أحـزاب المشترك والمشـروع الوطني.. الماضي الحاضر
طغى صوت المعركة على ما عداه، وارتدت مفاعيل الموقف من الحرب العدوانية على البناء الداخلي للأحزاب السياسية اليمنية التقليدية، ولتكتل اللقاء المشترك على نحو خاص، غير أن لحمة المشترك ومستوى أداء أحزابه السياسية والتنظيمية كانت قد تراجعت بعيد ثورة 11 فبراير وتداعيات توقيع المبادرة الخليجية، وما تلاها من محاصصة سياسية وضعت حدا للفعل الثوري والميداني، وحالت دون فرز واضح بين قوة سياسية تحكم وأخرى تعارض وفقا للتقاليد الديمقراطية التي عرفتها اليمن نسبيا قبل ثورة الشباب التي رفعت شعارات كبيرة، وقدمت تضحيات أكبر، ثم تمخض الجبل ليكشف عن حمل كاذب لا أكثر.
الأهم من ذلك أن الأحزاب التي كانت وريثة ورافعة المشروع الوطني اليمني حتى وقت قريب، لم يعد يصدر منها إلا ما يشكل تضادا مع الأحلام المشروعة في بناء دولة مدنية ديمقراطية عادلة مستقلة وذي سيادة، ونظام سياسي يقوم على التداول السلمي للسلطة واحترام الإرادة الشعبية، وما يرتبط به من تعددية حزبية وبيئة ضامنة للحقوق والحريات بمختلف تصنيفاتها.
ما قبل 11 فبراير
في 2006م، حين شهدت اليمن انتخابات رئاسية تنافسية غير مسبوقة على الصعيد العربي المحيط، تبلور النظام السياسي على نحو جلي بين سلطة وحزب حاكم ممثلا في المؤتمر الشعبي العام، وبين كتلة تاريخية معارضة ممثلة باللقاء المشترك الذي كان قد أطلق في 2005م مشروعا طموحا للإصلاح السياسي والوطني الشامل.
برزت إرادة التغيير السلمي مسنودة بهبة شعبية، وتقاطر عشرات الآلاف من الشباب إلى المهرجانات الانتخابية لمرشح المشترك والمعارضة المهندس فيصل بن شملان رحمه الله، وفي المقابل استنفر الحزب الحاكم كل إمكانات الدولة ووظفها في الدفاع عن سلطته وشرعيته، بهدف انتزاع التجديد لرأس النظام السابق على عبدالله صالح، وقد كان.
مع ذلك فقد شكلت خسارة المعارضة للانتخابات الرئاسية والمحلية معضلة كبيرة للسلطة، خاصة أن المراقبين المحليين والدوليين كانوا على ثقة أن حجم المعارضة أكبر من النتائج المعلنة، والتي فرضها نظام صالح كأمر واقع. وحين اقترب موعد الانتخابات النيابية التي كانت مقررة في 2009م، وبعد مفاوضات ساخنة أمكن التوافق بين السلطة والمعارضة على تأجيل الانتخابات والتمديد لمجلس النواب لمدة عامين إضافيين، الأمر الذي أوحى بأن المشروع الديمقراطي اليمني قد وصل إلى طريق مسدود، وأن انتزاع الحقوق السياسية يتطلب العمل من خارج القواعد التي بدت قيودا لا فكاك منها مع تعاظم شهية صالح في السلطة والعمل على توريثها في أسرته، وإن تطلب الأمر الانقلاب على الدستور ذاته و” تصفير العداد ” من جديد.
ربيع الثورة وخريف المشترك
حل عام 2011 على وقع تسونامي ما يعرف بالربيع العربي الذي لم يتأخر كثيرا حتى وصل اليمن، فخرج الشباب إلى الساحات ثائرين، وانتهز تكتل المشترك الفرصة، ودعا أعضاءه إلى الالتحام بالثورة السلمية، مطالبًا كغيره من القوى الثورية بإسقاط النظام ومحاكمة رأسه ورموزه. التزم المشترك وشباب الثورة بالنهج السلمي، ورسم اليمنيون حينها لوحة زاهية أدهشت العالم. وعندما أمعن النظام السابق في القمع والعنف، وكادت الثورة أن تقع في فخ العنف المضاد، تصدى المشترك للمسئولية التاريخية، وانخرط في المسار السياسي التفاوضي وصولاً إلى توقيع المبادرة الخليجية التي حقنت دماء اليمنيين وحالت دون الحرب الكارثية، مع تحقيق الهدف الرئيسي للثورة ممثلاً في نقل السلطة.
بموجب المبادرة الخليجية غدا المشترك طرفاً أساسياً في التسوية السياسية، وجزءًا رئيسًا من النظام الحاكم الجديد في ظل الفترة الانتقالية وحتى سبتمبر 2014م، غير أنه واجه انتقادات منذ اللحظة الأولى التي أبدى فيها استعداده الاستجابة للمبادرة الخليجية، التي قامت على ركنين اساسيين: نقل السلطة من الرئيس صالح إلى نائبه، ومنح صالح حصانة قانونية تجاه الجرائم التي ارتكبها قبل نقل السلطة.
رفض عديد من الثوار الشباب هذه الحصانة، واعتبروا المبادرة الخليجية التفافا على الثورة الشعبية، غير أن المشترك لم يتفاعل مع المعترضين على النحو المطلوب، فجازف بالتوقيع على المبادرة الخليجية دون اشراك بقية القوى الثورية من الشباب المستقلين عن الأحزاب السياسية، أو القوى الفتية الأخرى المنضمة للثورة والمحسوبة على الحراك الجنوبي أو جماعة الحوثي ( أنصار الله لاحقًا).
واعتمد المشترك في ذلك على الثقل الكبير لأحزابه – خاصة الإصلاح- في الساحات الثورية. وساعده أيضاً أن مسار الثورة في بقية بلدان الربيع العربي ( سوريا وليبيا )، كان ينذر بإمكانية تحول الوضع في اليمن إلى حرب أهلية إذا لم تنجز التسوية السياسية، بناءً على المبادرة الخليجية التي حظيت برعاية سعودية /أمريكية، وبمظلة أممية شكلت عاملا ضاغطا وحاسمًا في حينه.
بالرهان على الدعم الدولي خاض المشترك استحقاقات التسوية. ومنذ الأيام الأولى لتشكل حكومة الوفاق وجد المشترك نفسه مضطرا للدفاع عن الواقع الجديد المشوب بتناقضات لا تستقيم والأسلوب الثوري. وبات عليه أن يدافع عن شراكته مع النظام السابق، فيما استغل الرئيس المستقيل الحصانة، فعمد من خلال امتداد نفوذه في الجيش ومختلف أجهزة الدولة، وفي البني الاجتماعية على إعاقة تسيير شئون الدولة، وتحميل المشترك مسئولية الاخفاقات التي رافقت الفترة الانتقالية حتى سقوط حكومة الوفاق.
توالت أخطاء المشترك وأداؤه المرتبك في إدارة العملية الانتقالية، وبرغم أنه كان لا يزال يملك الشعبية الكبيرة والقدرة التنظيمية على إدارة الحشود في مختلف المحافظات، إلا أن أحزاب التكتل بدأت تتنازل شيئا فشيئا للحزب الأكبر، وبدوره استحوذ حزب الإصلاح على قرارات اللجنة التنظيمية الثورية، وأشرك إلى جانبها – في الخفاء والعلن- القوى التقليدية النافذة التي قفزت إلى قارب النجاة لا تلوي على شيء، فمنحها الإصلاح والمشترك هامشا للفعل الثوري اتسعت مساحته يوما بعد آخر حتى غدت الرقم الصعب في المعادلة السياسية.
وإلى جانب خطيئتي الحصانة، وتمكين علي محسن الأحمر، غامر المشترك بقوته التنظيمية والسياسية، وتنازل عنها لصالح المجلس الوطني لقوى الثورة، الذي أصبح إطارا يقوده حميد الأحمر ويتحكم من خلاله في أداء حكومة الوفاق ورئيسها محمد سالم باسندوة.
