اليمن وأسئلة الحرب
بعد مضي ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر في اليمن تطرح الحرب الداخلية والخارجية أسئلتها الحارقة والمحرقة!
هل للحرب نهاية؟ وهل الانتصار الذي تحقق في معركة الساحل الغربي سيفرض حلاً؟ هل يبقى اليمن أو يعود إلى ما كان عليه الحال قبل انقلاب 21 سبتمبر 2014؟
والسؤال الأخطر هل يبقى الكيان اليمني؟ وأي صيغة؟ هل يمكن العودة لمخرجات الحوار، والمرجعيات الثلاث: مبادرة التعاون الخليجي، ومخرجات الحوار، والقرارات الأممية، وبالأخص القرار (2216)؟ وهل يمكن أن تتوافق إرادة اليمنيين المفككة والمتصارعة على حل؟
ما مدى أثر حل سياسي في سوريا على الصراع الإقليمي في اليمن؟ وما مدى الترابط بين صفقة القرن التي طرحها ترامب، والصراع القائم في المنطقة؟
الحرب في اليمن ليست معزولة عن صفقة القرن وما يجري في الوطن العربي، وبالأخص في سوريا وفلسطين. أسئلة الحرب في اليمن كاثرة ومؤرقة؛ إذ يرى فيها البعض خلخلةً للنظام القديم كله، وإبراز إفلاس هذه القوى، وفضح عجزها عن الحكم، وأزمتها الشاملة. ويقيناً فإن الحرب كلها كانت رداً على ثورة الربيع العربي، وجر الاحتجاج السلمي إلى حرب مهلكة، وهي الميدان الوحيد الذي يتقنه ويتفوق فيه حكامنا. ورغم أن الدمار قد طال اليمن كلها إلا أن استمرار الحرب – وهو احتمال كبير – له آثار كارثية لن تقف عند تخوم تدمير الكيان اليمني كوطن، وإنما ستمتد آثارها إلى كل تفاصيل الحياة العامة لبلد فقير أمي ومريض ومشرد.
الحرب أبرزت تدني القيم الأخلاقية لدى كل أطراف الحرب. افتقاد الجانب الأخلاقي أو انخفاض مستواه كقراءة مائزة للأديب الشاعر والناشط السياسي محمد عبد الوهاب الشيباني، يؤكد على قيمة المعنى الحقيقي والأساس لمدى مشروعية الحرب وعدالتها؛ فالقيم الأخلاقية هي من أهم معاني مشروعية الحرب وعدالتها.
الصراع، كما يراه هراقليطس، أبو الأشياء جميعاً، أي أنه أداة التغيير في الحياة كلها، فهو يجعل من الأحرار عبيداً، و من العبيد رجالاً أحراراً.
الشاعر الجاهلي تبرم من المذاق المرير للحرب وشؤمها، وحرائقها المهلكة، وتناسلها المشؤوم. القيمة الأخلاقية الرائعة في القرآن الكريم أنها جعلت قتل الإنسان قتل للبشرية جمعاء.
بدأت الحرب بين شرعية وانقلاب، وسرعان ما تحولت إلى حرب مليشيات تتبارى في التهديم والتقتيل والمنابذة للقانون الإنساني الدولي، وجَرَّت معها صراعاً إقليمياً، وتحالفاً اثنا عشرياً هو الأكثر قدرة على الخراب، وعلى القتل الواصل للآلاف، وتشريد الملايين، وتجويع غالبية السكان، وقد أسهمت هذه الحرب في نشر الأوبئة الفتاكة، وتعطيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعسكرة الحياة.
أطراف الحرب كلها ضالعة في التدمير والتقتيل والتجويع والتشريد للإنسان اليمني. والمأساة أن دعاوى كل الأطراف داستها الحرب، ووضعت الأهداف الرئيسة لكل طرف بكل الوضوح والجلاء في الصدارة، وأصبح المتحاربون سواسية في مطلب الغلبة والتفرد والاستئثار. لقد أصبح الوطن والمواطن ضحية للتقاتل على السلطة ليس غير.
تبدأ الحرب كإبداع فارس مخضرم من فرسانها في الجاهلية والإسلام، وهو عمرو بن معدي كرب الزبيدي «فتية تسعى بزينتها لكل جهول»، لتتحول إلى «شمطاء مكروهة للشم والتقبيل».
في اليمن بدأت الحرب بين شرعية وتمرد على الشرعية، وشيئاً فشيئاً دخل الصراع الإقليمي الإيراني – السعودي الإماراتي على الخط، وتحول المقاتلون اليمنيون إلى أداوت لهذا الصراع.
استمرار الحرب وهمودها تارة، واشتعالها تارات، وانتقالها من منطقة لأخرى، وتوافقها على بقاء أكبر المدن اليمنية رهينة، والتنكيل بأبنائها هنا وهناك، كلها مظاهر للصراع الإقليمي المغذي للمعاني الكريهة لأطراف الحرب.
خطاب الكراهية، والحض على القتل والضغائن والأحقاد، وإثارة النعرات الجهوية والقبلية والسلالية والطائفية موجود ومدفون في أعماق البنى المتخلفة التقليدية. الحرب الأهلية والخارجية غذتها، وعملت على نشرها وتسويقها؛ فالأطراف الخارجية تدرك أنها لا تستطيع الاستمرار في إشعال الحرب من دون إشاعة هذه المعاني الكريهة الممزقة للنسيج المجتمعي، وللروح الوطنية والمجتمعية الممتدة لآلاف السنين.
استمرار الحرب وتصاعدها وامتدادها إلى غير منطقة يمنية، أدى إلى ضعف الأطراف الداخلية وارتهانها أكثر فأكثر للصراع الإقليمي. ومع استمرار الحرب واتساع رقعتها، ينتقل الثقل للأطراف الدولية الساعية بوعي وتخطيط لإعادة صياغة المنطقة العربية كلها، وتسيد وكيلها المعتمد إسرائيل، وتهويد فلسطين وابتلاعها، وتدمير المنطقة وكياناتها التابعة لها.
قانون «جاستا» في الأدراج ينتظر اللحظة المناسبة، وهو نفس ما عمل به الأمريكان مع القذافي بعد أن فك مشروعه النووي، وسلم معدات المفاعل، ودفع التعويضات المفروضة للأمريكان والبريطانيين من ثروات الشعب الليبي التي أهدرها في نزواته وطيشه.
الصراع العربي – الإيراني قومياً، والسني – الشيعي طائفياً موظفٌ أيضاً بمهارة ودهاء ضد الأمتين: العربية، والفارسية، والأنظمة الطائفية هنا وهناك، ضالعة ومدفوعة لهذا الصراع الكالح والمدمر لأمتين متآخيتين تشاركتا في بناء حضارة وثقافة وإبداع امتد لقرون عديدة. وهو – أي هذا الصراع – تزييف، أو هروب من صراع هذه الأنظمة الاستبدادية الدكتاتورية الشمولية ضد شعوبها بالأساس.
قرأت مقالة للدكتور عبد القادر الجنيد، موجهة إلى خادم الحرمين الشريفين عن أوضاع تعز، والحالة اليمنية عامة، وهي رسالة تفند العلاقة بين التحالف والشرعية والإصلاح، وتنتقد هذه العلاقة التي أطالت أمد الحرب، وأعاقت الحل السياسي، معترفاً بفساد الشرعية، وتلكؤ الإصلاح، ويشير – بعمق وصدق – إلى أن الشرعية والإصلاح بضاعة صالح نفسه.
معروف أن الدكتور الجنيد من أبرز القيادات الوطنية اليمنية في تعز، ودفع ثمناً باهظا لمناهضة الانقلاب «الصالحوثي»، وهو مستقل ومستنير داعم للشرعية والتحالف الاثنا عشري، ويقدم نقداً مريراً وصادقاً أقرب للنصيحة الحريصة.
وهناك مقالة ثانية للدكتور شادي صالح باصرة بعنوان «عقدة اليمن في أبجديات الحراك الجنوبي»، وهي نقد لخطاب الكراهية من أطراف جنوبية ضد كل ما هو شمالي كرد فعل غير واعٍ وغير وطني ضد حرب 94 تذكيها الحرب ونزعات ما قبل الوطنية، وبالأخص ضد أبناء تعز. ومقالة الدكتور شادي تمتح من مسار تاريخ يمني مديد، وتبرز خيبة وتهافت وتناقضات دعوى الجنوب العربي كبديل لتاريخ يمني ممتد لمئات السنين، وله جذور تمتد للآلاف.
نزعات الحروب والتفكيك، ومحاولة النيل من التاريخ، والكيانات الوطنية الحضارية نهج مدمر وخبيث.
تقرير الأزمات الدولية يجيب على الأسئلة الأخطر؛ فهو يرى أن ما يتعلق بمعركة الحديدة يمكن أن يكون أساس التسوية، ليس فقط للميناء، ولكن أيضاً للصراع الأوسع. لن يؤدي الفشل إلى تقويض مثل هذه المحادثات إلى تدمير المدينة فحسب، بل سيعقد المشهد، ولن يوقف الحرب. وأضاف: يمكن للحديدة أن ثبت أنها بداية النهاية لحرب اليمن، أو بداية مرحلة جديدة أكثر تدميراً.
إن الحل في اليمن ليس عسكرياً، بل سياسياً فقط، حتى مع استمرار الحرب بلا هوادة. ما سيحدث في الحديدة في الأيام القادمة يمكن أن يثبت صحة هذا المبدأ، والتزام المجتمع الدولي به من خلال العمل كجسر لإجراء المزيد من المفاوضات، أو تقويضه إذا تصاعد القتال، وتقلصت احتمالات السلام بشكل أكبر.
توفر الحديدةُ فرصة لمجلس الأمن الدولي لإثبات قدرته على متابعة الحلول التفاوضية للصراعات في وقت تتزايد فيه الشكوك حول فاعليته وتأثيره، وأنه يوفر للأطراف المتحاربة خروجاً يحفظ ماء الوجه، ويحمي مصالحها الحيوية بعد سنوات من تعرضها للخطر بشكل متهور.