بالمملكة، فمثلاً، كان أول مدير لخط سكة الحديد “الرياض- الدمام” جنرال أمريكي، علاوة على ذلك، قامت الخزينة الأمريكية ما بين عامي 1943-1949 بصك الريالات الفضية السعودية، وهذا في حد ذاته مؤشر كبير على مدى ترابط الاقتصادين السعودي والأمريكي منذ تلك الفترة.
نفط المملكة لإرضاء أهواء العائلة المالكة
لماذا أذعن السعوديون منذ البداية ووافقوا على سعر متدن جدًا عند بيع نفطهم؟ في ثلاثينات القرن الماضي، كان سوق النفط مغرَق بهذه السلعة، وكان ثمة فائض من النفط المطروح في الأسواق، فأغني حقوق النفط كانت قد اُكتشفت قبل عقود من ذلك، في العراق والكويت وإيران، ومن ثَم في السعودية، فضلاً عن ذلك، كانت توجد مكامن للنفط في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وهنا يكمن السبب وراء بيع السعوديين نفطهم بعمولة متدنية.
لو كان الأمر بيد عبد العزيز بن سعود، ما كان ليسمح بالاستكشاف والبحث في أراضيه، يقول المؤرخ والصحفي البريطاني روبرت ليسي في كتابه “المملكة من الداخل”، لكن ابن سعود شعر مجددًا بالحاجة الماسة إلى المال، فلم يكن قادرًا على دفع التزامات موظفي دولته الوليدة، مع تراكم لحصيلة ديون زادت على 300 ألف جنيه إسترليني تكبد معظمها في كبح تمرد الإخوان، فضلاً عن الكساد العالمي الثلاثيني أدى إلى انخفاض عدد الحجاج إلى أقل من الخمس تقريبًا.
ومع تراكم هذه الضغوط، وجد ابن سعود نفسه في ربيع عام 1933 مضطرًا للترحيب بممثلي شركة “ساندارد أويل أوف كاليفورنيا” النفطية، المعروفة اختصارًا بـ “سوكال”، في جدة من أجل مفاوضات استمرت أسبوعًا، وافق ابن سعود في نهايتها على منح الشركة الأمريكية امتياز التنقيب على حساب شركة “نفط العراق” المملوكة لبريطانيا.
في هذه الفترة، كانت المملكة دولة إقطاعية، ولم يكن نظام العبودية قد أُلغي بعد، ولذا فإن سيكولوجية المجتمع – وضمن النظام الإقطاعي – كانت ترتكز على إنفاق المال لا على جمعه، ولم يعد ابن سعود قادرًا على إرضاء شيوخ القبائل كما كانت عادته، لدرجة أنه اضطر إلى قصر زيارتهم على أوقات العيدين فقط، فقد كان عليه إنفاق أموال طائلة لاسترضاء شيوخ القبائل والعشائر بهدف المحافظة على ولائهم، وضمان الاستقرار السياسي.
لكن مع قدوم الأمريكيين إلى موران (دولة متخيلة) وواحتها وادي العيون بدأت حركة التاريخ في “مدن الملح”، تغير وضع المملكة، حيث قام مستكشفو النفط بتدمير الواحة الخصبة وإجبار الأهالي على ترك منازلهم، وبناء نمط اجتماعي جديد يحكمه منطق السادة والعبيد لعمال النفط، كما صورها عبد الرحمن منيف في الجزء الأول من خماسيته الروائية المحظورة، التي تحمل عنوان “مدن الملح”.
خلقت أموال النفط حياة طبقية غير عادلة بالمملكة
خلقت أموال النفط حياة طبقية غير عادية بالمملكة التي لم تكن تخرج وقتها من النظام الإقطاعي، ففيما يتعلق بالعائلة السعودية المالكة، فقد كان جميع أبنائها يعيشون حياة بذج وترف نتجية تدفق “البترودولارات”، وبحسب ما ورد في كتاب المؤرخ والسياسي الروسي ألكسندر ياكوفليف “الملك عبدالعزيز مؤسس المملكة العربية السعودية”، فإن دخل المملكة السعودية بلغ في هذه الفترة 212 مليون دولار سنويًا، أنفقت العائلة المالكة في تلك الفترة 100 مليون دولار، أي أن نصف مداخل الدولة ذهب لإرضاء أهواء العائلة المالكة.
وكتب جون فيلبي – البريطاني الذي عمل مستشارًا للملك عبد العزيز بن سعود ووسيطًا بين السعودية وشركات النفط الأمريكية وصانع سلام يوفق بين زعماء المنطقة المتخاصمين – عن عدم وجود أي ضوابط لإسرافهم الفاحش، وأن حياتهم تحولت إلى عبادة المال والمتاع.
كان ذلك في ثلاثينيات القرن الماضي، أما في الخمسينات، ومع اندلاع ثورات التحرر في الشرق الأوسط، فقد ظهرت إلى الوجود أنظمة جديدة بدأت بناء مجتعات تقوم على أفكار المساواة والعدالة والاجتماعية، كما جرى في مصر وسوريا والعراق والجزائر وغيرها، ولم تكن السعوديون بمعزل عما يحدث في جميع أرجاء العالم العربي، فقد تولد لدى السعوديين نوع من الوعي عبر مزيج من التفاوت الاجتماعي ومن الاختلاط مع إخوانهم من العرب، في فترة تاريخية حساسة تزامنت مع الاجتياح اليهودي لفلسطين، لذلك كان على حكام المملكة التفاعل مع التغيرات الجارية في وعي الناس، وإحداث تنمية في البلد.
وبالإشارة إلى المصاريف الباهظة للعائلة المالكة، كان الوضع الثوري في طريقه إلى النضوج في المملكة، فالأب المؤسس ابن سعود لم يشتهر بذلك بقدر ما اشتهر ابنه الأكبر سعود بن عبدالعزيز، الذي لم يكن شخصًا ينتج المال، بل كان ينفقه، فقد بنى لنفسه قصورًا فخمة، واقتنى أجهزة هاتف من ذهب، ولم يخل بيته من أحواض مترعة بالعطور الفرنسية.
عندما كان الوضع الثوري في طريقه إلى النضوج في المملكة
كان إسراف العائلة المالكة يغذي شعورًا قويًا بالظلم، وبحسب المؤرخ الروسي ألكسندر ياكوفليف “كان سعود مبذرًا. وبالرغم من أنه لم يكن غبيًا، كان يتمتع بنفسية الحاكم الإقطاعي التقليدي. عاش وهو يظن أنه في القرون الوسطى، ولم يعِ أنه يعيش في النصف الثاني من القرن العشرين. ولذلك كان البلد يشهد نضوج وضع ثوري حقيقي”.
إلى جانب ذلك، فقد قيل إنه تقطع يد من يسرق وتُقَّبل يد من يسرق الملايين من أملاك الشعب، وهو ما أثار غضب السعوديين، فضلاّ عن الدعاية الناصرية التي اخترقت – رغم كل شي- المجتمع السعودي، فقد كان عبدالناصر يتمتع بشعبية لدى شريحة واسعة من السعوديين، ويبدو أن ما يفعله بالنظام الإقطاعي في مصر حرك هاجس السعوديين.
وفي هذا الشأن، ذكر ألكسندر في كتابه أن السعوديين قالوا للأمريكيين “لكي نجعل سلطتنا مستقرة، عليكم دعم طلباتنا بشان التنمية الزراعبة والصناعية وغيرهما من مجالات عمل الدولة”، وكان هذا بغية إرضاء الناس، وحتى لا تنشأ قلاقل من شانها تهديد سلطة العائلة المالكة.
وفي واقع الأمر، كانت الشركات الأمريكية العاملة في السعودية قد طبقت العديد من المعايير الأوروبية الخاصة بالعمال في مختلف الصناعات، أي أن المملكة راحت تتخلص من النظام الإقطاعي، وتغدو أكثر تحضرًا نوعًا ما، فإن لم تقم السلطة بالإصلاحات فلا بد أن ينشأ وضع ثوري.
الملك عبدالعزيز على متن الناقلة “دي جي سكوفيلد” في حفل تدشين أول شحنة نفط خام تصدرها السعودية إلى الخارج
لم تكن الدعاية وحدها التي أثرت عليهم، فقد كان للواقع المحيط تأثير قوي بالفعل، فقد ولَّدت صناعة النفط نوعًا من المعارضة السياسية لم يعرفه السعوديون من قبل في تاريخهم القصير، لكنه كان نتاج نظام فصل اجتماعي عرقي محاط بأسلاك شائكة، يعيش وراءها العمال السعوديون والعرب في ظروف متدنية داخل ما صار يعرف باسم “الكامب السعودي”، مقابل “الكامب الأمريكي” في الظهران الذي تم تشييده خصيصًا للمدراء الأمريكيين وعائلاتهم.
ونتيجة لذلك، بدأت إضرابات بسيطة متتالية أواخر الأربعينيات، ثم امتدت في الخمسينيات إلى احتجاجات في حقوق النفط التابعة للشركات الأمريكية، ولم تقتصر المشاركة على العمال الأوروبيين الذين كانوا يعملون هناك منذ البداية، بل انضم إليهم السعوديون أيضًا، لكن مع استجابة هزيلة من قبل إدارة الشركات التي غالبًا ما كانت تحظى بدعم كامل من العائلة السعودية المالكة.
في هذه اللحظة، تغيرت عقائد السعوديين وآرائهم، وطالبوا بزيادة الأجور والمساواة مع الأجانب، وتحسين ظروف العمل، كأن يتوفر لهم النقل بالحافلات إلى مواقع العمل كي لا يسيروا على الأقدام تحت الشمس الملتهبة، كما كان الحال، وأن تراعى تشريعات خاصة بالعمل.
وردًا على هذه المطالب، قامت السلطات السعودية في البداية بإطلاق النار على المحتجين، فتشكلت عندئذ منظمات معارضة تنشط تحت الأرض، وبدا جليًا أن الأمور تسير نحو الثورة. حينها فكرت السلطات السعودية مليًا بما يجري، لكن وقع انقلاب في الأسرة الحاكمة، أُزيح على إثرة الملك سعود عن السلطة، ونُصِّب محله أخيه فيصل بدعم من إخوته في الأسرة المالكة.
إذن لم تكن أرامكو فقط مسؤولة عن ظهور الجيل الجديد من التكنوقراط المتغربين وأبناء المحظيين من السعوديين، الذين سُمح لهم بترقي درجات في سلم الأحلام قبل تأميم الشركة منتصف السبعينيات، ولكنها كانت قبل ذلك مسؤولة عن ظهور جيل سابق من القادة العماليين والمعارضين السياسيين والمنشقين والمنفيين وحتى الأدباء المعارضين، الذين ظل تأثيرهم في مجتمع قبلي في المقام الأول محصورًا حول أسلاك “الكامب الأمريكي”.
وكالة الصحافة اليمنية