الوضع الاعتباري للإعلامي العربي في ظل تحرر وسائل الاتصال
مكسب كبير أن يتراجع مفهوم النخبوية في مجال الاتصال، ويحل محله الاتصال العام أو الشعبوي بشبكاته الاجتماعية المختلفة، الحرة والواسعة. فقد أصبحت وسائل الاتصال ملكا مشاعا، فهي تنقل الخبر اليوم بسهولة بين مختلف المناطق في العالم والبشر، وفي الوقت القياسي المطلوب. الأمر الذي يعطيها حضورا دائما، ويوفر ردة الفعل المباشرة.
قبل أن ينتشر خبر ما اليوم، على مستوى الصحافة والقنوات الإخبارية، يكون قد قطع مسافة كبيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتبعته ردود فعل متتالية ومتباينة. العمليات الإرهابية المختلفة التي تصل أخبارها وصورها في القنوات، برغم سرعة حركتها عبر الأقمار الصناعية، يكون المشاهد قد رآها، أو سمع بعض تفاصيلها عبر الوسائط الاجتماعية الجديدة، في الدقيقة الأولى من حدوثها، وربما في الثانية التي تعقب الحدث. ولا يهم في النهاية إذا كان التحليل متسرعا. المهم أن المادة متوفرة ويمكن أن توضع تحت مرايا التحليل.
لكن هناك عقليات لا تزال متسبدة، تقليدية، ترفض التغيير والسير حثيثا وفق سرعة الوسائط الاجتماعية الحديثة التي تحكم الصحافي المهيأ لدور أفضل، الذي يفرض عليه أن يظل في مداراتها المختلفة والصعبة.
لا تزال الدولة المركزية في العالم العربي تظن أنها سيدة الشأن في التحكم في الخبر، وتنسى أن الخبر أصبح ملكية مشاعة في لحظة خروجه إلى العلن.
ويجبر الصحافي، للأسف، على السير في المسالك الحكومية العاجزة نفسها إذ كثيرا ما يبدو فيها الصحافي مصابا بشيزوفرنيا غير مسبوقة، ينشد رضا المؤسسة التي يشتغل فيها على حساب الحقيقة الموضوعية. ليس لأن الصحافي ضعيف أو لا يعرف، ولكن لأنه موجود داخل دائرة عمياء ترى ما تريد أن تراه، وليس شرطا أن يكون هو الحقيقة. بينت المشكلات العربية الأخيرة والتمزقات العميقة التي حصلت في العالم العربية وتبعاتها الإعلامية، أننا ما زلنا نعاني من وضع شديد التعقيد، لدرجة أن يتفاجأ القارئ المتابع وقد تغير الصحافي كليا، وسار في مسلك غير الذي نعرفه عنه، فنتساءل إذا ما كان فعلا مسؤولا عن كلامه. وهل هو الشخص الذي كنا نعرفه وتابعناه بحب، فيختار خط الجريدة وتذهب الحيادية في صياغة الخبر بل يخوِّن ويُخَوَّن ببساطة. هذه الأوضاع والاصطفافات الإعلامية أعادتنا فجأة إلى نموذج السبعينيات المراقب والمبرمج من الدولة، التي ترى مشكلتها في انضواء الصحافي تحت جناحيها، وإلا تصبح حياته المهنية والحياتية في حالة تهديد لا يمكنه تجاوزها. وننسى، ونحن نتابع الصحافة العربية المكتوبة والمرئية، أن الزمن تغير ولم يعد ما كان قبلا هو الصحيح. وعندما نفتح على المواقع، نجد الاصطفافات ذاتها لأن وراء هذه المواقع أسماء وأفراد مركز تمويلهم يحتم عليهم هذه الخيارات.
يجب أن ندرك أن هذا الزمن، وهذه الطريقة في المعالجة الإعلامية لم تعد نافعة أمام الوسائط الشعبية التي كسبت مصداقية كبيرة حتى بأخطائها وحماقاتها وتسرعها الذي تبرره شعبيتها. ردود فعل سمحت للمواطن بأن يشترك في بلورة الرأي خارج الرسميات وأن يكون حاضرا فيه. مواقع الفيسبوك مثلا وتويتر، وغيرهما، تسير المعلومة بسرعة لا تضاهي. توفر مادة أولية لا غنى عنها للصحافي ليتمكن من صياغة رؤية ما. إذ الأهم هو كونها تعبيرا حرا في عالم لا يزال مقيدا بقناعات بالية أكل عليها الزمن وشرب، لأن لا أحد أصبح يصدقها بالخصوص عندما تبالغ في تقديس المؤسسة الرسمية التي تحتاج اليوم، إلى احترام هذا القدر من الحرية الشعبية في وسائلها الإعلامية الثقيلة، فهذا يضمن لها الاستمرارية والحياة والدم الجديد. ويمكن طبعا مخالفة الرأي الخاص وبلورة نقد حوله لحفظ التوازن في الفكرة، أما أن تسير الجريدة أو القناة، بمنطق الآخر المختلف عدو ومخطئ لا يخدم موضوعية الفعل الإعلامي. لهذا نلحظ في السنوات الأخيرة، انهيار الكثير من القنوات، التي تمت مقاطعتها أو الكثير من الصحف الورقية العتيقة، لأنها لم تدخل هذا العنصر الجديد في تعاملاتها وظلت بعيدة عن الحركة الاجتماعية. حتى النسخة الالكترونية للجريدة تموت ولا تقاوم قوة الإعلام الشعبي، إذا بقيت تُسيّر بالمنطق نفسه، شبيهة للنسخة الورقية من حيث المحتوى والشكل، وتكون مؤهلة للموت كما حدث بالنسبة للكثير من الصحف إذ لم تستفد مما يمكن أن يمنحه لها الوسيط السمعي البصري الجديد.
كالحوارات مثلا بدل أن تكون مقروءة، يمكن أن تكون مرئية أيضا وحية ويمكن فيها التعليق والتفصيل. التحقيقات الكبرى عن المناطق الجميلة أو المدن العتيقة، في المناطق الممكن تصوريها. بدل الكلام، يمكن الاستعانة بالشريط الحي لتدعم المحكي أو تدعمه على الأقل. التفاعلية أساسية اليوم في المجال الإخباري والإعلامي. الكلام عن سيمفونية في الصفحة الثقافية يمكن أن تردف مع المقالة السيمفونية نفسها مع المكتوب.
حديث شخصية سياسية إشكالي والتعليق عليه، يمكن أن يمر عبر الصورة الحية أيضا. بدل الحديث عن تصريحاته الخطيرة مثلا، يمكن وضعها في متناول المشاهد إذا كانت متوفرة. هذا يمنح الصحيفة مصداقية كبيرة. المقالة الصوتية التي تجعل من القراءة السماعية أمرا أسهل من المكتوب. هناك مساحات لا توفرها المقالات التقليدية وتخفف على القارئ كثيرا. لا يزال الإعلام العربي رهين هذه الوضعيات التي تقلل من فاعليته، وتربطه بآليات الحاكم.
في النهاية، ربما كان، ليس فقط على المشرف على الجريدة، ولكن على الممول أيضا، أن يتوفر على قدر من سعة الخاطر والثقافة، بحيث تصبح حرية الصحافي جزءا من قناعاته التي يجب احترامها، حفاظا على سمعة وسيلته الإعلامية في خوض الحروب الثقافية والإعلامية الخطيرة دوليا ومحليا. لا يعني هذا أن الصحافة الدولية موضوعية.
الكثير منها له قناعات مترسخة، وعداوات عمياء ضد العرب، لكنه يلعب اللعبة الموضوعية إلى أن تصبح مهددة لمصالحه الكبرى والاستراتيجية. الوسيلة الإعلامية عندما تتحول الى منبر دعائي لأيديولوجية أو مجموعة سياسية أو اجتماعية أو مالية، بشكل فجّ، تفقد قوتها، والأكثر من هذا مصداقيتها، وتتحول إلى قوقعة فارغة.
وهذا أخطر ما يمكن أن يحـــــدث للوسيط الإعــــلامي الــــذي يحتاج إلى الاســــتـمرار في الحــــياة. مهما كانت المهنية أساسية، فهي لا تكفي لوضع إعــــلامي عربي جديد، نـــزيه، حيوي، وصحي أيضا، تظل حرية الإعلامي أكثر من ضرورة، استمرار في الحياة.