موارد اليمن السياديّة في خطر
موارد اليمن السياديّة في خطر
حكومتا صنعاء وعدن بين التعارك والتفريط بالثروات
د. مطهر العباسي
تدور حوارات ونقاشات حول أسس وآليات تقاسم الموارد السيادية بين حكومتَي صنعاء وعدن، بينما يتم التغافل عن وضع الثروات السيادية وأهميتها لأجيال الحاضر والمستقبل. وهنا يجدُر توضيح الفرق بين الثروات السيادية وبين الموارد السيادية؛ فالأولى يقصد بها مجموع قيمة الأصول الموجودة في البلد في زمن معين، وتشمل المنشآت والعقارات والمصانع ومرافق البنية التحتية (طرقات، كهرباء، موانئ، مطارات، اتصالات، وغيرها)، والثروات الطبيعية (النفط والغاز والمعادن، الأراضي الزراعية، مناطق صيد الأسماك وغيرها، كما تشمل الأصول غير المنظورة مثل الموارد البشرية، والتقدم التكنولوجي، والتراث الحضاري والموقع الجغرافي، والتي قد تساهم في توليد أصول جديدة في المستقبل، بينما الموارد السيادية يقصد بها عوائد النشاط من استغلال أصول الثروات السيادية، وتورد إلى الخزينة العامة للدولة لتغطية النفقات العامة- الجارية والاستثمارية، وتشمل عوائد الثروات المعدنية والطبيعية، (النفط، الغاز، الأسماك…)، وإيرادات الضرائب، الجمارك، الزكاة، وغيرها، وحصة الحكومة من أرباح المؤسسات والشركات العامة والمختلطة، (الاتصالات، الكهرباء، الأسمنت، …)، وموارد الخدمات الأخرى، (الطيران، المطارات، الموانئ،…) كما تتضمن الإصدار النقدي لتمويل نفقات الحكومة من مصادر تضخمية، والموارد الائتمانية (القروض المحلية والخارجية، الإعانات والمساعدات).
واضح أنّ المزاج العام الوطني والإقليمي والدولي ضدّ استمرار الحرب، وأنّ الآمال تتطلع إلى هدنة دائمة ثم إلى السلام والاستقرار، ومن الحقائق الثابتة، في ظلّ سيناريو الهدنة، أنّ إدارة الموارد السيادية تتطلب مؤسسات سياديّة موحدة ذات العلاقة بإدارة السياسات المالية والنقدية.
السؤال المطروح: كيف تم إدارة الموارد السيادية من قبل حكومتَي صنعاء وعدن في فترة الحرب؟ وما هو تصور إدارة تلك الموارد في ضوء سيناريو الوضع الراهن- الهدنة؟ أو سيناريو الوئام والسلام؟
إدارة الموارد السيادية خلال فترة الحرب
لقد أدّت الحرب إلى تقسيم البلد إلى شطرين تحت سيطرة حكومتَين، في صنعاء وعدن، تتشابهان في خصائص عديدة بالنسبة لإدارة الموارد السيادية خلال سبع سنوات من الحرب، وتختلفان في أوجه أخرى، وقد يستمرّ ذلك خلال فترة الهدنة.
أوجه الشبه
– كلٌّ منهما تدير الموارد السيادية المتاحة بدون ميزانية عامة مقرة من مجلس النواب وبدون قانون الميزانية، وهذا مخالف للدستور والقوانين النافذة.
– كلٌّ منهما تقوم بإدارة المال العام بعيدًا عن الشفافية والمساءلة، فلا تتوفر بيانات إجمالية أو تفصيلية عن بنود الإيرادات العامة أو عن بنود النفقات العامة، ولا توجد حسابات ختامية توضح أوجه الإيرادات والنفقات، ممّا يثير تساؤلات خطيرة عن جودة الحوكمة في إدارة المال العام.
– التقارير الصحفية الموثقة وغير الموثقة ووسائل التواصل الاجتماعي تعج بالأخبار عن شبهات فساد في مفاصل كلا الحكومتَين، وبنسب متفاوتة.
– كلٌّ منهما تنصّل من مسؤولية صرف مرتبات موظفي الدولة، كما أعفوا أنفسهم من مسؤولية دعم المشتقات النفطية والكهرباء وعن تقديم الإعانات الاجتماعية للفقراء في سجل صندوق الرعاية الاجتماعية.
أوجه الاختلاف
– تعتمد حكومة عدن في تمويل نفقاتها من مصادر عدة: فقد اتّبعت سياسة مالية متهوّرة قائمة على تمويل نفقات الحكومة من مصادر تضخمية عن طريق الإصدار النقدي، ممّا ساهم في الارتفاع الجنوني لأسعار السلع والخدمات، وفي تدهور القوة الشرائية للريال وتصاعد مستمرّ لسعر الريال مقابل العملات الأجنبية، إضافة إلى عوائد بيع النفط الخام والغاز المنزلي من مأرب وحضرموت وشبوة، وكل محافظة تسيطر على جزءٍ كبير من تلك الموارد، وأيضًا الضرائب والجمارك وغيرها من الجبايات ويخضع جزءًا كبيرًا منها للمجموعات المسلحة أو للمحافظات، كما أنّها تحصل على الدعم المالي المقدّم من دول التحالف، ولكنها صاحبة اليد السفلى ولا تمتلك سلطة القرار في إدارته، فضلًا عن التمويل الخارجي، وتحديدًا من صندوق النقد الدولي لمواجهة تحديات أزمة كورونا، ومن صندوق النقد العربي لدعم الإصلاحات الاقتصادية.
– بينما حكومة صنعاء، خلال فترة الحرب، ظلّت عوائد النفط والغاز بعيدة عن متناول يدها، ولكنها انتهجت سياسة مالية مقيدة ومُجحفة عن طريق زيادة حجم الضرائب والجمارك والزكاة وغيرها من الرسوم والإتاوات، بلغت بالنسبة للضرائب والزكاة أكثر من عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب، وكل ذلك تحمّله بالأخير المواطن الغلبان والمسكين، وهذا ما يفسر استمرار ارتفاع أسعار السلع رغم استقرار سعر الصرف، والذي نجحت فيه حكومة صنعاء خلال السنوات الأربع الأخيرة.
إدارة الموارد السياديّة في ظلّ سيناريو استمرار الهدنة
واضح أنّ المزاج العام الوطنيّ والإقليميّ والدوليّ ضدّ استمرار الحرب، وأنّ الآمال تتطلّع إلى هدنة دائمة ثم إلى السلام والاستقرار، ومن الحقائق الثابتة، في ظلّ سيناريو الهدنة، أنّ إدارة الموارد السيادية تتطلب مؤسسات سيادية موحدة ذات العلاقة بإدارة السياسات المالية والنقدية، وتحديدًا وزارة المالية والبنك المركزي، وهذا قد يكون بديلًا بعيد المنال في ظلّ التعقيدات القائمة بين طرفي الصراع؛ لأنّ ذلك يعتمد على درجة بناء الثقة بين الطرفين، وعلى رغبتهما في الانتقال من الهدنة إلى مرحلة السلام والاستقرار، وإنّما يمكن مبدئيًّا التوافق على توحيد البنك المركزي للقيام بمهام “الخزينة العامة للدولة”، وهذا يتطلب التوافق على الترتيبات الفنية والمؤسسية لربط المركز الرئيسي بالفروع، والتوافق أيضًا، على توريد جميع الموارد السيادية للدولة إلى خزينة البنك المركزي في المقر الرئيسي وإلى فروعه في جميع المحافظات، وتشمل عوائد مبيعات النفط والغاز، والضرائب والجمارك والرسوم السيادية الأخرى، فضلًا عن التمويلات الدولية، وبالمقابل يكون البنك المركزي مسؤولًا عن تسهيل الصرف على بنود النفقات العامة، والمتضمنة: مرتبات موظفي الدولة في كلّ مناطق صنعاء ومناطق عدن، ونفقات تشغيل المنشآت والمرافق الحكومية في جميع محافظات الجمهورية، والإنفاق الاستثماري على المشاريع التنموية في كل المحافظات.
عدم التفريط بالثروات السيادية – الغاز مثالًا
وفي ظلّ وضع الهدنة، فإنّ الأمر لا يقتصر على تقاسم الموارد السيادية، وإنّما يجب الحرص على عدم التفريط بالثروات السيادية، ونأخذ على سبيل المثال العوائد السيادية من ثروة الغاز، فهناك العديد من التقارير والدراسات التي تؤكّد أنّ ثروة الغاز تم التفريط بها في صفقة عقود الامتياز لشركة توتال وشركائها، فخلال الفترة 2009-2013، بلغت قيمة الصادرات من الغاز حوالي 14.5 مليار دولار، (عند سعر المليون وحدة حرارية يساوي 11.7 دولار)، حصلت الحكومة على عوائد منها قرابة 787 مليون دولار، ما يساوي 5% فقط من إجمالي قيمة صادرات الغاز، بينما استحوذت توتال وشركاؤها على 95% من تلك العوائد، ويعود هذا الفارق الكبير بين الحصتين إلى بعض البنود المجحفة في اتفاقيات العقود بين الحكومة والشريك المشغل (توتال وشركائها)، وتشمل معادلة تحديد سعر المليون وحدة حرارية، ومعادلة تحديد حصة الحكومة من الأرباح، واحتكار شركة توتال لتكون المنتج والمصدر والبائع للغاز دون الشراكة مع الحكومة أو أيّ شركة أخرى.
ولذلك، فإنّ أمام الحكومتين في صنعاء وعدن مسؤولية تأريخية، قبل الحديث عن عوائد الغاز، وهي كما أسلفنا فتات مقابل ما تحصل عليه توتال وشركاءها، فإنّه يجب توحيد المواقف حول الحقوق السياديّة لليمن في ثروة الغاز وضرورة المطالبة بمراجعة اتفاقيات العقود مع الشريك المشغل “توتال” لضمان بيع الغاز وَفقًا للأسعار الدولية، حتى تحصل الحكومة على حصتها العادلة من الأرباح، ومنع المشغل من الاستيلاء على الاحتياطي الخاص بالدولة، إضافة إلى تعويض الحكومة عن الخسائر الناجمة من تصدير الغاز على حساب النفط في المكامن، ورسوم منشآت المنبع التي يجب أن تؤول ملكيتها إلى الحكومة وليس لشركة أجنبية غير قانونية.
سيناريو إنهاء الحرب وتحقيق السلام
أمام أطراف الصراع استحقاقات كبيرة تفرض على الجميع الجنوحَ للسلام والعمل أولًا على إخراج اليمن من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، والبدء في إعادة بناء الدولة على أسس سليمة، والتوافق على مبادئ وآليات إدارة الموارد والثروات السيادية، وهذا يشمل:
أوّلًا: التوافق على طبيعة وأسّس بناء الدولة، بما في ذلك عدد الأقاليم التي تتكوّن منها، وكيفية العلاقة بين حكومات الأقاليم وحكومة المركز، وكيفية توزيع الموارد السيادية بينها، فالتاريخ يراقب الجميع…
ثانيًا: التوافق على وثيقة الدستور وما يتضمنه من حقوق وواجبات ومسؤوليات على كل مستويات الحكم، المركزية والمحلية، وأسّس وقواعد الانتخابات للقيادات العليا في السلطة التنفيذية وانتخابات المجالس التشريعية، إضافة إلى قواعد وضوابط عمل السلطة القضائية.
ثالثًا: التوافق على إدارة الموارد والثروات السياديّة وتعظيم استخدامها، ويعتبر مؤشر الثروة السيادية أو الوطنية أحد المعايير الهامّة في قياس تطوّر وتقدّم الدولة والمجتمع، وتتسابق الدول في الحفاظ على تلك الأصول وتوسيعها باستمرار، حتى تتمكن من تعظيم الموارد السيادية الناتجة عنها، ولذلك فإنّ الاستحقاقات الإستراتيجية القادمة، وتشمل الآتي:
– توسيع الاستكشافات في مجالات النفط والغاز والمعادن الأخرى، فالخارطة النفطية لليمن تشمل 105 قطاعًا ويتم إنتاج النفط من 12 قطاعًا فقط، وهذا يعني أنّ بقية القطاعات مفتوحة وتحتاج إلى الترويج لاستقطاب الشركات العالمية للاستثمار فيها.
– حماية الحقوق السيادية لليمن من عوائد صادرات الغاز، وضرورة مراجعة اتفاقيات العقود مع الشريك المشغل فيما يتعلق بالتسعير وحصص الأرباح وحجم الغاز المباع للمشغل وَفقًا للعقود، ورسوم منشآت المنبع وغيرها.
– حماية المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية البحرية الخالصة لليمن، وهي مناطق شاسعة تمتدّ حتى الجرف القاري في عمق المحيط الهندي، وتتطلّب حسن استغلال الثروة السمكية أو الثروات المعدنية فيها، وحماية الجزر، وتحديدًا جزيرة سقطرى، باعتبارها أحد ركائز الثروة السيادية.
– التوسع في مشاريع البنية التحتية (الطاقة الكهربائية، الطرقات، الموانئ، المطارات، الاتصالات…) كشرط لازم ومسبق لجذب وتشجيع الاستثمارات الوطنية والخارجية، في المجال الصناعي أو الزراعي أو الخدمي.
– تنمية الموارد البشرية من خلال تطوير مؤسسات التعليم العامّ والفنّي والجامعيّ لتأهيلها للدخول في سوق العمل المحليّ أو الإقليميّ أو الدوليّ، وهنا لا ننسى أنّ عوائد ثروة الموارد البشرية في الخارج (تحويلات المغتربين) ما يزال لها تأثيرٌ فعّالٌ على استقرار سوق الصرف في ظلّ انقطاع أهم مصادر العرض للنقد الأجنبي، مثل عوائد النفط والغاز والقروض وغيرها، ويمكن القول إنّ عرق المغتربين هو من يحافظ على استقرار سعر الريال اليمني.
– استغلال الموقع الجغرافي المتميز لليمن، ووقوعه على خط الملاحة الدولي الرابط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا وتطوير الموانئ البحرية، والانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق التي تتبناها دولة الصين والاستفادة من مزايا الفرص الاستثمارية التي تروّج لها المبادرة.
– توطيد أواصر التعاون مع المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية والإقليمية لضمان الحصول على موارد مالية لتمويل مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتسويق اليمن ليكون نقطة جذب للسياحة الإقليمية والدولية (الآثار والمدن التاريخية، الشواطئ والشعاب المرجانية، الجبال والهضاب، الصحراء المترامية).
وإجمالًا؛ واضح أنّ استحقاقات السلام والاستقرار أكبر بكثير من متطلبات الحرب، فهل تستوعب أطراف الصراع هذا التحدي، وتجنح للحوار وإيقاف دوامة الحرب ونشر الأمن والوئام؟ هذا ما ستُنبئ به الأيام القادمة.
*د.مطهر العباسي
أقرأ أيضا:مذاهبُ التنمية والتحديث الاقتصادي