نافذة على كتاب

الديمقراطية كائن حي.. قراءة في كتاب المفكر السياسي الأستاذ القاسم بن علي الوزير في الديمقراطية وعلاقتها بواقعنا المعاصر

 الديمقراطية كائن حي.. قراءة في كتاب المفكر السياسي الأستاذ القاسم بن علي الوزير في الديمقراطية وعلاقتها بواقعنا المعاصر

بقلم/إبراهيم الحبيشي

الجمعة 12 ديسمبر 2025-

في نص عميق ومتماسك، يقدم المفكر السياسي الاستاذ القاسم بن علي الوزير في كتابه في الديمقراطية رؤيةً ثاقبة لها لا بوصفها مجرد نظام سياسي، بل ككائن حي نابع من توازن القوى في المجتمع، ونتاج لتطور تاريخي طويل ومضن. ولم ينشغل الاستاذ الوزير بالتعريفات الجافة أو الفلسفية المجردة، بل يغوص في الواقع المشهود للديمقراطية كما تعيش وتتنفس في المجتمعات التي أرسَت قواعدها.

يرى المفكر السياسي القاسم بن علي الوزير أن جوهر الديمقراطية يكمن في ذلك التوازن الدقيق للقوى الاجتماعية، الذي هو ثمرة كفاح مرير ضد اختلالات كانت تكرس الظلم وتدفع نحو الصراع الدامي والمؤامرات. هذا التوازن لم يلغِ الاختلاف في الرأي أو المصالح، بل نظّمه وحوّله من صراع عنيف يستهدف الإلغاء إلى تنافس سلمي يحفظ للجميع حقهم في الوجود والمشاركة. لم يعد الصراع يعتمد على منطق القوة الغاشمة، بل على قوة المنطق والإقناع، مدعوماً بمؤسسات تحول دون طغيان أي قوة على أخرى.

ويشدد في كتابه على أن هذا التحوّل لم يكن ليكون لولا تغير مفهوم “القوة” نفسه. ففي المجتمع الديمقراطي، لم تعد القوة هي قوة الإكراه والعنف، بل أصبحت قوة القانون المدعوم بإرادة عامة نابعة من ثقافة مجتمعية ترسخت عبر الزمن. القوة هنا هي قدرة الأغلبية على الإقناع، مقرونة باعترافها بحق الأقلية ليس فقط في ممارسة وجودها، بل وفي السعي لكسب تأييد الأغلبية. وهكذا تصبح المعارضة ركيزة أساسية، فهي “المعادل الموضوعي للسلطة”، وضمانة حقيقية ضد الاستبداد.

ولا يفصل الاستاذ القاسم الوزير بين الديمقراطية كمنظومة سياسية وبين أسسها المجتمعية والمعرفية. فالديمقراطية السياسية تقوم على ديمقراطية اجتماعية، وهذه بدورها تقوم على ثقافة مجتمعية تنبثق من قيم معرفية عميقة. يأخذنا هنا إلى مثالين جوهريين: الحرية والمساواة. لكنه لا يقتصر على فهمهما القانوني السطحي، بل يغوص في أعماقهما المعرفية. فالحرية، في أساسها، هي حرية الفهم والاختيار القائمة على المعرفة، مما ينتج تعدداً في الرؤى ويحول دون احتكار الحقيقة. وكذلك المساواة، فهي تعني حق الجميع في النظر إلى حقائق الوجود بحرية، مما يضمن الوصول المختلف لتلك الحقائق ويمنع أي ادعاء بالامتلاك المطلق لها. هذه “النسبية” المنضبطة هي التي تتيح التعددية الفكرية والسياسية والاجتماعية، وهي الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية.

كما ويحذر من مغبة المبالغة في النسبية إلى درجة إخضاع القيم المطلقة لها، مما يؤدي إلى الاضطراب الأخلاقي والاجتماعي، وهو داء تعانيه الحضارة المعاصرة. وينبه إلى خطورة هذا الشطط خاصة على المجتمعات الساعية للديمقراطية، حيث يخطئ بعض المثقفين في تبني هذا الجانب المريض فتفقد بوصلة الطريق الصحيح إلى الديمقراطية.

ويخصص المفكر السياسي الاستاذ القاسم الوزير حيزاً مهماً لدور “المجتمع المدني” كحارس لهذا التوازن ومانع لطغيان السلطة. وهو ينتقد سوء الفهم الشائع للمصطلح، خاصة في العالم العربي، حيث يُختزل أحياناً إلى مجرد فصل الدين عن الدولة، في حين أن جوهره الوظيفي هو تلك المؤسسات الوسيطة التي تقع بين الفرد والدولة، والمدافعة عن حقوق المجتمع أمام توسع الدولة الطبيعي. ويؤكد أن فعالية هذه المؤسسات لا تكمن في وجودها الشكلي فقط، بل في “روح” تحكمها، ألا وهي سيادة القانون الحقيقية. فالقانون هو مصدر قوة المجتمع المدني في مواجهة سلطة الدولة، وهو الضامن لتوازن القوى.

ثم ينتقل الكتاب إلى الواقع العربي والإسلامي، مشيراً بمرارة إلى أننا لا نعيش في “مجتمعات مدنية” بالمعنى الحقيقي، ليس لانعدام القوانين، بل لأن السيادة ليست للقانون، بل للعصبيات بمختلف أشكالها (القبلية، الحزبية، العسكرية، المذهبية) التي تحكم القانون وتُحِيكه وفق مصالحها، مما يعني غياب العقد الاجتماعي الحقيقي. وهو يربط هذه الحالة بغياب سيادة الشريعة التي حلت محلها قوة “الطاغوت” بمفهوم التراث الإسلامي.

وفي ختام الكتاب، يؤكد الاستاذ الوزير أن الديمقراطية ليست نظاماً مثالياً خالياً من العيوب، بل هي كائن حي ينمو بإيجابياته وسلبياته، ويتميز بقدرته على المراجعة المستمرة وتصحيح أخطائه بدقة لأنها تقوم على الحرية، التي هي روحها التي لا تنفصل. والقادر على نقد علله هو السليم الذي يطمح للكمال، وليس المريض المنهوك الذي يهرب من العلاج بمهاجمة أعراض جانبية.

هكذا يقدم لنا المفكر السياسي القاسم بن علي الوزير إطاراً شاملاً لفهم الديمقراطية كعملية حية متطورة، مرهونة بتوازن القوى وسيادة القانون وثقافة الحرية والتعدد. وقراءته تظل مرآة عاكسة لواقعنا المأزوم، حيث لا تزال العصبيات تطغى على القانون، ولا يزال التوازن الاجتماعي غائباً، مما يحول دون ولوجنا الحقيقي إلى فضاء الديمقراطية الذي يتنفس فيه المجتمع حرية وعدالة.

 اقرأ أيضا: قراءة تحليلية في مقال في العصبية الحزبية للأستاذ المفكر السياسي القاسم بن علي الوزير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى