كتابات فكرية

قراءة نقدية لمقال: “هل يمكن أن تتحول أعمال البر والتقوى إلى جريمة؟” للقاضي عبد العزيز البغدادي

قراءة نقدية لمقال: “هل يمكن أن تتحول أعمال البر والتقوى إلى جريمة؟” للقاضي عبد العزيز البغدادي

  • قراءة: حسن الدولة

الأربعاء 3 ديسمبر 2025-

نُشر مقال القاضي عبد العزيز البغدادي في صحيفة الشورى الإلكترونية الغرّاء يوم الثلاثاء الموافق 2 ديسمبر 2025م، وقد طرح فيه سؤالا لافتا في عنوانه: “هل يمكن أن تتحول أعمال البر والتقوى إلى جريمة؟”، وهو سؤال يستحق نقاشا معمقا لما ينطوي عليه من إشكالات قانونية وأخلاقية ودينية. غير أن القارئ، عند قراءته للمقال، يلحظ تباعدا بين العنوان وما تضمنه المتن من موضوعات ذات طابع متشعب.

بداية، لا خلاف على أهمية القضايا التي تناولها القاضي في مقاله، خصوصا ما يتعلق باستغلال الدين سياسيا، وبالخلط بين المسؤوليات الأخلاقية والواجبات القانونية، وبالخطورة التي يحملها تحويل أعمال البر – المفترض أن تكون خالصة لوجه الله أو لصالح المستحقين – إلى وسيلة من وسائل الدعاية السياسية. إلا أن المقال لم يتجه منذ بدايته نحو الإجابة عن سؤال العنوان، بل افتتح بالحديث عن الأحزاب الدينية التي تستغل الخطاب الديني لمآرب دنيوية، واعتبر ذلك شكلا من أشكال النفاق السياسي والديني، وما يجرّه هذا الأسلوب من إرباك للحياة السياسية والدينية والمدنية. ورغم أهمية هذا الطرح، إلا أنه يبدو بعيدا عن فكرة “تحول أعمال البر إلى جريمة”، وهو ما يشي بأن المقال يتناول ظاهرة أوسع من السؤال الذي طرحه عنوانه.

بعد ذلك انتقل المقال إلى التفريق بين المسائل الفقهية الخلافية في العبادات والمعاملات وبين مسائل السياسة العامة، موضحاً أن القضايا السياسية لا تُعالج بآليات الحلال والحرام بل بالمنهج العلمي والتجربة والخطأ والمساءلة. وهذا طرح جوهري، غير أنه يشكل محوراً مستقلاً لا يجيب مباشرة عن سؤال المقال، بل يعالج إشكالية توظيف الأحكام الدينية في المجال السياسي، وهو موضوع ذو أهمية لكنه لا يزال خارج إطار “تحوّل البر إلى جريمة”.

ثم تطرق المقال إلى موضوع آخر في غاية الأهمية، هو استقلال القضاء، مستشهداً بنص المادة (149) من الدستور اليمني، ومؤكدا أن التدخل في القضاء جريمة لا تسقط بالتقادم. وهذا محور آخر جوهري يستحق بالفعل مقالا خاصا، لكنه لا يرتبط عضويا وموضوعيا بالسؤال الذي طرحه العنوان. ومع أن استحضار هذا الموضوع يثري النقاش حول فساد السلطة واستغلال الدين، إلا أن ربطه بالسياق الذي يقدمه العنوان يبدو غير محكم.

ويعود المقال في جزءه الأخير إلى المقاربة الأقرب لعنوانه، حين يفرق بين المسؤولية الأخلاقية التي تحكم أعمال البر الفردية، وبين المسؤولية القانونية التي تحكم إدارة الأموال العامة أو الوقفية أو الزكوية. وهنا يقترب المقال من الإجابة التي كان من المتوقع أن تطرح منذ بدايته؛ إذ يؤكد أن العمل الخيري يتولّد عنه وصفٌ جنائي إذا أصبح أداة للدعاية السياسية أو للمباهاة أو للتعدي على حقوق المتبرعين أو المستحقين. وكذلك يتحول إلى عمل غير مشروع إذا استُخدمت أموال الوقف أو الزكاة أو الخزانة العامة في تلميع جهات سياسية أو شخصيات نافذة تزكي نفسها بما لا تملك، وهو ما يناقض مقاصد الشريعة ومبادئ القانون، ويحوّل البر من عبادة أو واجب اجتماعي إلى وسيلة ملوّثة بالمصالح.

هنا تحديدا كان يمكن للمقال أن يُبنى حول فكرة مركزية واضحة:

أن استغلال أعمال البر والمال العام في الدعاية السياسية أو التمظهر بالتقوى هو جريمة أخلاقية وقد يتحول إلى جريمة قانونية وفقا لطبيعة الاعتداء الواقع.

لكن المقال اتجه في مسارات متعددة: مثل استغلال الدين، الفقه والسياسة، استقلال القضاء …إلخ.. جعلت بنيته أقرب إلى مجموعة محاور متفرقة، لا إلى إجابة مركزة على سؤال محدد.

ولعل المقال كان سيبدو أكثر انسجاما لو اتخذ عنوانا يعكس مساحته الموضوعية الفعلية، مثل:

“بين توظيف الدين في السياسة ومسؤولية الدولة في إدارة أموال البر”

أو

“الأعمال الخيرية بين الواجب القانوني والاستغلال السياسي”،

إذ إن هذا ما يشكل جوهر ما عالجه المقال فعلياً.

ومع ذلك، فإن القيمة التي يحملها الطرح تبقى مهمة، خصوصاً ما يتعلق بضرورة ضبط إدارة الأموال الخيرية: سواء كانت زكاة أو وقفاً أو مالاً عاماً …وفق قواعد قانونية ومؤسسية صارمة، بعيدا عن الدعاية والتسييس، وبما يضمن أن تبقى أعمال البر في موضعها الصحيح: حقا للمستحقين، لا منّة من مسؤول ولا وسيلة لمكاسب سياسية.

هذه القراءة لا تنتقص من قيمة مقال القاضي، بل تدعو إلى أن تفرد كل قضية من القضايا المهمة التي تناولها بمقال مستقل يتيح لها حقّها من التحليل والعمق والانضباط المنهجي، وبما يحقق الفائدة المرجوة للقارئ والباحث والمهتم بالشأن العام.

اقرأ أيضا: الأستاذ البغدادي يتساءل: هل يمكن ان تتحول أعمال البر والتقوى الى جريمة؟

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى