كتابات فكرية

من رحم الفاكهة

 من رحم الفاكهة

د: عائشة عبد الله المزيجي

الاثنين 22 ديسمبر 2025-

           تسرد كل أنثى حكاية ألف صباح وصباح ، في فضاءات تضج بأصوات الباعة في مواسم الفاكهة، تصطدم أصواتهم بكل الجهات ، تصعد أصداء حناجرهم للسماء، تلتمس رحمات رزق يفيض عليهم وأبنائهم. يتدافع الناس على بسطهم أوقاتا، ويتقاطرون أحيانا. يقطف الغني كل فاكهة غالية، تطلب نفسه كل لون منها وحجم، فتقبل عليه مسرعة، تستدعيها بعض نقوده الورقية الفارهة.

         وللفاكهة الرخيصة قاصدوها، أناس نست طريق الوصول إلى شرائها مع انقطاع التقائهما، أناس يجندون كل سعيهم لاقتناء أساسيات لا تتعدى وظيفة إشباع البطن كالذرة. .،.. القمح.. ما يقنع المعدة بالسكوت.

       تستقبل معدة الغني والفقير كل ما يرمى فيها، لا تشف، ولا تكشف عما بداخلها، فتساوى المقل والثري. لم تزد في الغني عين ولا ساق بعد هضمه فاكهته الفارهة، لم ينقص في الفقير ضلع ولا وريد بعد عصر معدته فاكهته المتسربة إلى بيته أحيانا، متدارية متداولة سليمة بعض الشيء، أو تزحف في طريق التفعن.

        اختفت قيمة الفاكهة النقدية تماما مع تساوي الخلقة الإنسانية بين الغني والفقير، وتجلى التمايز بمقاييس روحية، فأصبح المقل ثريا، في صباحات اتصلت فيها الأرض بالسماء، حين بكر ساردا دعاء يومياته يا فتاح يا كريم، يستشعر فيه كرم خالقه عليه، مستحضرا حال أرحامه، يستضيفهن بقلبه من ليلة البارحة، مارا في نهاره على متفرق سكنهن في أنحاء مدينته، يبحث عن وجودهن، يدق باب تربطه به علاقة النسب. لا يحصر طريق الوصول إليهن مكالمة هاتفية، يوقن أن كل خطوة سعادة حياة، وجرعة شفاء ينالها في كبره إن طال به العمر، تحفه رحمات خالقه بحسب استمرار الوصول إلى أرحامه.

      من رحم الفاكهة ينشر العنب… الأبيض .. الأسود .. التين البلس الأسود والمشوك طيب الرائحة والمذاق احتفاء بضيافة كل رحم،  التي بدورها تروي لزوجها وعائلتها الجديدة، سير واصلها، و حكايات ألف صباح وصباح، تفصل راضية صور الشهامة والسخاء في شخص أخيها .. عمها .. خالها .. ابن عمها.. وأوقاتا ابن خالها، الذي لا يستحضر اختلاف العلماء في حجب ابنة عمته عنه، التي لم يعهدها إلا أختا، من رحم الفاكهة حكايات وصل في الذاكرة، تحفرها كل أنثى في وجدانها، ترسمها أمنيات ومنهجا لتربية أبنائها.

         في حين يغدو الثري فقيرا معدما، وقد احتكر على معدته وأغدق على أفراد أسرته صغيرة كانت أم كبيرة زوجة وأبناء فواكهه النفيسة، متخف عطاؤه عن أخت لاعبته في صغره، وعمة رعته حبا فيه وأخيها، وخالة دللته في صباه ارتباطا بأختها.

مع تجاهل وصل كل رحم، تنفصل عن كل رجل رجولته، تضل طريقها إليه، ويعيش بقية حياته بذكورته المحسوسة المعلنة بين الناس، أطرافه ووجهه اللذان يتشابه فيها مع ما خلق الله من إنس وحيوان.  

      برد قارس يمنع دخول البركة معدته وبيته، وقد غابت ملامح منزله عن أرحامه المقطوع برهن إهمالا منه واكتفاء، رحم تنادي دون صوت…. تدعو  …تتمنى….. طيف حدث سار ، يستوجب حضورها في بيته بحكم العادات والتقاليد أياما ، تنتهز  فرصة الوصل في عرس طارئ ، تحل عليهم ضيفا،  تغترب هناك، في بيت أخيها ..عمها ..خالها ..الخ، مع حاجز التعامل الرسمي، مع طول اغترابها وقطعها غير المحدود،  وفجأة اللقاء المحصور زمنيا، باعتبارها ضيفا مغادرا مع بقية الضيوف.

    يبتسم الدهر، يقدم الزمن فرصة أخرى لها، تمكنها الدخول إلى منزل هاجرها… قاطعها، ولكن لتتلقى عزاء. تدخل بيته ضيفا باكيا، وتخرج منه رحما فاقدة وهو مفقود. فاته جني البركات، مع انعدام بره لها ولو في عالم الأحلام والرؤيا.

من رحم فاكهة البطيخ … الحبحب ..العنب . التين … البلس. تتهافت أشواق العودة، واحتضان الذاكرة لمرافئ ديوان رب الأسرة أخا ..ابن أخ….عما…خالا…..الخ، وقد اصطفت فيه كل أرحامه، اللاتي يرفعن أوقاتا أصواتهن، ويتمتمن حياء بالدعوات له بإطالة عمره والبركة في ماله وولده، كلما بدا من باب ديوانه، فارشا لكل واحدة ابتسامته بحسب حاجة كل رحم من الرحمة والحنان، بقدر اكتفائها أو انكسارها، يتمتم في قلبه شكره وامتنانه لله، الذي وهبه منزلة الواصل رحمه.

من رحم الفاكهة تفوح أمنيات وصل كل رحم، تتتالا دعوات العودة، لحكايات كان ياما كان.

اقرأ أيضا: عائشة المزيجي تعود لصوت الشورى بعد انقطاع بنص بديع بعنوان “عافية مؤجلة”

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى