الحرب الاقتصاديّة: هل تتحوّل من أداة غربية إلى أداة صينية؟
محاولة الأميركيين والأوروبيين فرض عقوبات على الصين ستكون “وصفة انتحار” غربية حقيقية. تستمرّ الاستفزازات الأميركية للصين في محيطها، فقد أعلنت البحرية الأميركية عبور سفينتين حربيتين مضيق تايوان لإثبات “التزام الولايات المتحدة بمنطقة حرة ومفتوحة في المحيطين الهندي والهادئ”، وهي أول عملية من نوعها بعد زيارة نانسي بيلوسي لتايوان.
وردّ الجيش الصيني، في بيان، “أنَّ قواته تراقب السفن البحرية الأميركية التي تبحر عبر مضيق تايوان”، وشدَّد “على أنها مستعدة للرد على أي استفزازات في المنطقة”.
عملياً، من المستبعد – على الأقل في الوقت الراهن – أن تنجر الصين إلى الفخ الذي يريد الأميركيون أن ينصبوه لها (كما فعلوا مع روسيا قبلها)، وهو قيامها بعملية عسكرية واسعة لاحتلال تايوان وضمّها ضمن سياسة “الصين الواحدة”، فليس من مصلحة الصين الاستراتيجية القيام بحرب عسكرية واسعة النطاق في محيطها الإقليمي، وهي التي تتجه لتكريس نفوذ عالمي يقوم على اعتماد مبدأ “التنمية السلمية”.
لا شكّ في أنَّ الأميركيين كانوا قد خطّطوا لفترة طويلة لجرّ الروس إلى حرب مع أوكرانيا، على الأقل منذ مجيء جو بايدن إلى البيت الأبيض، إذ استمرت الاستفزازات والتحرشات العسكرية في البحر الأسود ودعوة أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو، إلى أن حصلت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في شباط/فبراير الماضي.
ومباشرةً، بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعترافه باستقلال جمهوريات الدونباس، وقبل الدخول العسكري الروسي إلى أوكرانيا، أعلن الغرب حزم عقوبات واسعة على روسيا، ما يعني أنَّه كان يستعد لهذه الحرب ويحضّر لها الآليات المناسبة: الحرب الاقتصادية.
قامت الاستراتيجية الغربية في الحرب الاقتصادية على روسيا على 3 وسائل: تجميد أصول الأوليغارشية الروسية ومحاولة السطو عليها، والعقوبات المالية، والقيود التجارية على السلع تصديراً واستيراداً.
أما الأهداف فهي متعددة، منها تقويض الاقتصاد الروسي لمنع روسيا من استكمال حربها على أوكرانيا، وعزلها عن الساحة الدولية، وإضعافها لئلا تشكّل أي تهديد مستقبلي لأوروبا، والأهم، توجيه رسائل إلى الخصوم والأعداء الدوليين، مفادها: هذا هو مصير من يتحدى الإرادة الغربية (أو ما يسميه الغرب: النظام العالمي القائم على القواعد).
وإذا كانت الصين من أبرز المستهدفين بالرسائل الغربية، لأنها تشكّل التهديد الاستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة الأميركية، فإنَّ الاستراتيجية القائمة على التهديد بحرب اقتصادية ليست غير مفيدة في الحرب مع الصين لأنها عملاق اقتصادي عالمي فحسب، بل لأنها أيضاً يمكنها أن تستخدم تلك الآلية في حربها مع تايوان ومع الغرب في حال انتقاله من محاولة الاحتواء إلى الاشتباك العسكري مع الصين.
وبناءً عليه، كيف يمكن أن تقلب الصين الآلية الاقتصادية الحربية المفضّلة لدى الأميركيين إلى آلية لمصلحتها؟
الحرب الاقتصادية ليست أمراً جديداً في العلاقات الدولية، بل إنَّ الحصار ومحاولة تجويع شعب العدو وقطع طرق إمداد الغذاء، وقصف البنى التحتية للاقتصاد وقصف المعامل، ومحاولة تجفيف موارده الاقتصادية، كلها أدوات مستخدمة في الحروب منذ قرون.
وتعرف الحرب الاقتصاديّة بأنها استخدام – أو التهديد بذلك – الوسائل الاقتصادية ضدَّ بلد ما من أجل إضعاف اقتصاده، وبالتالي الحد من قوته السياسية والعسكرية، وهي تهدف إلى إجبار الخصم على تغيير سياساته أو سلوكه أو تقويض قدرته على إدارة علاقات طبيعية مع الدول الأخرى.
تعتمد فعالية الحرب الاقتصادية ونجاحها على عدد من العوامل والمؤثرات، أهمها القدرة على التسبب بخسائر للعدو لا يمكنه تحملها، بما في ذلك منع الخصم من إنتاج السلع المقيدة داخلياً أو الحصول عليها من دول أخرى، وعدم قدرته على الوفاء بالتزاماته تجاه الجيش والشعب وتأمين حدّ أدنى مقبول من القدرة على العيش.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن محاولة الأميركيين والأوروبيين فرض عقوبات على الصين سوف تكون “وصفة انتحار” غربية حقيقية؛ فإذا كانت العقوبات على روسيا التي يعدّ اقتصادها الرقم 11 عالمياً أدّت إلى أزمات اقتصادية وتضخّم (سيعقبه ركود) في الغرب، فإنَّ مجرد التفكير في شنّ حرب اقتصادية على الصين ستكون وصفة لكوارث عالمية وعدم استقرار في الغرب نفسه.
أما بالنسبة إلى تايوان التي حاولت تاريخياً تقليل اعتمادها الاقتصادي على الصين، فإنَّ النتيجة أتت عكسية؛ ففي فترة جيل واحد تقريباً، تحوّل اقتصاد تايوان من عدم وجود روابط تقريباً مع الصين إلى الاعتماد بشكل كبير على التجارة والاستثمار الصينيين.
خلال عقدين من القرن الحادي والعشرين، أدت الرغبة التايوانية في الاستفادة من الصعود الاقتصادي للصين وخلق تحسينات اقتصادية مماثلة إلى أن تصبح العلاقة الاقتصادية بين الصين وتايوان مسألة “اعتماد متبادل غير متماثل”، ما يعطي الصين قدرةً على ممارسة نفوذ و”تهديد” اقتصادي لتايوان في حال النزاع.
وهكذا، هل يمكن للصين فعلاً أن تُخضع تايوان عبر حرب اقتصادية، ومن دون أن تنجرّ إلى نزاع عسكري مكلف فيها؟
في دراسة تاريخ استخدام الحروب الاقتصادية، يتضح أنها لم تكن فعّالة بشكل عام، وخصوصاً إذا لم تقترن بعمل عسكري واسع، لكن يمكن للعقوبات الصينية أيضاً أن تخلق درجة كبيرة من الضرر الاقتصادي لتايوان، ما يؤدي إلى اضطرابات سياسية في الداخل تستفيد منها الصين لتشجيع التغيير السياسي في البلاد لمصلحتها، ويؤدي في نهاية المطاف الى المطالبة بالتوحد مع البرّ الصيني.
*أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
المصدر: الميادين