كتابات فكرية

أنثروبولوجيا الرغبة في اشتباك الغريزة مع المقدس

أنثروبولوجيا الرغبة في اشتباك الغريزة مع المقدس

  • أمين الجبر

السبت 11يوليو2025_

ليس الإنسان إلا ذلك الكائن المتناقض الذي يحمل في أحشائه بركاناً من الشهوات، بينما يحلم بقبّة من القيم. إنه ذلك الكائن الهش الذي لو تُرك لغرائزه لتحوّل العالم إلى سوق نخاسة كبرى، حيث تُباع الفضائل بأبخس الأثمان، وتُشترى الرذائل بأغلى الموارد. 

لقد خُلق الإنسان اجتماعياً بفطرته، أنانياً بتركيبته. يحمل في لاوعيه الجمعي ذاكرة القطيع الذي يخشى الانفراد، وفي أعماقه الفردية نزعة السيد الذي يرفض الشراكة. إنه يسعى للسيطرة كما يسعى للتنفس، يلهث وراء التملك كما يلهث وراء الهواء. وهنا تكمن المأساة الوجودية: كيف يمكن لكائن أن يكون مدنياً بالضرورة، وهمجياً بالطبيعة؟ 

لقد حاولت الشرائع السماوية أن تروض هذا الوحش الكامن في القشرة الدماغية الحديثة. وضعت للرغبة سياجاً من المحرمات، وللشهوة حدوداً من المقدسات. لكن الإنسان – ذلك الكائن الماكر – ظل يبحث عن الثغرات في جدار الأخلاق. يحول المحرمات إلى مباحات بخفة ساحر، ويُخضع المقدسات لحسابات السوق بقوة تاجر. 

أما القوانين الوضعية، فقد جاءت كطوق نجاة أخير من طوفان الغرائز. حاولت أن تخلق مسافة بين الإنسان وحيوانيته، أن تبني سداً من العقوبات في وجه طوفان الرغبات. لكنها – في أحسن الأحوال – لم تكن سوى مسكنات مؤقتة لألم مزمن. فالقانون يمنع الفعل لكنه لا يقتلع الدافع، يعاقب على الجريمة لكنه لا يشفي من الجنون. 

وفي هذا المشهد التراجيدي، تبرز إشكالية العصر الكبرى: هل يمكن للبشرية أن تبتكر أخلاقاً جديدة تكون أكثر مرونة من الدين وأكثر عمقاً من القانون؟ أخلاقاً تستوعب طبيعة الإنسان الرغّابة دون أن تستسلم لها، تحاور غرائزه دون أن تستعبدها. 

ربما كانت الإجابة في تلك المنطقة الوسطى حيث يلتقي الضروري بالجميل، حيث تصبح الضوابط ليس قيوداً على الحرية، بل شروطاً لوجودها. حيث تتحول الغريزة من عدو يجب قمعه إلى طاقة يمكن ترويضها. فالحضارة – في نهاية المطاف – ليست انتصاراً على الطبيعة البشرية، بل هي توازن دقيق بين ما نريد وما يجب، بين ما نحب وما يصلح. 

إن التحدي الحقيقي ليس في قتل الرغبة، بل في تحويلها من قوة مدمرة إلى طاقة خلاقة. فالشهوة التي لا تجد من يهذبها تتحول إلى دمار، كما أن الفضيلة التي لا تعترف بالطبيعة البشرية تتحول إلى قناع زائف. والبشرية اليوم بأمس الحاجة إلى أن تعيد اكتشاف تلك الحكمة القديمة: أن الأخلاق ليست سجناً للرغبة، بل فنّاً لتحويلها إلى جمال.  

اقرأ أيضا:صراع الحق والباطل وحتمية الاختيار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى