إبراهيم بن على الوزيرالكل

بدلا من التيه ( 1 ) البداية والمنطلق

الأساس أولاً

 

البداية والمنطلق*

 

في أي مرحلة حاسمة من التاريخ يمر بها الشعب تكون البداية في مثل هذه المرحلة هي أخطر من المراحل كلها……!

 

لا يهم نهاية الشوط، لأن الذي يحدد طبيعته وصورته النهائية هو البداية.. ذلك هو المهم والخطير. نقطة البدء هذه أيها السادة إما أن تكون بداية خاطئة أو تحمل الصواب كله أو تحمل مقداراً من أيهما.. المهم أن نتائجها ستحمل الخطأ كله أو الصواب كله أو مقدار ما في المقدمات من خطأ وما فيها من الصواب. هذه حقيقة ثابتة ومن أهم ما يجب أن يعيه الذين يعملون من أجل بناء جديد أياً كان هذا البناء وفي ضوء أي عقيدة أو فلسفة كانت لذلك فمن المهم بل إنه كل شيء وإلا فلا شيء أن نفكر في المقدمات الفكرية والعملية لتأتي النتائج المتوخاة التي نؤمن بها، ونطمح الى تحقيقها. والبداية أو المنطق من حيث الفكرة هي الأساس الاول لأي تطبيق عملي وما التطبيق العملي للفرد والجماعة في أي مجال سياسي أو ثقافي أو اقتصادي أو اجتماعي أو عسكري أو تنظيمي أو إداري أو ديني أو أي شيء آخر من شؤون الحياة المتعددة إلا تطبيق أمين لفكرة.. سواءً أكانت متكاملة أو ناقصة، صحيحة أم خاطئة.. صحيح انه “اذا غربت الفكرة بزغ الصنم” على حد تعبير المفكر الاسلامي مالك بن نبي ولكن هذا الصنم هو في نفسه يحمل الفكرة الخاطئة والفكرة الخاطئة لا تحمل من الفكر إلا الاسم، إذ هي الجانب السلبي القاتم الذي تتنزه عنه الفكرة الحقة في نورها وهدايتها…… فسم الفكرة الخاطئة ما شئت فهي شر يمثل الجانب السلبي بل هي تجسيد للأصنام والأوثان وبالتالي للانحراف ولكل الارتكاسات المحزنة في دروب التأخر المظلم – والانحطاط المادي والروحي المقيت بما تقذفه احشاؤها القذرة في مجال التطبيق العملي.

 

 

 

الوعي الفكري أولاً

 

 قد نتعلم كيفية النظم الحديثة للإدارة مثلاً من طرق عمل وتنظيم وميزانية ومحفوظات وعلاقات انسانية الخ الخ، ولكن أهم من ذلك ان تكون لدينا الفكرة الصحيحة عن ذلك كله، إذ هي بمثابة الضوء المبين خلال ذلك كله أيضاً.. بل هي الروح النابض بالحياة في كل تنظيم وقوانين ودساتير ولوائح… بالنسبة لأي مجال حياتي من مجالات البنا المتعددة.. ما لم نتسلح بالوعي الفكري الصحيح فلن يكون بأيدينا امكانية السير لتطبيق ما تعلمناه وما افدناه من معلومات وخبرات جديدة. نحن نريد ان ننهض ونبني مجتمعاً حديثاً متمدناً حضارياً حسناً، ولكن ما السبيل الى ذلك؟ هل نجيب بذلك الجواب السهل غير المتعمق ((لدينا جهل.. فلنبن المدارس)) ((ومرض.. فلنبن المستشفيات)) ((وفقر.. فلنبن المشروعات الانمائية)) ولنقل ايضاً لدينا فوضى إدارية فلنفتتح معهد إداري حديث مثلاً… ولكن للأسف ليست هذه المسألة هي القضية وليست أيضاً بهذه البساطة الطفولية الساذجة. صحيح ان ذلك جانب من الحل، ولكنه مبتور أو بتعبير أدق جانب نتائج لا مقدمات…! ان هناك ما هو أهم من المدرسة، ومن المستشفى، ومن المشروع،ومن معهد الادارة، ويأتي في الدرجة الأولى التي يمكن ان توجد بعده المدرسة الخلاقة المبدعة والمستشفى الشافي، والمشروع الذي يمضي بالمجتمع في طريق الرخاء والسعادة وذلك هو: الانسان!، الانسان نفسه نقطة البداية والمنطلق الصحيح نحو أية غاية عظيمة أم حقيرة، جليلة أو تافهة، خالدة أو ميتة، نافعة أو غير نافعة…

 

إن المدرسة والمستشفى والمشروع ستكون نتائجها بالإنسان البعيد عن روح المدرسة والمستشفى والمشروع شيئاً غير ذي قيمة مصيرية، يحقق الغاية من وجوده، بل كلعبة من لعب الاطفال ليست الغاية منها غير العبث والتسلية ولكن ليس من التسلية في شيء أن تجد المستشفى لا تديره وتسيره الزامية أخلاقية في علاج المريض، في نظافته، في أمانة العمل والخدمة… وليس من التسلية ان يكون مربي الجيل وقدوة أبناء المستقبل مشوه الفكر منحرفاْ لا يهدي للتي هي أقوم…!، بل هو في سلوكه وحياته أسوأ مثل لحياة متخلفة تعيسة. ولا يمكن نجاح مشروع بأمانة اللصوص وكسل المترفين، وخداع المستغلين…! لا يمكن العبث والتسلية بمصير الإنسان.

 

 

 

الطريق الى الإنسان

 

ولكن ما هو الطريق إلى الإنسان المزود بالوعي، المستنير بالفكرة، العامل دائماً من أجل حياة أفضل وأمثل..؟ لابد أولاً من الإحساس بالمشكلة، مشكلة التخلف والظلم والاضطهاد والاستغلال وما ينطوي عليه من شقاء لا يوصف، وأحداث دامية، ومآس متوالية.. مشكلة المجتمع، مشكلة هذا الجيل الحائر..! مشكلة الإنسان الذي لا تظله الحضارة بظلها الخير السعيد… لابد من تشخيص المرض تشخيصاْ دقيقاْ لا يخطئ.‘ أرأيتم أن أي خطأ يرتكبه الطبيب، الطبيب له أخطأ في تشخيص المريض ماذا ستكون نتائجه؟ قد يؤدي مثل هذا الخطأ الى مضاعفات وقد يؤدي الى فناء.! بعد تحديد المرض وأسبابه بكل دقة يأتي دور العلاج. وأهميته لا تقل عن أهمية تشخيص المرض فما رأيكم في معالجة خاطئة..؟ من الذي يحس بالمشكلة على حقيقتها وفي صورتها المتكاملة..؟ من الذي يدرك الحلول الصحيحة..! هنا يأتي دور الفكر، الفكر الباحث دائماً عن الحقيقة، المتطلع دائماً الى التغيير المتأمل لحقائق الحياة في تطورها وتغيرها الدائب المستمر، المدرك لأسباب سعادة الأمم وسر شقائها. بقدر توفر جماعة لها مثل هذا الادراك الحي يكون النجاح حليف الشعب، يكون انتصار الفكرة على الصنم.. وبقدر ضعف القوة الواعية لحقيقة المشكلة وحلولها يتخبط الشعب ويتيه!!. هناك حقيقة رائعة حددها الله في هذه الآية الباقية… ((ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاْ يجز به)) (النساء:123).

 

 النتيجة هي بحسب مقدماتها: إن خيراً وإن شراً. نعم أيها الأخوة إذا كان الانسان هو نقطة ((بداية)) هو المنطلق الصحيح لأي نهضة فبطبيعة الواقع لا نقصد به هذه الكتلة من اللحم والعظم والدم بل الإنسان بما يحمله من فكر.. إنها لحقيقة أولى وقانون خالد أجملها القرآن الكريم في هذة الآية التي لا تبلى ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)). (الرعد:111) الإنسان: كمادة و كأداة.. والتغيير: كقانون أزلي.. والفكرة: كهدى وغاية.. والعمل: في ضوء ذلك كوسيلة.. وهنا يأتي دور الواجب، واجب الواعين الرواد في تحمل مسؤولياتهم على هدى وبصيرة فهناك في بلادنا مشكلة قائمة والفكر الواعي الأمين يدركها على حقيقتها في تولدها وتكاملها وتطورها والفكر المأجور وهو أحد روافدها الأصيلة التي يسقيها بمائه الآسن يعمل في نفس الوقت على تصويرها على غير حقيقتها، إذ أنها في واقع الأمر ليست سوى التجسيد الحقيقي له كما تدين بوجودها واستمرارها لفعاليته وبقائه وليس ذلك بمنفصل عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي… إلخ من مكونات المجتمع بل بتمثيله له وتفاعله معه، إن الواقع المعاش بجميع جزئياته وتفاصيله التي تكون إطاره العام هو التجسيد الحي للأ فكار ذات الفعالية والقوة والعكس صحيح.