لمعت فكرة المجلس الوطني حين طرح أمين عام الحزب الاشتراكي السابق ياسين سعيد نعمان، ضرورة توسيع إطار المشترك ليشمل القوى الثورية جميعها أو أغلبها، ولقيت الفكرة تشجيعا من حزب الإصلاح وموافقة من بقية أحزاب المشترك، وبعض الفصائل الثورية، غير إن الإخراج المسرحي للفكرة، أفضى إلى حقيقة أن المجلس الوطني قد جاء بديلا للمشترك بل وعلى الضد منه، وغدا في الحقيقة إطارا لحزب الإصلاح وشركائه التقليديين الذين كانوا من أعمدة وأركان نظام صالح. وحين انكشفت الخديعة لبقية أحزاب المشترك، كانت وتيرة المتغيرات تتسارع نحو الانتخابات الرئاسية، والتحضير بعدها لمؤتمر الحوار الوطني.
فبعد أن انتزع صالح الحصانة وفقا للمبادرة الخليجية، فقد فرض كذلك شروط تسليم السلطة، حين تم التوافق على الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية، التي تضمنت إجراء انتخابات رئاسية صورية وغير تنافسية، كان فيها عبدربه منصور هادي المرشح الوحيد.
ضحت أحزاب المشترك بالمبادئ وبالمشروع الوطني برمته، وبصمت على الآلية الجديدة للتغيير، وجازفت مرة أخرى بعلاقتها مع القوى الثورية المستقلة، وتعاملت مع الانتخابات كانتصار سياسي لا غبار عليه. ولم يكن هناك من مبرر حقيقي سوى أن “سكرة ” السلطة ومغانمها قد أعمت شيوخ المشترك وشبابه.!
مؤتمر الحوار والمشروع الوطني
واصل الـمشـتـرك نزيف النقاط سواء بفعل اندفاع حزب الإصلاح إلى السلطة ومحاولة التحكم في مفاصلها، مع التنصل عن فشل وفساد وزراء الـمشـتـرك والمجلس الوطني في حكومة الوفاق، أو بفعل غياب الرؤية الاستراتيجية في التعاطي مع حساسية المرحلة وأهميتها الاستثنائية. وهي نقيصة أصابت كل القوى الثورية تقريبا.
خلال الفترة الانتقالية ترنحت البلد وتبخرت الأحلام الثورية على وقع التقاسم والمحاصصة، ورغم أن الـمشـتـرَك كان يضم ستة أحزاب تاريخية، فإن المكاسب والمناصب السياسية في معظم مراحل ما بعد الثورة الشعبية اقتصرت على ثلاثة أحزاب (الإصلاح، الاشتراكي، الناصري)، وإذ استأثر الإخوان المسلمين وشركائهم بنصيب الأسد، فقد كان التقاسم على حساب ثلاثة أحزاب أخرى في المشترك، وهي: حزب الحق، البعث العربي الاشتراكي، واتحاد القوى الشعبية.
وهكذا ظهر المشترك ما بعد 11 فبراير بثلاثة رؤوس فحسب، وغدا أمناء عموم الثلاثة الأحزاب مستشارين للرئيس الجديد وشركاء له في صناعة القرار، غير أن صراع المصالح تفاقم إلى درجة أن المكاسب لم تعد تقبل القسمة على ثلاثة فأكثر.
ضحى الإصلاح والمشترك ببقية رفاق النضال من الأحزاب الوطنية، وحين حل استحقاق مؤتمر الحوار الوطني الشامل، استأثرت الأحزاب الثلاثة بالنصيب الأكبر من حصة المشترك ومقاعده في مؤتمر الحوار. وفوق ذلك جرى تمثيل المشترك تحت اليافطات الحزبية المكونة له، ولسان حال الإصلاح يقول أن شركاء مرحلة ما بعد الثورة غير شركاء النضال الوطني قبلها.
قاطع حزب البعث الاشتراكي مؤتمر الحوار في حين شارك حزبا الحق واتحاد القوى الشعبية على مضض. وبرغم أن الهيئة التنفيذية للقاء المشرك بكامل قوامها قد حذرت من استمرار حالة التباين والإقصاء داخل أحزاب المشترك ( الحاكم والمعارض في آن )، إلا أن أمناء عموم الأحزاب كانوا في وادي آخر.
ظن البعض أن قيادات المشترك قد ناورت على بقية القوى السياسية من أجل ضمان أكبر نسبة من المقاعد في مؤتمر الحوار وإن كانت القسمة على حساب بعض الأحزاب الشريكة، إلا أن مضمون مشاركة أحزاب المشترك في مؤتمر الحوار لم تختلف عن الشكل، فقد ظهرت التباينات على نحو صارخ. ورغم أن أحزاب المشترك سبق وتوافقت على رؤية للإصلاح السياسي والوطني(2005 م)، ورؤية للإنقاذ الوطني( 2009 م)، إلا أنها عجزت عن التوحد خلف رؤية موحدة داخل مؤتمر الحوار، وأعاد مؤتمر الحوار فرز الأحزاب والقوى السياسية على نحو مغاير، وهيمن الغزل والتقارب بين المؤتمر والإصلاح بشأن الموقف من الدولة الاتحادية وعدد الأقاليم المقترحة، وتحدثت وسائل الإعلام حينها عن عودة تحالف حرب 1994م، وتقاربت القوى الأخرى فيما بينها للوقوف ضد التحالف الجديد، إلا أن تدخلات هادي وسفراء الدول العشر حالت دون تفاقم التباين، فجرى احتواء الأحزاب والمكونات الأخرى بعدة وسائل، فيما ظهر فريق ” أنصار الله ” بمؤتمر الحوار عصي على المساومة.
المشترك وثورة 21 سبتمبر
حلت استحقاقات ما بعد مؤتمر الحوار الوطني، واللقاء المشترك يتصدع يوماً بعد آخر، وانسحب هذا التصدع على الحياة الداخلية لأحزاب التكتل. وبينما كان هادي وحلفاؤه في السلطة ينحون إلى تسليم القرار لدول الوصاية العشر ولمجلس الأمن، كانت القوى الثورية المستقلة قد استعادت حيوتها في الشارع بالاستفادة من تناقضات المشهد السياسي والفشل الذريع لحكومة الوفاق، والفساد المصاحب لأدائها، وكانت جماعة أنصار الله على رأس هذه القوى الفتية والمتوثبة.
مؤتمر الحوار كان قد أنهى مشواره بحادثة اغتيال أحد أبرز مهندسي مخرجاته الدكتور أحمد شرف الدين ممثل أنصار الله في فريق بناء الدولة بالمؤتمر، الأمر الذي ضاعف من شعبية الجماعة ودرجة التعاطف معها جماهيريا، خاصة وأن السلطة والجهات الأمنية بدت غير مكترثة إن لم تكن متورطة في الجريمة.
وبالموازاة مع الحراك الثوري المتصاعد كانت القوى التقليدية قد فجرت الوضع مجددا في صعدة، وراهنت هذه المرة على حسم المعركة بعد أن حشدت لها طائفيا وقبليا تحت لافتة الدفاع عن “دماج وأهل السنة فيها”، غير أن غبار المعركة التي استمرت بضعة أشهر انقشع عن تقدم كبير لأنصار الله على حساب مليشيا الإصلاح وآل الأحمر في حاشد، الذين لم يسبق أن تلقوا ضربة كهذه منذ ستينات القرن الماضي.
تدحرجت المعركة إلى مدينة عمران التي سقطت بيد أنصار الله، بعد أن انبرت القيادات العسكرية المحسوبة على الإصلاح للانخراط في حرب كان يمكن تداركها بشيء من الحوار وضبط الأعصاب. وللمفارقة فقد اتجه الرئيس هادي لزيارة المدينة والإعلان أنها ما تزال بيد الدولة، ثم سافر بعدها إلى الرياض في خطوة مريبة أوحت وكأن للسعودية دور فيما جرى.!
لم تتوقف الأحداث المثيرة عند هذا الحد الذي بدت معه أحزاب المشترك عاجزة عن استيعابه أو التأثير في مجرياته، خاصة وأنها قطعت حبل الود الذي كان قائما مع أنصار الله الحوثيين حين كان التكتل يتبنى قضية صعدة قبل 11 فبراير.
ومما يدلل على أن المشترك كان قد فقد البوصلة في علاقاته الملتبسة، وتخبط أدائه المرتبك خلال المرحلة الانتقالية التي جرى تمديدها سنة إضافية لصالح هادي، أن حكومة الوفاق قرعت الأجراس بشأن الأزمة الاقتصادية المستشرية، وأعلنت كل أطرافها ألا مناص من تنفيذ زيادة في اسعار المشتقات النفطية لتفادي الانهيار الوشيك.
كانت ” الجرعة ” التي أقرتها الحكومة في أغسطس 2014م، بمثابة القشة التي قصمت ظهر المشترك وبقية القوى التقليدية، التي عجزت عن تأمين دعم اقتصادي خارجي يضع حدا لغضب الشارع، الذي تلقفته حركة أنصار الله وعملت على إذكائه وتوجيهه نحو إسقاط الحكومة التي تمسك هادي والمشترك باستمرارها رغم أن مخرجات مؤتمر الحوار قد نصت بوضوح على توسيع المشاركة بتمثيل بقية القوى والمكونات السياسية في الحكومة.
حاولت أحزاب المشترك أن تدافع عن قرار الحكومة، غير أن مواقف أحزابها تباينت في ظل الضغط الشعبي المتواصل في عدد من محافظات الجمهورية، وظهرت مبادرات علنية من داخل المشترك، تنطوي على تراجع عن الجرعة، والقبول بتشكيل حكومة شراكة وطنية. وإذ تأخر حزب الإصلاح عن اللحاق بركب هذه المبادرات فقد تشكل في الأثناء اصطفاف وطني للدفاع عن قرار الحكومة لكن تحت عنوان الحفاظ على المكتسبات الوطنية.
ولأن الانتفاضة الشعبية المسنودة من حركة أنصار الله قد ضمت أبناء القبائل التي كانت تحذر من الاعتداء على الثوار وتعلن بوضوح عن استعدادها للدفاع عنهم بقوة السلاح، فإن الحديث عن لجان شعبية في خطابات الرئيس هادي ودعمها بهدف حماية العاصمة صنعاء، كان يوحي بأن اليمن مقبلة على حرب أهليه طرفاها الرئيسان الإصلاح وأنصار الله، الأمر الذي منح جهود مبعوث الأمم المتحدة الأسبق جمال بن عمر نحو احتواء الأزمة تأييدا محليا وخارجيا، وقد أمكن بالفعل التوصل إلى “اتفاق السلم والشراكة “، الذي باركته الدول العشر ومجلس الأمن الدولي.
أشرق صباح يوم 21 سبتمبر 2014م عن حدث دراماتيكي، فقد تهاوت دفاعات صنعاء العسكرية والأمنية التي اتخذت طابعا مليشاويا أمام اللجان الثورية والشعبية لأنصار الله، وفيما كان الجنرال الأكبر لمليشيا الإخوان علي محسن الأحمر يرتب للهروب والفرار إلى السعودية بتنسيق مع سفير الرياض في صنعاء، كان عقلاء الإصلاح قد أعلنوا بوضوح أن الحزب لن يقوم بمهام الدولة في الدفاع عن العاصمة، في خطوة حكيمة وشجاعة جنبت العاصمة حربا أهلية، وإن كانت قد أدت إلى فراغ أمني سمح بتعزيز دور اللجان الثورية وإحكام قبضتها الأمنية.
وهكذا دخلت اليمن مرحلة جديدة وفارقة، إلا أن المشترك نظر إليها وتعامل مع نتائجها باعتبارها “نكسة كبيرة”، إذ سقطت الدولة بيد المليشيا حسب وصف صحيفة الحزب الاشتراكي، التي خرجت بعنوان عريض يصف 21 سبتمبر بـ ” أيلول الأسود”.!!
مستقبل المشروع الوطني ما بعد العدوان
ربما كان بإمكان اللقاء المشترك والأحزاب السياسية بشكل عام أن تتعامل مع المتغيرات الجديدة بنوع من الروية والحكمة، إلا أنها لم تفعل. وبرغم أنها سايرت ” أنصار الله ” وعملت على تقويض اتفاق السلم والشراكة، وانخرطت في حوار مباشر فيما بينها برعاية الأمم المتحدة، إلا أن الإصلاح ومعه الوحدوي الناصري تشددا في تلك الحوارات، على نحو مسرحي وغير متسق مع الوقائع الجديدة، التي أفضت إلى استقالة الرئيس هادي وحكومة بحاح ودخول البلد في فراغ سياسي، أتبعه فراغ ديبلوماسي حين قررت الولايات المتحدة سحب سفارتها من اليمن، ولحقتها بقية الدول.
اتضح فيما بعد أن واشنطن كانت قد اتخذت قرار الحرب والتدخل العسكري، وساعد على ذلك أن القيادة السعودية الجديدة ممثلة في الملك سلمان ونجله محمد، كانت تعد العدة لشن حرب خاطفة لتحقيق أهداف داخلية، فتظافرت كل هذه العوامل وتشكل تحالف عسكري عربي باشر مهامه بالإعلان عن ” عاصفة الحزم ” في 26 مارس 2015م.
ارتبكت الأحزاب السياسة وبدت تائهة تماما، فيما العمليات العسكرية تضرب كل اليمن تحت مبرر استعادة الدولة والشرعية، وإذ تراوحت المواقف بين الشجب والدعوة إلى إعمال الحلول السياسية، كان الإصلاح الحزب الوحيد الذي أعلن مباركة العدوان السعودي، وأردفه بتحرك سياسي وإعلامي و”ميليشاوي” على الأرض.
أما بقية أحزاب المشترك فقد حاولت أن تمسك العصا من الوسط، فندد بعضها بالعدوان الداخلي والخارجي معا، إلا أن صوت المعركة لم يسمح بالمزيد من المراوحة، فقرر الاشتراكي الالتحاق بتحالف دعم الشرعية، وكذلك فعل التنظيم الناصري، فيما اصطفت أحزاب الحق، والبعث العربي، والقوى الشعبية إلى جانب أنصار الله والمؤتمر الشعبي في مواجهة العدوان والتدخل العسكري السعودي في اليمن.
وعلى مدى الخمس السنوات الماضية أصبحت الأحزاب جزءا من المعركة العسكرية، وبرغم كل الموبقات والجرائم المتوحشة بحق المدنيين جراء غارات التحالف إلا أن الأحزاب المؤيدة لـ “الشرعية” التزمت الصمت ولا تزال. وبالمثل لم يصدر عن أي من أحزاب المشترك المناهضة للعدوان مواقف منددة بأية انتهاكات محسوبة على ” أنصار الله”، وهناك من اعتبر أن المعارضة والعدوان قائم تعد بمثابة الخيانة الوطنية للدماء والتضحيات.
وبعيد فشل مفاوضات الكويت، شكلت القوى الوطنية المناهضة للعدوان في 2016م ما يعرف بالمجلس السياسي الأعلى وحكومة الإنقاذ، إلا أن هذا التحالف تعرض لمحنة عصيبة مع فتنة ديسمبر 2017م، التي أفضت إلى انقسام المؤتمر الشعبي العام، خاصة وقد قتل رئيسه صالح الذي كان عنصر القوة والوحدة داخل الحزب.
وفي 2019م، وبسبب بروز الحراك الجنوبي المدعوم إماراتيا، تباينت على نحو صارخ مواقف الأحزاب والقوى والشخصيات المحسوبة على تحالف الشرعية، وظهر حزب الإصلاح وحيدا في معركة الصراع من أجل البقاء.
لكن بالنسبة للشارع اليمني، فقد وجد نفسه على قارعة الأزمة والعدوان دون سند حقيقي، فوحده الشعب من يدفع ثمن حماقة النخبة السياسية العميلة للرياض، ووحده من يرفد جبهات الصمود بالمال والرجال، فيما القوى الوطنية المناهضة للعدوان عاجزة عن اختراق جدار الأزمة الاقتصادية المتفاقمة سنة بعد أخرى.
أما الحديث عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وبناء الدولة المدنية وترسيخ الوحدة الوطنية، فقد تراجعت لصالح “صوت المعركة”. وبعد أن أسرفت الأحزاب والمكونات السياسية في الكراهية والعداء لبعضها البعض، ودخلت في ملحمة ” نكون أو لا نكون”، انحسرت المعارضة السياسية إلا من نصائح خجولة أو مواقف شخصية متشنجة تصدر هنا أو هناك.
فهل يمكن القول أن المشروع الوطني اليمني قد تلاشى إثر “موت الأحزاب” في مقابل صعود الحركات والمكونات والفواعل المسلحة، أم أن للحرب منطقها الذي يفرض نفسه، مثل ما إن للسلام منطقه المختلف كليا؟.