التوق لوطن مستقل أو الموت على الحدود ..
بين عامي 97 و98، تعرفت إلى طفل ذكي وهادئ، وصامتٍ في الغالب طيلة استماعه لثرثرات مقيلنا، أنا وأشقاؤه الأكبر، في ديوان منزلهم العامر في إحدى القرى اليمنية.
ستتفرق السبل، بيني وأشقائه/ أصدقائي، وستأخذ الدنيا كلاً منا في وادٍ، كما هي عادة الأيام والسنين.
………….
قبل أشهرٍ، كنت بالقرب من “ميدي”، التقيت بعقيل الشامي، القائد العسكري المحنك الذي ينجز منذ أزيد من سنتين ملحمة يمنية خالدة، في الدفاع عن حدود اليمن الشمالية الغربية.
لم أكن أعرفه، كنت أسمع به كسائر الناس، وهذه هي المرة الأولى التي أقابله فيها.
شاب في العشرينات من عمره، حاد الذكاء دمث الأخلاق، هادئ متواضع، وعليك أن تبذل جهداً لكي تنتزع منه جملة أو اثنتين عن بطولات جبهته. إنه لا يحتفل بالبطولات الخاصة ولا يحتفي بالثناء، وينهمك، أكثر، في الحديث عن عظمة جنوده وعن ما ينبغي على الناس أن يفعلوه لدعم المعركة.
وهذا جعلني أتعمد أن أكون، في أسئلتي، رزيناً أكثر منه رغم أني جئته محمولاً على جناحٓيْ الإعجاب والدهشة بصموده الأسطوري في وجه أعتى قوة عسكرية إقليمية، وأعتى محاولات اجتياح تتعرض لها أراض يمنية على الإطلاق (الاجتياحات العثمانية والبرتغالية والبريطانية تبدو متواضعة قياسا بهذه المحاولات).
ستنتهي هذه الحرب كيفما انتهت، ولن تنتهي، طوال التاريخ، حقيقة أن هذا الشاب اليمني العشريني، أهدر كرامة جيشين اثنين: السعودي والسوداني. ومرغ في صحراء ميدي أنف ثلاثٍ من أعتى القوات الجوية في العالم والمنطقة: الأمريكية والسعودية والإماراتية.
35 مقاتلاً من جنوده اقتحموا منطقة الحثيرة السعودية الحدودية خلال ثلاث ساعات. فيما عجزت السعودية، بجيشها أولاً، ثم بجيش من المرتزقة اليمنيين ثانياً، ثم بمجاميع دينية لا شبيه لها إلا داعش ثالثاً، ثم بالجيش السوداني رابعاً؛ عن اجتياح حتى ثلاثة كيلومترات في حرض وميدي، وطوال سنتين وثلاثة أشهر.
هل هذه مبالغات؟؟
هل كانت السعودية تبالغ إذاً وهي تتحدث عن معارك “تحرير” حرض وميدي منذ بداية “العاصفة”؟!
قبل أن تبالغوا في استغراب معجزات هؤلاء اليمنيين المدفوعين في بسالتهم بعدالة القضية وبفداحة الشعور بالظلم؛ سلوا السعودية، أين هو هذا “التحرير”، وأين وصلت هذه المعارك؟!
أو، وتخفيفاً للإحراج، سلوها أين وصلت معارك تحرير “الحثيرة” التي تحتاج لتحرير فعلاً، وقد ذهبت كل معارك تحريرها نفس أدراج الرياح التي ذهبت فيها محاولات احتلال حرض وميدي.
…………،،،،،،
بواسطة أحدث طيران، وبأحدث الأسلحة؛ أحرقت السعودية الحجر والشجر في حرض وميدي وأحالتهما إلى مدن وقرى ميتة، ومناطق غير مأهولة، مرتكبة أبشع جرائم الحرب الجماعية، كي يتسنى لها لاحقاً الاجتياح. وحين حاولت المرة الأولى صدمت بما ستُصدم به محاولتها للمرة الألف: صدمت بجدارٍ يمني عازل، وشديد البأس، قوامه مقاتلون معظمهم في عمرٍ أصغر من عمر قائدهم العشريني، وبأسلحة تكاد تجعل منهم عُزّلاً قياسا بسلاح خصمهم، وفِي أرض تشن عليك طبيعتها الصحراوية الجافة حربا أقسى من حرب خصمك.
مقاتلون يكمنون لعدوهم تحت شوك الصحراء كالأفاعي المرقطة، حتى إذا اقترب العدو أذاقوه سماً وأعادوه جثماناً.
وطوال الوقت لا ينفك طيران الأواكس الاستطلاعي، والطيران الحربي بأنواعه، في ساعات المعارك أو خارجها؛ يحلق فوق رؤوس هؤلاء المقاتلين مترصدا كل حركة وكل سكون عسى ينال ولو من فرد منهم، حيث المقاتل الفرد هنا (وفِي باقي الجبهات) تُشن عليه غارة جوية بل وغارات جوية كاملة، وهو ما لم يحدث في كل الحروب التي يعرفها الناس.
لو لم نرٓ، ولو لم نعش، لما صدقنا.
جبهة ميدي تعيد كتابة تاريخ كامل من العلاقات بيننا وبين جارنا المؤذي، المتغطرس، والمستعين علينا دوماً، بأكبر ثروة، وأكبر ترسانة نفاق دولي.
………
هل تتذكرون الطفل في بداية المقال؟؟
في منتصف حديثي مع عقيل الشامي تعرفت عليه وتعرف علي: لقد كان هو ذلك الطفل الذكي والهادئ. ولقد كانت دهشتي كبيرة، ليس لأن العالم صغير ومصير الحي يتلاقى كما يقال، بل لأن من يصنع هذه الملحمة اليمنية الخالدة، ومن يقف في أساس هذا الجدار اليمني الأسطوري، هو في هذا الحد من صغر العمر.
ومثله مقاتلوه، وسائر زملائه في جبهات الحدود الأخرى.
هنا يمنٌ فتيٌ.. صاعدٌ.. لا يتوق لشيء كما يتوق لوطن مستقل، أو الموت.. على الحدود.
هذا هو المهم.. وهذا هو كل شيء بالنسبة لي كيمني، ولتذهب الانقسامات السياسية إلى الجحيم.