في رحاب فكر العلامة ابراهيم بن علي الوزير*
بسم الله الرحمن الرحيم
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207 ]
“إذا مات العالِم ثُلِم في الإسلام ثلمةٌ لا يسدّها شيء”
اربع سنوات على رحيلَ المفكر الاسلامي الكبيرُ ابراهيم بن علي الوزير زارعاً في قلوب المحبّين أحزاناً جمعت كلَّ أحزانِ التاريخ…
رحلَ الأبُ القائدُ الفقيهُ المجدِّدُ المرشد والإنسان… وفي زمن أحوج َما نكونُ فيه إليه..
رحلَ والصلاةُ بين شفتيْه وذِكْرُ الله على لسانه وهمومُ الأمة في قلبه..
توقّف نَبْضُ هذا القلب على خمسةٍ وثمانين من الأعوام… قَضَاها جهاداً واجتهاداً وتجديداً وانفتاحاً والتزاماً بقضايا الأمة ومواجهةً لكلّ قوى الاستكبار والطغيان..
رحل السيّد والمفكر ابراهيم بن علي الوزيرُ وهمُّه الكبير، هو الإسلامُ فكراً وحركةً ومنهجاً والتزاماً في جميع مجالات الحياة مردّداً على الدوام: هذه هي كلُّ أُمنياتي، وليس عندي أُمنياتٌ شخصيّةٌ أو ذاتيّة، ولكنَّ أمنيتي الوحيدة التي عشتُ لها وعملتُ لأجلها هي أن أكونَ خادماً لله ولرسوله (ص) وللإسلام والمسلمين…
متى نتعلَّم قراءة تراث المفكر ابراهيم بن علي الوزير؟ ومتى ننطلق في معرفته بعيداً عن التَّبجيليات والعبارات العابرة بين الشّفاه، لنعرفه كما هو حقيقة: أحد كبار المفكّرين المسلمين عبر الزمن الإسلامي كله، لقد اعتمد الطَّريقة الموضوعيَّة العريقة والأكثر دقة في التخطيط والتنظيم للتفكير، وأكثر من كلّ ذلك، الطَّريقة المرتكزة على الحجَّة والبرهان، من أجل بناء مشروع حضاري إسلامي جديد لا يتوقَّف عند التّمنيات والأطلال، ولا يستغرق في الرؤى والمطارحات الفلسفيَّة والثقافية عبر تاريخ المسلمين بالمستوى الَّذي يجعله كالعربة التي تجر الحصان، ليس مشروعاً قابعاً في التنظير المبهم والمتوجّس من الواقعيَّة والمسؤوليَّة القيميَّة، وإنما حركة معرفيَّة اجتماعيَّة قائمة على تصورٍ إسلاميٍّ شاملٍ للدور والواقع والمستقبل؟
في البدء، وحتى نتمكَّن من الانطلاق في قراءة المفكر إبراهيم بن علي الوزير كما عاش، وبموضوعية وعدالة، يجب أن نقوم بمسح كامل لتراثه لنلقي الضوء على مسار فكر مركب وتراث موسوعي، يحتوي المسائل الحرجة والحوارات المحرجة والغنى المفاهيمي والثَّقافة الاستراتيجيَّة، ويجعلنا أمام كتلة ضخمة من الفكر الإسلامي المعاصر الكثيف والعميق والخلاق؟
بلا مواربة ولا كثير من العناء، لا يمكننا أن ندّعي استيعاب هذه الحركة الفكريَّة الإسلاميَّة الحديثة والمعاصرة بشموليَّتها وعمقها وآفاقها، لأنَّ فكر العلامة ابراهيم مركّز ومتشعّب، حيث يبقى حديثنا عن الانطلاق في قراءة لهذه التّجربة الفكريَّة الإسلاميَّة الغنيَّة من حيث المنهج والمفاهيم والمطارحات والمشاريع والرؤى، ليس هدفاً في حد ذاته، لأن القراءة الاستراتيجية لهذا التراث الفكري الإسلامي الفريد بحاجة إلى فرق بحث علمية متخصصة ومتمثلة لبطولة المفكر الرساليَّة الرائدة، حيث يبقى الهدف الرئيسي هو أن لا ننتظر حكماً إيجابياً أو سلبياً حول هذه الشخصية الإسلاميَّة الفذّة، لأنَّ أثرها الفكري والمفاهيمي والحركي في الواقع الإسلامي الحديث والمعاصر لوحده خير دليل على وجاهتها ومركزيتها في تجديد الوعي الإسلامي العام، ولا ريب في أنَّ الحكم مناط البحث والدراسة ووفق المعايير العلميَّة…
ومن هنا، تكون الغاية أن لا نشتغل لإصدار حكم ما حول فكر العلامة ابراهيم (رض)، ولكن أن نجتهد في اكتشاف الإطار المنهجي لاجتهاده الفكري، حتى نتمكَّن من التحاكي مع مطارحاته وآرائه، ونبلغ مستوى من النبوغ في استيعاب حيثيات مشاريعه الرساليَّة والاجتهادية في تطوير آليات تفعيلها واقعياً.
لقد كانت وصيّتُه الأساس حِفْظَ الإسلام وحِفْظَ الأمّة ووحدتَها، فآمن بأنّ الاستكبار لن تنكسر شوكتُه إلاّ بوحدة المسلمين وتكاتفهم..
وبعقله النيّر وروحه المشرقة كان أباً ومرشداً وناصحاً لكلّ الحركات الإسلامية الواعية في العالم العربي والإسلامي التي استهْدت في حركتها خطَّه وفكرَه ومنهجَ عمله…
وانطلاقاً من أصالته الإسلامية شكَّل مدرسةً في الحوار مع الآخر على قاعدة أنّ الحقيقةَ بنتُ الحوار فانْفتَحَ على الإنسان كلّه، وجسّد الحوارَ بحركتِه وسيرته وفكره بعيداً عن الشعارات الخالية من أيّ مضمونٍ واقعيّ.
ولأنّه عاشَ الإسلامَ وعياً في خطّ المسؤولية وحركةً في خطّ العدل، على الدوام، كانت قضايا العرب والمسلمين الكبرى من أولويات اهتماماته.. وشكّلتْ فلسطينُ حيزاً مهماً َ لحركتِهِ منذ رَيعان شبابِه وحتى الرمقِ الأخيرِ..
لقد شكّل المفكر الاسلامي الكبير ابراهيم بن علي الوزير علامةً فارقةً في حركة الدعوة الدينية التي التصقتْ بجمهور الأمة في آلامها وآمالها.. ورسمتْ لهذا الجمهور خطَّ الوعي في مواجهة التخلّف، وحملت معه مسؤولية بناء المستقبل… وتصدّت للغلو والخرافةِ والتكفير مستهديةً سيرةَ رسولِ الله (ص) وأهل بيتِه الأطهار، وصحابته الاخيار.
لقد وقف المفكر الاسلامي ابراهيم بن علي الوزير بكلِّ ورعٍ وتقوى في مواجهةِ الفتن بين المسلمين رافضاً أن يتآكل وجودُهم بِفِعل العصبياتِ المذْهبية الضيّقة، طالباً من علماء الأمّة الواعين من أفرادها أن يتّقوا الله في دماء الناس، معتبراً أنّ كلَّ مَنْ يُثيرُ فتنةً بين المسلمين ليمزِّق وحدتَهم ويفرِّق كلمتَهم هو خائنٌ لله ولرسوله وإنْ صامَ وصلّى..
حرص على الدوام على الحوار بين الاديان والثقافات على أن تكون العلاقات بين المسلمين والمسيحيين قائمةً على الكلمةِ السواء والتفاهم حول القضايا المشتركة، وتطويرِ العلاقاتِ بينهم انطلاقاً من المفاهيم الأخلاقية والإنسانية التي تساهم في رَفْع مستوى الإنسان على الصُّعُد كافّة، وارتكازاً إلى قيمة العدل في مواجهة الظلم كلّه.
وأمّا منهجيتُه الحركيّةُ والرساليّةُ وحركتُه الفقهيّة والعقائديّة، فإنّه انطلق فيها من القرآن الكريم كأساس… وقد فَهِمَ القرآنَ الكريم على أنّه كتابُ الحياة الذي لا يَفهمُه إلاّ الحركيون..
امتاز بتواضعه وإنسانيّته وخُلُقه الرساليّ الرفيع وقد اتّسع قلبُه للمحبّين وغير المحبّين مخاطباً الجميع: “أحبّوا بعضَكُم بعضاً، إنّ المحبّة هي التي تُبدع وتُؤصّل وتنتج… تَعَالوْا إلى المحبّة بعيداً عن الشخصانية والمناطقية والحزبية والطائفية… تعالوا كي نلتقي على الله بدلاً من أن نختلف باسم الله”… وهو بهذا أفرغ قلبَه من كلّ حقد وغِلٍّ على أيّ من الناس، مردّداً “أنّ الحياةَ لا تتحمّلُ الحقدَ فالحقدُ موتٌ والمحبّةُ حياة”…
ولقناعته بالعمل المؤسّسي آمن بأنّ وجود المؤسّسات هو المدماك الحضاريّ الأساسيّ لنهضة كلِّ أمّة ومجتمع.. فكان مَلاذاً لليتيم وللمحتاج وكانت دارُكَ أيّها الراحل العظيم مقصداً لكلِّ روّاد الفكر وطالبي الحاجات، فلطالما لهج لسانُك بحبّ الناس.
كان الفقراء والمستضعفون الأقربَ إلى قلبك، ولقد وجدتَ في الشباب أَمَلاً واعداً إذا ما تحصّنوا بسلاحِ الثقافة والفكر..
يا لفقيد سعة العلم، والمثابرة، على المطالعة، ومثال العالم الفقيه، وصاحب الأدب الرفيع…
يا مفكراً مجدداً، بالانفتاح على كل آخر، بالتسلح بالاعتدال، والتمسك بمبادئ الحوار!
يا أحد أعمدة الحكمة.. عباءتك التي تجلببت بها حضنت مؤمنين وأيتاماً ومحتاجين الى زاد اليد، وأكثر، الى زاد النفس!
لقد أوجدت مساحة تصالحيّة بين الدين والدنيا عبرت بها الطوائف والمذاهب… وغدوت نصير الانسان والحقّ والعدالة والتحابّ والتآخي… الداعية الى ما يجمع وينبذ ما يفرِّق.
دعوت الي الشراكة الحقيقية التي تقوم على التفاهم والقناعة واعتماد التشاور والتشبّث بالوحدة للتغلّب على كل تشرذم وانقسام…
وقبل كل هذه الالقاب والصفات كنت الأب الرحيم، والمرشد الحكيم، والسند القوي لكل ضعيف…
ودعوتنا ان نكون عشاق لقاء مع الله، ومن أهل الصبر والعزم… وتجشَّمت العذاب والامراض وارتضيتها محبة بالله.
مسيرة حافلة بالجهاد لإعلاء كلمة الحق وشؤون الدين وعزة الوطن.
غدوت بعصاميتك، وعشت ايمانك وتقواك صلاتك ابتهالات لم تفارق شفتيك والقلب، وذِكرُ الله على لسانك وفي الاعماق، وهموم الأمّة شاغلك الدائم…
صبوت ان ترى الاسلام اكثر تسامحاً وأكثر اعترافاً بالآخر، رفعت من مستوى المرأة فهي ندّ للرجل، ملأت الزمان إنسانية وأغنيتها بأي فكر جديد!
ومن مشاريعك رد الاسلام الى الحوار العالمي الثقافي المعاصر…
أحببناك أديباً، فقيهاً، واعظاً، محاوراً بلغة المنطق والعقل.
من مؤلفاتك ودراساتك التي بلغت الخمسين نذكر: “على مشارف القرن الخامس عشر”، “بدلاً من التيه”، “الحصاد المر”، “لكي لا نمضي في الظلام”، “الامام زيد جهاد حق دائم”، “الامام الشافعي” و”الطائفيه آخر ورقة للعالين في الارض” و”شهادتان هما منهج حياة” و”البوسنة والهرسك” وغيرها من المؤلفات التي اثريت بها المكتبة الاسلامية.
لقد أغنيت المكتبات العربية والاسلامية بما يبني وينشر الوعي الاسلامي فضلاً عن تدعيم وترسيخ قيم الاعتدال والعقلانية وترسيخ الحوار بين الحضارات والاديان.
لقد سَكَنَ هذا القلبُ الذي ملأ الدنيا إسلاماً حركياً ووعياً رسالياً وإنسانية فاضت حبّاً وخيراً حتى النَّفَس الأخير…
يا سيّدَنا، لقد ارتاحَ هذا الجسدُ وهو يتطلَّعُ إلى تحقيقِ الكثيرِ من الآمال والطموحاتِ على مستوى بناءِ حاضرِ الأمةِ ومستقبلِها..
رحلتَ عنّا، وقد تكسّرت عند قدميْك كلُّ المؤامرات والتهديدات وحملاتِ التشويهِ ومحاولاتِ الاغتيال المادّي والمعنوي، وبقيت صافيَ العقل والقلب والروح صفاء عين الشمس…
يا أبا الهادي، رحلت وسيبقى اسمُك محفوراً في وجدان الأمة، وستبقى حاضراً في فكرك ونهجِك في حياة أجيالنا حاضراً ومستقبلاً..
رحل ابراهيمُ الجسد، وسيبقى ابراهيم الروحَ والفِكْرَ والخطّ… وستُكمل الأمّة التي أحبّها وأتعبَ نفسه لأجلها، مسيرة الوعي التي خطّها مشروعاً بِعَرَقِ سنيّ حياته…
أيها الأخوة.. إنّنا إذ نعزّي الأمّة كلَّها برحيل هذا العلم ّ الكبير، وهذه القامةِ العلمية والفكرية والرسالية الرّائدة، نعاهدُ اللهَ، ونعاهدُك يا مولاي، أن نستكمل مَسيرةَ الوَعْي والتجديد التي أَرْسَيْتَ أصولَها وقواعدَها، وأن نحفظ وصيّتك الغالية في العمل على حِياطةِ الإسلام، ووحدةِ الأمةِ، وإنسانيّةِ الرّسالة. رحمات الله على الروح الزكيَّة الطاهرة الآمنة البارّة.
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}]الفجر: 27-30]
30/5/2018م
* ورقة قدمت في فعالية احياء الذكرى الرابعة لرحيل المفكر الإسلامي إبراهيم بن علي الوزير.. التي اقامها اتحاد القوى الشعبية في امسية رمضانية يوم الاربعاء الماضي 14 رمضان 1439هـ.