الحياة لا تقبل ميتاً …
أ / عائشة عبد الله المزيجي ـ جامعة ذمار
لمدة ما اعتدت المرور يومياً ذهاباً وإياباً إلى مقر عملي من المقبرة , ومرة وجدت خطواتي تخرج عن فضاء المقبرة إلى خارج السور الفاصل بينها والشارع العام على الرصيف , حيث حركة السيارات وحركة بيع الدكاكين , وحيث الحوار بين اثنين , أو ثلاثة يترامى إلى مسامعي , حيث الأصوات العالية من الصبيان على قبيل الضحك والمزاح , حيث صوت قلي البطاطس تتطاير رائحته إلىّ من مسافة , حيث آخر برامج الإذاعات المدرسية تحيط بي من كل جانب بعدد المدارس. وقد كنت أدركها وأنا على فضاء المقبرة ولكن ليس كما الآن عند الشارع العام .
حركة دؤوبة أدركها ببصري وسمعي وبحاسة الشم , شعور بالحياة يتخلل جسدي , ثم روحي , وأنا على رصيف الاسفلت, أشعر برغبة جامحة للحركة, للتفكير, للإبداع, للإنجاز , شعور يفاجئني بعد صحبة طريق المقبرة مدة طويلة. لا أنكر ما وصلني من تذكر للآخرة وحنيناً إلى أمي وأبي وبقية أقاربي, ثم الترحم عليهم , في صحبة المقبرة أصبحت أقرب إلى الخوف والتقوى وأكثر حذراً من الاقتراب من صغائر الذنوب قبل كبيرها.
أصدقكم القول أن الاقتراب من الآخرة بأي وسيلة كانت ولو على مستوى دقائق مشيي في المقبرة لشىء جميل . وجميل جميل ما وصلني من دفقات الحياة حين عايشت كل ما هو حي على الطريق العام . ولا بأس من بعض مرات تعد على الأصابع أمر في فضاء المقبرة .
تعمقت في أفكاري وتفسيري لما أصابني فجأة , من مفارقة مكانية وشعورية , وصلت فيها أن الحياة لا تقبل ميتاً , الحياة تحتاجني حية التفكير, حية الابتكار والابداع ,أيا كان نوعي ذكراً كنت أو أنثى , ربة بيت أو عاملة , أماً أو بنتاً , شاباً أو راشداً شيخاً أو كهلاً كل له حركة تناسبه يلتقي بها مع الحياة ؛ لأننا باختصار خليفة الله في أرضه , أفضل مخلوقات في الكون .
نعم لنا حياتان آخرة وبداية طريقها من مكان المقبرة حيث اللحد , وحياة دنيوية نتشعب فيها في كل البقاع , وجميلها أننا نصاحب الآخرة بمقدار ما نراقب الله في تحركاتنا , وسبق نية الخير, والعمل لوجه الله حتى على مستوى خدمة الأم زوجها وأبنائها ثم غسل ثيابهم , أو على مستوى توفير الأب لبيته ما يعزز طلبهم الآخرين, أقصد كل كبير واجب من العمل , وكل صغير لا يؤبه له , وهو كبير عند الله .
الآخرة ألا أظل بشخصية وإمكانات القرن الرابع عشر وأنا ابن وابنت ما بعد القرن العشرين , سأصاب بالجمود واللاحياة , فالحياة تصاعد للأعلى إنسانياً وعلمياً . الحياة ليست البكاء على رفات الأموات كل يوم اعتاد المرور من المقبرة , أو البكاء الدائم على ذنب ارتكبته , يغفره الله إن أقبلت عليه الإقبال الصادق .
من ثقافة تناقض المكان , أدركت أنّا فطرنا على الحياة وهو دورنا فيها , نستشف ذلك من مفارقة شعورنا التلقائي ونحن على فضاء المقبرة, أو بين الناس , حتى أصوات الطيور وحركتها نستوحي حياتها في السماء حيث الناس أحياء, أكثر منها على فضاء المقبرة التي لا نكاد نسمع منها إلا أصوات موحشة .
لست في مناسب تثبيط الإقبال على الله , والاهتمام بالآخرة , لمن رأى الآخرة فقط في جعل طريق المقبرة طريقاً له.
أنا في صحوة تكشف سكوننا رتابة أيامنا , ونمط حياتنا , أتساءل أين جديد الطبيب أين نجاح المحامي , أين إبداع المهندس وخياط الملابس , أين فن وثقافة البيع لدى التجار,أين التفكير أن نكون أمة منتجة لا مستهلكة, أين ضم الحياة بالخروج عن كل ما هو نمطي تقليدي رتيب لا يناسب الثورة العلمية من كل أنواع العمل في كل جوانب المجتمع , وعلى مستوى كل الأفراد .
تغيير يصل حتى على مستوى طريقة اختيار لعبة الصغير , الذي نثور في وجهه وهو يفضل اللعبة الالكترونية على لعبة الطين والكرتون في الشارع . لماذا الثورة ألا ندرك أنه ابن الثورة العلمية وسيكون ميتاً أمام تقدم العلم وهو جاهل عن فك رموز لعبة الحاسوب.
الحياااااااااااة لا تقبل ميتاااااااً . إن دام إصررنا على الموت في عمق الحياة سنتوارث نمط جدي وجدتي وحتى هيئة تفكيرهما , وسنبدع في التفكير بكيف نجعل الناقة أداة ركوب أسرع مما هي عليه , في عصر أصبحت الطائرة في فناء الإنسان .