الانهيار
هل ما نشاهده ونعيشه حدّ التخمة هو الانهيار المديد كتسمية حازم صاغية؟ أو هو الفوضى الخلاقة كاصطلاح الإدارة الأمريكية؟ أو هو مشهد من مشاهد القيامة في القرآن كإبداع سيد قطب؟ أو هو عبث مسرح اللا معقول؟ أو فصل من فصول الكوميديا الإلهية لدانتي؟
ما يحدث في الوطن العربي من الماء إلى الماء، لا ينبغي أن يقر�قراءة عابرة؛ فهذه الأحداث الكارثية تقرر مصائر أوطاننا لعشرات وربما لمئات السنين، دون إرادة أمتنا أو شعوبها المغيّبة. سكوتنا المخذول على حكم الفساد والاستبداد بَلَّد ضمائرنا وأوردنا المهالك، وترك حكّامنا الطغاة الصغار يدمرون الماضي والحاضر، ويشرئبون للعبث بالمستقبل؛ متحالفين مع القوى الكبرى.
لكي نقرأ الكارثة بأبعادها ودلالاتها، لا بد من استرجاع «الربيع العربي»؛ فهذه الاحتجاجات المدنية التي باغتت الحكام، وهم في التهيئة لأعراس التوريث، ونقل الميراث من الآباء إلى الأبناء، تداهمهم صحوة الأمة. يشعل واحد من عامة الشعب في تونس جسده؛ فتشتعل المنطقة كلها. يتساقط الرؤساء العتاة كأوراق الخريف، ويتدفق النفط والمال والسلاح؛ لإغراق الأمة في حرب تدمر الكيانات العربية على رؤوس شعوبها، مسنودين بالقوى العظمى الطرف الأساس والوحيد المخول لرسم خارطة المنطقة بدون مشاركة هؤلاء الممولين، وقد تطالهم الرسمة الجديدة الأسوأ والأشمل من سايكس بيكو.سكوتنا المخذول على حكم الفساد والاستبداد بَلَّد ضمائرنا وأوردنا المهالك
الشرعيتان اللتان حكمتا الوطن العربي طوال العقود الماضية، سندهما الأساس: الغلبة، والقوة. رياح «الربيع العربي» بشرّت بالسلم كوسيلة وحيدة للفوز برضا الأمة واختيارها، وليس الانقلاب أو التوريث، وقد جمعت اليمن النموذجين.
تاريخ الأمة العربية كلها سواء في مواجهة القوى التقليدية الحاكمة، أو الاستعمار، بدأت جلها باحتجاجات مدنية سلمية عبر المظاهرات والإضرابات وحتى «الإرضحالات» كحالة المتوكلية اليمنية، التي لم تعرف أساليب الاحتجاجات العصرية في مراحلها الأولى على الأقل، واعتبر الشاعر الكبير محمد محمود الزبيري، قصائده «إماميات» نوعاً من استعطاف الإمامة؛ لإجراء بعض الإصلاحات؛ مما يدلل على مدى تخلّف الإمامة وفداحة تزمتها و جورها.
بدأ كفاح المعارضة السياسية سلمياً ومدنياً متواضعاً إلى حد بعيد؛ فعالم الدين عبد الله العيزري، وهو موالٍ للإمام يحيى، يكتب إليه رسالة تنتقد أساليب جور حكمه، وفساد الحكام، وقسوة الجباية. وتمثل رسالة العيزري للإمام أول «مانفستو» للدعوة للإصلاح في الحكم المتوكلي في بداية حكمه. ولعبت النقابات العمالية في عدن دوراً ريادياً في قيادة النضال الحقوقي والمطلبي والكفاح السلمي الديمقراطي، وأسهمت في تأسيس المؤتمر العمالي 1957، وبقراءة الخط العام للحركة الوطنية يلاحظ أن العمال والطلاب هم من أسّس للأحزاب السياسية، وأسهمت الصحافة العدنية للتأسيس للمطالب السياسية وللحداثة والتغيير والآداب والفنون.
وفي اليمن يلاحظ أن الأغنية لعبت دوراً رياديا في الوحدة الوطنية، وفي خلق مزاج وحدوي عام، كما أن الشعر له حضور كبير في خلق الوعي والمزاج المعادي للرجعية والاستعمار، وللشعر والشعراء والأدب بشكل عام، وللأغنية الفنية والوطنية دور مذهل في رفع الوعي والذائقة وقابلية الحداثة، وكسر تابو التزمت والجمود، ولعل هذا مرده إلى عمق وطبيعة التخلف و حيوة الشعب اليمني.
تعتبر حركة 48 حركة دستورية بكل المعاني، وكانت حركة سلمية شابها مقتل الإمام يحيى؛ فهو كعب أخيل في حركة إصلاحية دستورية سن أحرارها، وهم علماء دين قضاة وأدباء وساسة وعسكريون وشيوخ قبائل، في صياغة دستور سمّوه «الميثاق المقدس»، واعتبرت حركتهم حركة دستورية، تهدف لبناء سلطة مدنية، يكون الإمام فيها رمزاً روحياً في سلطة مدنية، تختار الأمة سلطتها التشريعية عبر المزاوجة بين التعيين والانتخاب، وتقوم على الفصل بين السلطات الثلاث، وحرمان الأمراء من الاتجار.
قتل الإمام يحيى، وما أعقبه من اعتقالات وأحكام إعدام بحق الأحرار الدستوريين، وضع المتوكلية اليمنية – تسمية الشمال اليمني حينها- أمام صعوبة -إن لم يكن استحالة- التغيير إلا بالقوة؛ فلم تكن ثورة سبتمبر 62 قطعاً لسياق تطور سياسي… كما كان الحال في مصر وسوريا مثلاً؛ فالمتوكلية سلطة «خرافية»، تنتمي إلى القرون الوسطى؛ فلا يوجد شيء اسمه السلطات الثلاث؛ فالإمام رجل الديني المقدّس، يحكم بقوة جباية، تعتمد بالأساس على ولاء القبائل الأكثر تخلفاً وبداوة؛ وهي وإن كانت مظلومة إلا أنها أداة ظلم أيضاً ضد المدن والمناطق الزراعية، وهي زعامة روحية؛ فلا تعليم حديث، ولا مستشفيات، ويصل الفقر خصوصاً في الريف، في بلد كله ريف، بما في ذلك مدنه الكبرى: تعز، الحديدة، صنعاء؛ فسكانها حينها لا يتجاوز المئة ألف، في حين تتجاوز القرى ما يقرب من مئة ألف قرية، وبعض القرى تسكنها أسرة أو عدة أسر. في هذا الواقع المذرور والمنثور تعتقد الإمامة أن شرعيتها إلهية، لا علاقة للناس بها إلا عبر الولاء والطاعة، ثم إن البلد كله معزول عن العصر كله، وعن بعضه في عهد الإمام يحيى وشطراً من حكم ابنه أحمد، وتحديداً في الأربعينات وشطراً من الخمسينات.
كانت مفردة عصري أو دستوري يعني الزندقة أو المروق من الدين. وقد اتهم «اليمنيون الأحرار»، وهم الحركة الوطنية الأم، والمؤسّسون لدعوات الإصلاح والانفتاح، بتهم «الدسترة» و«العصرنة»، ونٌكّل بهم.كانت مفردة عصري أو دستوري يعني الزندقة أو المروق من الدين
في المتوكلية اليمنية لم يكن هناك سياق للتطور السياسي؛ فإمكاناته جد محدودة بل منعدمة، ولا يراهن عليها . أما في الجنوب، وفي ظل الاحتلال، وبعد تحويل عدن إلى مستعمرة 1937، وبداية تأسيس العمل النقابي إبان الحرب العالمية الثانية – تم تأسيس الصحافة العدنية مطلع الأربعينات، والأحزاب السياسية والحديثة، ثم انتخابات المجلس التشريعي 1955، و1956، والثالث 59، ورفض مشاركة أبناء الشمال في هذه الانتخابات، وهم قوة أساسية في المجتمع العدني، وفي الحياة السياسية والأدبية والنقابية والثقافية، ثم الوعود المتكررة بمنح الاستقلال، والأهم قيام ثورة السادس عشر من سبتمبر 62 في الشمال، والدعم القومي المصري لدعوات الاستقلال والرفض لخطط بريطانيا بإنشاء اتحاد الجنوب العربي الذي رفضته مختلف القوى السياسية ما عدا السلاطين والوزراء وبعض الأحزاب الصغيرة الموالية.
اليمن الآن على أعتاب الذكرى الـ55 للاحتفال بيوم الـ26 من سبتمبر اليوم الوطني الذي نقل اليمن إلى أنوار القرن الواحد والعشرين، وفتح الباب أمام تحقيق الاستقلال الوطني في جنوب الوطن.
الثورة اليمنية سبتمبر 62، والرابع عشر من أكتوبر 63، كانت الرد الوطني على النظام شبه الإقطاعي الكهنوتي القائم على شرعية «البطنين»، أو ولي الأمر، أو أهل الحل والعقد، بدلاً من شرعية الشعب أو الأمة، ورداً على الاستعمار البريطاني في الجنوب، وبمستوى معيّن رداً على انفصال سوريا؛ فأين وصل الحال اليوم في اليمن المفكّك والمحارب والمتحارب والذي يدمر كيانه، ويقتل أبناؤه، ويشهد محاولات قيام أكثر من كيان بين محاولات العودة للولاية، ورفض كيان اتحادي ديمقراطي يتشارك في صنعه كل اليمنيين في الشمال والجنوب بندية وتكافؤ وباختيارهم الحر، وبين من يريد العودة للجنوب العربي، وبين شرعية ضعيفة تستند إلى قوى لا تريد اليمن واليمنيين إلاملحقاً، ومجموعة عمالة فائضة، ومناطق مفككة وهامشية؟
الأمة العربية في مراكز التمدّن والتحضر تعيش حالة التحارب والتفكك والتدمير. مستقبل سوريا جلي وواضح، يتوزعها أطراف الحرب الفعليين، وتندحر القوى الإرهابية الكاثرة التي استخدمها النظام، وأطراف الحرب الممولون، وهو ما تشهده العراق وليبيا واليمن.
والأسئلة هي: هل تبقى سردية الأمة العربية التي تكوّنت عبر مئات السنين؟ وبأي صيغة وبأي معنى؟ ما مصير الكيانات المنهارة التي أعلنت الحرب ضداً على شعوبها؟ ثم أيضاً ما هو مصير الدول الممولة؟ هل يقف طوفان «سايكس بيكو» الجديد عند تخوم بلاد الشام؟ أم يمتد لغمر الأرض العربية من الماء إلى الماء؟!