 

وستسلط هذه الدراسة الأضواء على الواقع الفكري والمعاش أيضاْ، على الحقيقة وأعدائها… ولكن ستظل قاعدة إزالة الواقع سيئاً كان أم حسناً، هي: التغيير الفكري المتكامل الشامل والعميق، تغيير ما بالنفس على ضوء عقيدة صحيحة ومنهج مستقيم في حالة تغيير الى الأحسن وبقدر صحة العقيدة واستقامة منهجها يكون هذا الأحسن أكثر كمالاْ والعكس صحيح في حالة تغيير إلى الأسوأ بقدر الإنحراف يكون السوء..! وبطبيعة حتمية التغيير التي لا مرد لها يحدث تغيير الواقع الى الأحسن بشروطه وأسبابه والأسوأ بشروطه وأسبابه أيضاْ.. وبطبيعة الحال الذي يهمنا دراسته هنا هو التغيير الذي يضع وسائل الخلاص من كل لون من ألوان الشر والتأخر بين يدي الشعب ومع ذلك وسائل البناء والخير والحياة وبذلك تتبين أيضاْ أسباب التغير نحو الأسوأ إذ هي عكسها تماماْ. فما هي الطريقة العملية و المثلى لحدوث مثل هذا التغيير؟ إنني أجيب على ذلك بأنه: ايقاظ الوعي الصحيح في صفوف الجماهير الواسعة وطلائعها المفكره بوجه خاص فبقدر وعيها وإدراكها سيكون طريق موكب الحياة الأفضل معبداً لإحراز نصر لإنسان بلادنا لا يهزم.. يمكن أن تكون لدينا هذه المعادلة:

 

إنسان + وعي + فكرة = تقدم وبناء. وهنا مجال الحضارة والمدنية..!

 

إنسان – وعي – فكرة – = تأخر وتخلف وارتكاس..

 

وهنا مجال الشرور والآثام والآلام وعتمة الخراب..! والمآسي التي تجدد دوماً وتدوم بدوام ذلك. ومن هنا نفهم قول الله تعالى (إنهم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) {الفرقان:44} إنه لا يكفي أن يكون ما نطمح إلى تحقيقه غاية سامية تسيرنا أفكار صائبة لأن الأفكار الخاطئة هي بمثابة جراثيم فتاكة قد تعرقلنا في الطريق نحو الغاية المثلى.. وقد تسبب لنا أشد الآلام والأحزان والمآسي المتوالية.. قد تجعلنا نتيه زماناً وقد يكون إلى الأبد حيث يستبدل بنا قوم آخرون. وكم محيت أمم من الوجود قديماً وحديثاً أو تاهت أو تخبطت! بينما أمم أخرى قد وصلت إلى آفاق الحضارة سالمة في مرحلة وجيزة. ذلك أن الأفكار الخاطئة هي أخطر من الوحوش المفترسة على الطريق.. وعلى الضد من ذلك تماماً فإن الأفكار الصائبة هي الأقباس المبددة لكل ظلام السريعة اللحاق بموكب الحضارة والخير. قد نصل إلى غاياتنا في مدة وجيزة وقد لا نصل إلى بعد عشرات السنين، بقدر سلامة الطريق نصل الى الغاية المتوخاة في الزمن الذي تتيحه سلامة الطريق. بلد كاليابان قفز من عصور الانحطاط الى الحضارة الحديثة ووضع أسس خلقها وإبداعها لا استيرادها أو الهروب منها – في نحو ربع قرن. وبلد كتركيا مثلاً لا تزال تتخبط ما يقارب من نصف قرن من الزمان رغم أتاتورك وثورة اتاتورك. ليست الحضارة إذن أن نبني شارعاً جميلاً تحف به الأشجار، وتزينه الحدائق، وتزيده بهجة نافورات المياه، ليست الحضارة أن ننقل نقلاً حرفياً عن غيرنا..! من الممكن نقل السيارة والطائرة والثلاجة والسخان ومكيفات التهوية والراديو والتلفزيون الخ الخ من منتجات الحضارة فهل معنى ذلك أن ناقلها أصبح متمدناْ، وأصبح حضارياً إنها غريبة عنكم لا رابطة بينها وبينكم، رابطة خلق وإبداع لأنها أشبه بالعارية التي لا تملكونها أشبه بثوب العرس المستعار، أشبه بمعرض تجاري أو أشياء غير شرعية من خلق وولادة غيركم..! إن الأوروبي مثلاْ الذي قد لا تجد في شارعه أياً من المهملات وربما لا تجد فيه حتى قصاصة ورقة صغيرة وستجد المدينة متألقة بالنظافة التامة التي يحرص عليها المجتمع.. ان ذلك مرتبط تماماً بصناعة كل منتجات الحضارة من الابرة إلى الأقمار الإصطناعية في ضوء فكرة تشمل روح مثل هذا المجتمع المتحضر يصدر في أموره تلك عن وعي تام بها..

 

حقيقة أخرى: إن مجتمعاً يملك الوعي كل فرد فيه لهو مجتمع يحرس النظام، يحرس الخلق الكريم، يحرس القيم، يحرس مثل الإنسان والايمان بالإنسان بعيداً عن وسائل القمع والقانون القهري المتجسد في أجهزة الدولة أياً كانت.! إن مثل ذلك المجتمع لهو مدرسة للحياة الأكرم والأسعد.. وهكذا نرى بوضوح أن الحضارة خلق وإبداع وبطبيعة الحال لا يتبادرن الى أذهانكم ان ذلك منقطع عن الحضارة العالمية وفي عزلة عنها. بل ان ذلك يعني ان الطريق إليها ليس في تكديس أشيائها والأخذ بقشورها، والوقوف إزاءها على طريقة الببغاوات ولكن عن طريق فهمها وفهم أبعادها الفكرية والمادية وبناء الإنسان أولاً، وخلقها وصنعها ثانياً.. أما الحضارة في حد ذاتها وفي جوهرها ونتائجها فحق مشاع لكل البشر.. إنني أقصد أنك إذا بنيت الإنسان الذي يهتدي بالفكرة الخلاقة المبدعة والذي تنير جنبات ضميره الحي إلزامية أخلاقية بناءة لن ينقل منتجات الحضارة بل سيصنعها سيخلقها في بلاده على هدي العلم، وهدي التجربة البشرية، وهدي ضميرٍ واعٍ لما يريد..! إن نقل منتجات الحضارة مهما ملأنا بها مجال حياتنا ليس بحضارة بل هو بالضبط إنشاء سوق لمنتجات غيرنا والفكرة التي يؤمن بها ويهتدي بنورها غيرنا..! إن الحضارة تشمل الحياة الروحية والمادية ويكون مصدرها ونبعها فكرة واعية يحمل رسالتها الإنسان..! وعند وصولنا الى هذا التحديد وعلى ضوء ما تقدم علينا أن نلقي أضواء كشافة على الأمراض التي شدت وتشد مجتمعنا إلى واقعه البائس التعيس الحزين الغارق في المأساة المتخبط في السبل المتعددة..

 

 

 

*هذا جزء من محاضرة وبحث دراسة للقضية اليمنية ألقاها المفكر الاسلامي إبراهيم بن علي الوزير على طلبة المعهد الاداري بصنعاء عام 1964م. والتي طبعت كاملة في كتاب بعنوان: “بدلاً من التيه”.

 

المصدر: قناة المفكر إبراهيم بن علي الوزير في التلجرام

 

@ Ebrahimalwazir

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى